‘عناقيد النور’ .. بورتريهات روائية لسيرة عظماء (هيثم صالح)

 

هيثم صالح
 

واحد وعشرون "بورتريه"، للروائي الراحل خيري شلبي رصدها كتابه "عناقيد النور"، والصادر حديثا عن دار "العين" للنشر والتوزيع، بالقاهرة، راصدًا من خلاله فترات متباعدة تتناول شخصيات عدة. الفنان التشكيلي حسين بيكار قال عن الكتاب: "صححت لي – (يقصد خيري شلبي) – مفهوماً خاطئًا كان غائرًا في أعماقي حتى النخاع، وهو أن البورتريه لا يتحقق إلا رسمًا أو نحتًا، ولكنك نسفت لي هذا المعتقد الخاطئ في لحظة عندما رأيتك ترسم بالكلمة وكأنك ممسك بريشة بارعة تنقل أدق التفاصيل التشريحية والنفسية، وتغوص بها في أعمق الأعماق لتبرز أدق المشاعر التي يحتكرها الباطن ويعتبرها من ممتلكاته الخاصة".
وأول من يطالع قارئ بورتريهات شلبي، هو عالم الجيولوحيا المصري د. رشدي سعيد، الذي عانى التغريب عن جميع جوائز وحفلات التكريم في بلده، نظرًا إلى أن الفائزين دائما – بحسب شلبي – ليسوا الفرسان.. ويعمد المؤلف إلى وصف وجه سعيد والذي يشبه دلتا النيل؛ فالقاهرة على ذقنه نقطة التقاء فرعي النهر على هيئة فكين ناعمين، والحنك الواسع يعكس روح الشغف بالحياة.
ويروي شلبي موقفًا للدكتور رشدي، حين زار المتحف الإنجليزي لأول مرة؛ فلاحظ أن سيدة بريطانية تحملق فيه بذهول، ثم تحملق في تمثال فرعوني معروض أمامها؛ لتسأله في النهاية عن وطنه الأصلي، وتزول عنها دهشتها حين تعلم أنه مصري.
ومن المواقف أيضًا أنه أثناء أزمة سبتمبر الساداتية الشهيرة التي وضعته ضمن المعتقلين، فيما هو في أميركا يعيد البحث عن نفسه، إذا بالخبر يحاصره في المنفى حصارًا قاسيًا، موضحًا كيف اضطر رشدي لأن يبيع مكتبته وهي أثمن شيء في حياته لفريق بحث ألماني, لكي يسدد نفقات معيشته باهظة التكاليف.
أما المعماري العالمي حسن فتحي، فيصفه شلبي بقوله: "حريف كقرن الفلفل، سلس كانسياب الماء، عريق كصخور المقطم، غضوب كقط بري، فانوس عتيق قديم لكنه مضاء بالكهرباء"، ويروي سيرة فتحي الذاتية، ساردًا من خلالها كيف رفض النموذج الغربي في الهندسة المعمارية، ليس من قبيل التعصب لثقافته القومية، بل لرفضه فكرة: "أن المعمار جزء لا يتجزأ من البيئة"، واقتناعه بأن العمارة الأوروبية لا تتناسب مع طبيعة البيئة المحلية، فضلًا عن أنها غير إنسانية بالمرة.
وينقل شلبي رأي فتحي في "العمارة الأوروبية" التي انتشرت في البلاد العربية، قائلًا: إن ذلك ليس دليلًا على ملاءمتها لنا، بقدر ما هو دليل على انسحاقنا أمام النموذج الغربي في الثقافة بوجه عام، رغم أن العمارة العربية الإسلامية المنبثقة من ثقافتنا القومية ليست تكلفنا فوق ما نطيق.
وأفرد شلبي عشر صفحات، ليرسم فيها بورتريه لشخص جرجي زيدان، والتي لم يغفل خلالها أن يعبر عن إعجابه بفكر زيدان المستنير، في مجابهة الأطماع الأجنبية والنوايا المبيتة ضد العرب؛ حيث أسس مع ولديه إميل وشكري "دار الهلال" بفروعها: المجلة والروايات وكتاب الهلال؛ لتخدم فن الرواية، وتكرس له في الثقافة العربية الحديثة، كفن له تأثير على جماهير القراء يمكن عن طريقه تحقيق ما نصبو إليه من حضارة وتقدم، لذلك فزيدان – برأي شلبي – يعد مؤسس الرواية التاريخية بمعناها الأدبي الحديث.
"الوجداني جبران".. هذا ما أطلقه شلبي على "جبران خليل جبران"، والذي يقول عنه: إنه عبقرية فذة قلما تكررت في زمن أمة من الأمم".. مركزًا على علاقة جبران بمي زيادة، واللذين يجد فيهما تشابهًا نفسيًا واحدًا، فكلاهما رومانسي حتى النخاع، وينطوي على نفس شديدة الحساسية تستجيب لكل الفنون، ولشدة ائتلاف روحيهما كان جبران هو الوحيد الذي خاطب مي كأنثى، وعرف كيف يدخل إلى قلبها، وبموت جبران في سن مبكرة اهتز كيان مي وفقدت توازنها النفسي تمامًا.
أما الأسطورة، سعد زغلول قائد ثورة 1919، فيصفه المؤلف بأن مقومات الزعامة ولدت معه، فقد كان خياله خصبًا، وثقافته أكثر عمقًا واتساعًا، ووجدانه مفتوحًا على الوجدان الشعبي العام؛ فاحتل مكانة كبيرة بقلوب الجماهير العريضة، خاصة بعدما نجح في تأليف شتات الرأي العام إلى ما يشبه العائلة الواحدة.
ويختتم شلبي بورتريه زغلول – تعليقًا على كتاباته وخطاباته – بقوله: إن رجلًا تزدحم حياته بجلائل الأمور، ورغم ذلك يجد وقتًا ليكتب مثل هذا الكلام الحميم، يكون رجلًا عظيمًا بمعني الكلمة لأنه بخلوه بمذكراته كل يوم يعني أنه في مواجهة يومية مع النفس، ومحاكمة لها حقًا". (خدمة وكالة الصحافة العربية)


ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى