عنــف المدينــة الحــرة (وائل عبد الفتاح)
وائل عبد الفتاح
1
بورسعيد مدينة يسكنها شياطين.
تبدو القصة مرعبة لكنها صالحة للاستخدام في كتالوج ترويض الشعوب. حيث العالم رمادي غائم، تديره سلطة لا يعرف سر نجاحها في حكم مدن تختزن طبقاتها حكايات وتواريخ تخرج اشباحها لتكلم اهل كل مدينة في حالة فلتان جماعي من منطق شعوب الملائكة.
بورسعيد النائمة على بحر بارود لم تفك اغلفته يوم قرر عبد الناصر ان يدافع الشعب عن مدينته، لم يتحمل احد الفكرة، وسحبت الاسلحة، بعد أن أخذ الشطارحصتهم واخفوها تحت الارض.
العنف نائم اذن تحت التربة الخصبة، الهويات معلقة لمدينة كل اهلها غرباء، مهاجرون، يلعبون العاباً تغير شكل المدينة كل حقبة سنوات، فمن مدينة الممر الرومانتيكي بين اطراف العالم حين كانت تديره شركة اكبر من دولة، ثم جاءت دولة التحرر لتعلن هويتها بتأميم الشركة، المدينة ملعب لحرب هويات اكبر منها، والبورسعيدي عابر، لا يجد هويته الشخصية الا في قميص فريق «المصري» …وحده القميص يمنح المعنى للإقامة في مدينة تلعب على ارضها كل استعراضات السلطة.
بورسعيدة الموعودة بالتراجيديات الكبرى اختاروها لتكون موقع المذبحة الاولى للاولتراس، وكان من الطبيعي ان تكون موقع الثانية ليقتل العشرات في الشوارع ويرتاح خاطر الاولتراس العنيف، وهم يرقصون على خيال تعليق القتلة/الضحايا على المشانق.
ومن مشروع قطع الصحراء من منتصفها لتتحول قرية «الفرما..» إلى مدينة العالم وتصبح مدينة تحمل اسم حاكمها، إلى ملعب المذابح بعد ثورة الشعب، تفلت بورسعيد من صورها لتحيا بين العنف واللعب….تقتل الشرطة المجنونة في الصباح المشاركين في الجنازات..قتلى كانوا يودعون قتلى….وفي المساء يكسر الناس قرار حظر التجوال بكرنفال جماعي…لا يخلو من الرقص والغناء والشتائم….وطبعاً كرة القدم.
2
«بيت العفاريت»
هذا هو المكان الذي كانت تدفن فيه جثث شهداء 1956 …وظل لسنوات طويلة لا يسكنه احد…حتى أتى من اشتراه وأقام بدلا منه عمارة كبيرة …هنا يمكن استخدام نظرية الرموز في تفسير حالة البيت، ليقال مثلا إن الشهداء تحولوا في بورسعيد إلى اشباح يراقبون ما يحدث في المدينة وظلوا موجودين في المركز حتى اتى العصر الكاسح ليحولهم إلى انقاض وينتصر عليهم نهائياً.
دراما حفر القنال تبقى منها بيت آخر اسماه البورسعيدية «البيت الحديد» لأنه كان معجزة معمارية فريدة..كل أساساته وأعمدته من الحديد بني عام 1884 بتصميم مقارب لبرج إيفل في باريس..وفي الحرب العالمية الاولى استولت عليه القوات البريطانية وأقامت على أسطحه مدافع مضادة للطائرات ومحطة راديو لاسلكي، ثم تحول إلى فندق ومطعم وبار تقصده نخبة بورسعيد من الثلاثينيات إلى الخمسينيات …وفي الستينيات تحول «البيت الحديد» إلى مبنى شبه مهجور …حتى اشتراه شخص بعد يونيو 1967 كما حكوا لي…والمالك الجديد قام بفك البيت قطعة قطعة..وشحنه خارج مصر..ولا يعرف أحد من اهل المدينة اين مصيره.
ظل مصير «البيت الحديد» وغيره من التحف المعمارية المتناثرة بين شوارع الحي الإفرنجي علامة على نهاية عصر اكتمل فيه التصور الفرنسي (الاوروبي) لبورسعيد…وبداية عصر لم يكتمل ابداً..يبني فيه ابناء المدينة مدينتهم بتصوراتهم وعلى هواهم بعد ان حرروها على المستوى العسكري والسياسي.
الآن بورسعيد القديمة بكل صراعاتها تكاد تختفي…تغرق.
بورسعيد التي وصفتها الأناشيد الوطنية أنها «المدينة الصامدة..» أصبحت في العشرين سنة الأخيرة مدينة «صامتة» كأنها في عزاء مفتوح ومستمر.
لم يعد الصراع بين العرب والإفرنج..ولا بين زمن المستعمرات القديمة وثورات التحرر الوطني.. ولا حتى بين «المستفيدين» من بقاء الخواجات و«لصوص» الانتصارات الوطنية…الصراع أصبح من اجل البقاء.
3
بورسعيد بالنسبة لنا في منتصف السبعينيات هي مدينة اللبان (العلكة) المسكر.
نشم رائحة نكهة الموز والنعناع المميزة لهذا النوع من اللبان منذ اللحظة الاولى التي نهبط فيها من اتوبيس رحلات المدارس وكانت بضائع بورسعيد بالأغلفة البلاستيكية الملونة هي أول أشكال التعدد بعد فترات تعودت فيها نظرتنا على اللون الواحد في الفكر والسياسة..وفي البضائع.
بورسعيد كانت «ثورة» عرفتنا على انواع من الشيكولاتة والشامبو والملابس المستوردة.. والعائد من «المدينة الحرة» يحمل لأهله الغنائم المدهشة..التي كانت في الوعي البسيط هي الشكل المتحقق بكلمات تتردد بإلحاح في وسائل الاعلام وفي خطب الرئيس السادات..هي «الحرية» و«التعدد».
بورسعيد كانت هي شارع الحميدي والتجاري الموازي له..وعلى بعد منهما الحي الإفرنجي بضاعته الغالية..كنا اطفال السنوات التالية لحرب اكتوبر وكان طعم الانتصار الحربي في الذاكرة الصغيرة التي لم تستوعب بعد التفاصيل المعقدة للهزيمة ثم العبور وما تلاه من وقف إطلاق النار…بورسعيد كانت جزءاً من هذه الذاكرة مختلطاً مع انطباع آخر بأن أهلها هم «المهجرون» الذين زاحموا فقراء مدن الدلتا في مساكنهم ورزقهم…وألصقت بهم تهم الغدر والخيانة والجريمة..كما هي العادة في كل الهجرات الجماعية.
الغريب انه بعد تحول بورسعيد إلى «منطقة حرة» حدثت هجرات عكسية من فقراء مدن محيطة (المنزلة والمطرية ودمياط والمنصورة)..أثرياء نفس المدن هبطوا على بورسعيد بالمظلات كما يعتقد البورسعيدية، وخطفوا مكافأة الحروب والمقاومة ثم عادوا إلى مدنهم الأصلية بعد موت المدينة الحرة.
الهجرات اكدت عند اهل بورسعيد احساس «العزلة» وأكدت أيضاً العلاقة المعقدة بينهم وبين مدينة يتصورون أنها خلقت لتميزهم فهم ليسوا فلاحين ولا صعايدة..وكلما بدأوا في الاستقرار جاءتهم عاصفة تقلب وتغيير.. إلى حد اصبحت معه بورسعيد في وضع استثنائي دائم تتشكل بعد كل عاصفة خريطتها الاجتماعية والجغرافية معاً.
هي اقرب إلى جزيرة يحيطها الماء..البحر الابيض وقناة السويس وبحيرة المنزلة ولا يربطها بمصر الا كوبري الرسوة وكوبري الجميل…وعندما يضربان تعزل المدينة تماما..وهذا ما جعل افضل وسيلة للدفاع عن بورسعيد هي سحب الأعداء إلى داخلها..هذا من الناحية العسكرية والنفسية أيضاً..لكن من الناحية الاقتصادية ظلت بورسعيد طوال الوقت مرتبطة بما يأتي عبر البحر من مكاسب..كما ظلت طبيعة النشاطات الاقتصادية اقرب إلى المال السائل يتحرك في دورات تبدأ وتنتهي خارج بورسعيد …التي تعتبر بامتياز (جنة الثروات السريعة).
