عن الإسلام والديموقراطية والعلمانية (هالة ابو حمدان)

 

هالة ابو حمدان

ظهرت حركات الاسلام السياسي بقوة على الساحة السياسية، خصوصاً مع وصولها الى الحكم إثر ثورات ما سمي بالربيع العربي. وفتح باب النقاش على مصراعيه إثر فشل تجربتها في مصر، ومع النقاشات التي حصلت قبل وضع الدستور في تونس. فقد هوجم الاسلاميون بشدة واتهموا بمحاولة أسلمة الدولة على اعتبار جعل الشريعة أحد مصادر التشريع أو بالأحرى من أهم مصادره، الأمر الذي ينافي الديموقراطية التي قامت الثورات للمطالبة بها.
هناك سؤال يطرح: هل العلمانية شرط ضروري للديموقراطية؟ بمعنى آخر، هل النظام اللاعلماني هو نظام غير ديموقراطي بالضرورة؟ ينطوي هذا الرأي على مغالطة واضحة في الخلط بين الديموقراطية والعلمانية. فالفحوى الأساسي للديموقراطية، حسب جون ديوي هو فكرة المشاركة، مشاركة الشعب في الحكم، وإعطائه الحرية في اختيار حكامه والطريقة التي يحكمون بها. ومن الأكيد أن منع الشعب من اختيار الإسلام أو غيره كنظام يرتضيه لنفسه هو ما يخالف الديموقراطية. ويبقى هذا النظام ديموقراطياً مهما كانت المبادئ التي يصوغ دستوره على أساسها طالما أنه يعبّر عن رأي الأكثرية، ولا يمنع تشكيل معارضة تعبّر عن رأيها وتسعى للوصول الى الحكم بالطرق الديموقراطية. تماماً كما هو الحال في الأنظمة الغربية التي اختارت شكلاً معيناً للدولة، أو نظاماً للحكم، ويمكن أن تحرّم المساس به، كالمادة 89 من الدستور الفرنسي التي تحرّم تعديل الشكل الجمهوري للدولة. فيستطيع أنصار الملكية في فرنسا التعبير عن رأيهم، والدفاع عن النظام الملكي، لكن يحرّم عليهم تعديل الدستور لإعادة الملك الى السلطة. ومع هذا لا أحد يتّهم الدستور الفرنسي بأنه غير ديموقراطي.
إن قيام دولة إسلامية يكون أمراً مخالفاً للديموقراطية في ثلاث حالات: الأولى، في حال لم يحظ على موافقة أكثرية الشعب، والثانية في حال إعطاء فئة أو طبقة معينة الحق الحصري في التشريع والحكم من دون باقي الشعب. والحالة الثالثة هي في حال عدم قبول الدولة الإسلامية لأية معارضة وتمييزها في الحقوق بين المواطنين على أساس انتمائهم الديني، وعدم إعطائهم حرية المعتقد وحق التعبير عن الرأي اذا كان مخالفاً لما تنصّ عليه أحكام الدين. فلنفترض وضع دستور في دولة ما حسب مبادئ الشريعة الإسلامية، بعد استفتاء صحيح، نال بموجبه الدستور أكثرية كبيرة، وتضمّن الدستور إعطاء حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية لغير المسلمين، وأعطاهم حرية التعبير عن الرأي وتأليف أحزاب سياسية غير إسلامية لها حق المشاركة في الحياة السياسية. هل يمكن اعتبار هذا الدستور غير ديموقراطي لمجرد كونه غير علماني؟
الحالة الثانية التي وردت أعلاه، والتي يمكن أن تكون الدولة الإسلامية بسببها غير ديموقراطية، هي حالة إعطاء فئة معينة بشكل حصري، الحق في التشريع وفي استلام زمام الحكم. وهو أمر وارد الحصول في الدولة الإسلامية، إذ إن عدم وجود إكليروس في الإسلام، لا يلغي الدور الذي يملكه الفقهاء في الاجتهاد، والتفسير، وتحديد الحلال والحرام، وغيرها، مما يجعل منهم السلطة التشريعية الفعلية. وهذه هي النقطة التي يجب الحذر منها في الدولة الإسلامية، فلا يكون لرجال الدين أية سلطة سياسية بصفتهم هذه، ويبقى للعلماء منهم الدور الاستشاري تماماً كدور فقهاء القانون في الدولة اللادينية.