وهذا ما يجعل الحرب هي اول طريق للثروة في بورسعيد..بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت طبقات جديدة من الاغنياء عملوا في البحر …(مثل عبد الرحمن لطفي شبارة وبجانبهم اغنياء الحرب مثل عائلة سرحان التي كانت تورد البيض لمعسكرات الجيش الانكليزي..وبعد حرب 1973 كانت فرصة المقاولين وتجار البناء…والحكايات لا تقدم في بورسعيد عن اساطير الصعود السريع لشخصيات مثل سيد متولي …مدرس الالعاب الذي امضى عدة سنوات في ليبيا عاد بعدها ليشتري فيلا عبد الرحيم شبارة الثري القديم وأقام بدلاً منها مجمعاً تجارياً قبيحاً مثل بقية عمارة السبعينيات…لكن شراء الفيلا..على ما يبدو كان رمزاً لوراثة الاغنياء القدامى وبداية عصر جديد دعمه متولي بالاقتراب من السلطة السياسية (السادات) واقترانه بعالم نجوم السينما والاعلام (سهير رمزي)، والأهم سيطرته على النادي المصري اهم مفاتيح اللعبة السياسية في بورسعيد.
4
الفقر وحش.
هذا ما كتبه شخص عابر على جدار احدى العمارات العالية المطلة على قناة السويس..كان هذا اول ما رأيته في زيارة لبورسعيد في مارس 2001… وبعد نصف ساعة من وصولي كنت في حفل زفاف بحي «السلام» احد الأحياء التي اقامها السادات لاستيعاب اهل المدينة من التهجير الثالث..الحي اشبه بمستعمرات العمال في شبرا والمحلة الكبرى وكفر الدوار..(وبعضها سمي بهذا الاسم لأنها اقيمت على بقايا معسكرات الجيش الانكليزي).
الفرح في الشارع بجوار بيت العريس..والده احد «الصحبة» القدامى واحد من الذين يغنون في «الضمة» البورسعيدية التقليدية ويرقصون على السمسمية…رغم ذلك لم يكن الفرح «بورسعيدياً» كما تخيلناه في الذاكرة..بل كان خليطاً اقرب إلى الفوضى.
البداية: مغن عجوز على رأسه طاقية مربوط حولها شال اقرب إلى العمامة الصعيدي.. ويرتدي جاكيت بدلة قديمة على بنطلون جينز..كان يغني الاغاني التقليدية ومعها يرتجل كلمات عن الزمن الذي يرفع «الخسيس» و«يبهدل» ابن الاصول.
في العمارات المجاورة كان جمهور كبير يتفرج من النوافذ والشرفات، اغلبه نساء وفتيات على رؤوسهن مناديل البيت…مع المغني رقص زميله بالمنديل على الطريقة المعروفة في الضمة والتي يتمايل فيها الجسد بحرية بما يمنحها طابعاً حسياً ليبدو الراقص كأنه في استعراض منفرد.
سرعان ما تاهت «الضمة» بإيقاعها القديم وسط مقاطع من اغنيات مصرية ولبنانية وخليجية مشهورة، يتخللها السلام والنقوط والتحيات…لفت نظري من بينها تحية من «عاصمة جهنم» (وعرفت ان المقصود حي مجاور اسمه التصنيع)…صديقي البورسعيدي ابتسم قبل ان يلقي لي بالمعلومة: «خلي بالك الليلة ها تنتهي بمعركة وضرب مطاوي …هذه هي العادة».
غادرت قبل نهاية الفرح..وانتبهت إلى ان اغلب الشباب وصل إلى حالة غريبة..عيونهم جاحظة..بعض الشيء..وفي وجوههم اثار معارك قديمة …ورقصاتهم خليط من السمسمية والرقص البلدي والبريك دانس..مع إشارات جنسية مكشوفة..»انه البانجو والبرشام (الاقراص المخدرة).
وهؤلاء هم «الأشقياء» كما يسميهم اهل بورسعيد…يعيشون على هامش المدينة القديمة..في احياء اشهرها «الزهور» …سمعت عنها اساطير مدهشة وانها كانت «مدينة للرعب» لا يستطيع الغريب ان يدخلها بعد المغرب….ينتشر على مداخلها قطاع طرق بالأسلحة البيضاء من المطواة وقرن الغزال إلى السيف والسيرفو (نوع من السيوف حاد من الجهتين) يسرقون ركاب الميكروباصات العابرة ويتعرضون للنساء المارات.. ويفرضون اتاوات على اصحاب المحلات والسيارات.. أي صورة مجسدة لعصابات شيكاغو كما نراها في الافلام الاميركية …ابطال هذه العصابات تجمعوا في حي الزهور وما حوله بعد سنوات طويلة عاشوها في العشش ومراكز الإيواء..لكن انتقالهم إلى المساكن الجديدة لم يخرجهم من نفق الفقر المركب..بل اعطاهم فرصة للتجمع على شعور واحد بأنهم في مواجهة مع المجتمع لا يمتلكون فيها غير العنف.
5
بورسعيد رغم انها تقع في نقطة التقاء عالمية الا انها لم تكن في يوم من الايام مدينة متعددة (كوزموباليتانية) بالمعنى الذي كانت عليه الاسكندرية..(والتي يختلف علي كوزموبوليتانيتها…اذا تأملنا من زاوية غير الانبهار أو النوستالجيا).
بورسعيد ليست مدينة تذوب فيها الثقافات وتمتزج في طابع متسامح..ربما لانها مثل مدن القنال قامت من البداية على فكرة الفصل بين المصريين والخواجات..او لأنها كانت تعتبر مدينة «غريبة» في محيط مصري.. او لأنها كانت على حافة صراع سياسي وعسكري عنيف، تحولت معه الاختلافات الثقافية إلى شكل من اشكال الحماية الذاتية..والالتفاف حول «ما يميزني» لا «ما يقربني» من الآخر..خاصة ان بورسعيد لا تملك تاريخا قديما والقادم اليها ليس الا باحث عن الرزق أو هارب من بلده..كل مجموعة من ثقافة واحدة تتجمع في»جيتو» يقويه.. وهؤلاء ليس امامهم ترف قبول الاخر بل الصراع معه حول السيطرة على المدينة..كان ممنوعا على المصريين دخول حي الافرنج الا بتصاريح.. وتم عزلهم في «قرية العرب»..اصبحت فيما بعد حيا داخل المدينة….الوحيدون الذين كان لهم حق العبور إلى الحي الافرنجي..هم الخدم والبوابون والباعة..يمرون من شارع يحمل اسم»الاشكربية» وهم العمال الذين يجمعون الفحم المتساقط من السفن في الشكائر.
وظل هذا الفصل حتى حركة الضباط في 1952 ولكن قبل ذوبان المدينة في تنظيم جديد..رحل الاجانب بعد تأميم القناة وعدوان 1956…لم يبق منهم سوى مجموعات متناثرة من فقراء اليونانيين والايطاليين اصحاب المهن البسيطة..والذين لم يتكيفوا مع مواطنهم الاصلية..تصادف احد هؤلاء في شوارع بورسعيد وقد اصبح عجوزا…او تسمع عنه حكايات ونوادر..باعتباره جزءا من نوستالجيا المدينة التي اختفت فيها المواجهة بين المصريين والخواجات …وتحولت إلى مواجهة من نوع آخر..بين الذين خرجوا من كل العصور «يامولاي كما خلقتني» وبين اثرياء الطبقة الجديدة الذين كسبوا من كل المراحل وحولوا كل هزيمة للمدينة إلى حساب شخصي.
صحيفة السفير اللبنانية