يرى منظرو الديموقراطية أن أحد شروط الديموقراطية هو شرط تكافؤ فرص العمل السياسي، مما يستوجب حياد الدولة إزاء الايديولوجيات المتصارعة. لا توجد علاقة وثيقة بين حياد الدولة وبين تكافؤ فرص العمل السياسي. بمعنى أنه يمكن للدولة أن تتخذ خياراً ايديولوجياً معيناً وتعطي في الوقت نفسه حرية العمل السياسي لكل المواطنين بالتساوي. وأحد أركان الديموقراطية هو أنه لا يجوز أن يتضمن الدستور أي بنود تقود الى ترجيح مصلحة فريق على مصلحة سائر الفرقاء أو الى حصر السلطة في يد فريق دون سائر الفرقاء. ولذلك لا يجوز أن يطالب فريق، لأنه يمثل أكثرية دينية أو عرقية أو غير ذلك، أن يؤول الحكم إليه بشكل دائم، إنما له الحق في الحكم طالما أنه يشكل أغلبية، إذ إن مبدأ الأغلبية هو أحد أركان الديموقراطية. فمن حق كل فريق من الفرقاء المتنافسين أن يطرح مشروعه السياسي بحرية لينظر فيه الجسم السياسي بأكمله ويصدر حكمه عليه. فإذا كانت الإرادة العامة ذات اتجاه إسلامي، وأصدر الجسم السياسي حكمه باتباع تعاليم الإسلام، فلا نرى مساساً بالديموقراطية في هذه الحالة.
إن حياد الدولة تجاه المعتقدات المختلفة هو شرط للعلمانية وليس للديموقراطية. والعلمانية لا تعدو كونها أحد الخيارات الديموقراطية. إن كون ضرورة اختيار النظام الديموقراطي مشتقة من الاعتبارات العقلية وحدها وليس من الاعتقاد بالله، أسوة بكل الاختيارات على المستوى السياسي – الاجتماعي، وحيث أن هذه الاختيارات مشروطة بأوضاع البشر المتغيرة، لا يتنافى مطلقاً مع الاعتبارات الدينية، التي نرى أن الثابت فيها هو ما يتعلق بأسس العقيدة والإيمان. أما ما يخصّ الشؤون السياسية والاجتماعية، فهي بلا شك أحكام قابلة للتأقلم مع الظروف التاريخية والجغرافية التي تطبّق فيها. لا بل نشدّد على ضرورة أن تكون كذلك حتى لا يبدو تطبيقها ناجماً عن أمر تحكمي أو تعسفي، ما يخالف الطبيعة المطلقة والعادلة للسلطة الإلهية التي أصدرتها. فالإيمان بالله لا يتعارض مطلقاً مع اشتقاق الديموقراطية أو غيرها من القواعد السياسية – الاجتماعية، من الاعتبارات العقلية أو الظرفية.
يرى د.عادل ضاهر أن الدولة الإسلامية هي دولة كليانية بالضرورة. فالإيديولوجية الدينية بالنسبة لأتباعها مطلقة بمعنى مزدوج. فهي، من جهة، مطلقة بمعنى أنها تشتمل على حقائق مطلقة، مما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان. وهي من جهة ثانية، مطلقة بمعنى أن "الحقائق التي تشتمل عليها هي الأساس الأخير الذي تشتق منه كل الحقائق الأخرى…". ونقول هنا ما سبق أن قلناه سابقاً، ان ما هو مطلق يشمل أسس العقيدة وليس الشؤون الاجتماعية والسياسية. واعتبار أسس العقيدة من الأمور المطلقة بالنسبة للمسلم هو شأن متعلق بحرية معتقده، ولا يتعداه الى علاقاته مع الآخرين، أي انه إذا اعتقد بوحدانية الله أو بالنبوة أو بالعدل الإلهي،الخ…. فهذه أمور تعنيه هو، ولا علاقة لها بما اذا كان نظام الحكم جمهورياً أو برلمانياً أو بتحديد الحدّ الأدنى للأجور أو ساعات العمل أو ما هو النظام الانتخابي، الخ…. واعتبار أسس العقيدة من الأمور المطلقة مشابه تماماً لما يفكر به منظرو الليبرالية الغربية مثل هانتنغتون وفوكوياما اللذين وصل بهما الأمر الى إعلان أن انتصار الليبرالية وقيم الديموقراطية الغربية وهو نهاية التاريخ؟
للديموقراطية ثوابت تترسخ من خلال عملية تحوّل تدريجي، والديموقراطية الغربية بحدّ ذاتها لم تنشأ دفعة واحدة بل تطوّرت مع تطوّر المجتمعات وتبلورت صعوداً مع الثورات الديموقراطية التي حصلت في القرنين السابع والثامن عشر. فاختلاف المفاهيم في بلد عنه في بلد آخر، يتطلّب نمطاً مختلفاً من التعامل، حيث ضرورة ابتكار آليات تتلاءم مع الأوضاع المختلفة للبلدان المختلفة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى