عن الشرق الأوسط الذي «انتهى الى غير رجعة»

مَن لم يتنبّه لقول مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه إن «الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة»، يتجاوز في تحليله أبسط العناصر المكوّنة للصورة الحالية. فباجوليه أصرّ على أن العراق وسوريا لن تستعيدا أبداً حدودهما السابقة، وقال في مؤتمر بشأن الاستخبارات في جامعة «جورج واشنطن» إن الصورة النهائية لمرحلة ما بعد الاقتتال الحالي لن تكون على شاكلة مخرجات اتفاقيات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا ما أكده مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) جون برينان الذي أقرّ باستحالة عودة نموذج الدولة المركزية الى دول كسوريا وليبيا والعراق واليمن، وهو يقصد هنا منظومة حاكمة مستقرّة مع حدود مطابقة لتقسيمات الاستعمار الغربي بأشكاله كافة خلال القرن الماضي.

لا ينحصر التحليل المباشر لمجمل أزمات المنطقة بالسرديتين الأكثر شعبية في قنوات البحث، تلك القائلة بشروع الغرب بعملية إعادة هيكلة شاملة للمنطقة تضمن حداً اقصى من مصالح اللاعبين الكبار، أو السردية المبنية على أن فعل الفوضى تخطّى قدرة المنخرطين على التحكم بمسار الأحداث، وبالتالي انتظار المحصلة الهادئة النهائية التي قد ترسم من خلالها الخريطة الجيوسياسية الجديدة. فالمسألة أكثر تعقيداً من أن تكون نتاجاً لـ «مؤامرة كونية» مدروسة في مكاتب الشرق الاوسط بأجهزة الاستخبارات الغربية، وهي شديدة التداخل لدرجة ترفع عنها تهمة «الفوضى الخالصة»، فلا شيء يتدحرج في المنطقة بقوة دفعه الخاصة.

يُفترض بالمنطقة وفوضاها أن تكون «أمراً بين أمرين»، كما يقول المناطقة، فلا هي الفوضى المتخطية لكل الفاعلين، ولا هي لوحة مرسومة بعناية منقطعة النظير. والمعضلة الأساس تبقى في تحديد مكامن الخلل، وهنا تتباعد النظريات بحسب انتماءات الجهة المصدرة لمضبطة الاتهام. فالأنظمة اعتادت على بناء «مرافعاتها الأخلاقية» ربطاً بشمّاعة «الإرهاب»، فيما بات للإرهاب شماعته الخاصة المبنية على عناوين كالمظلومية الإثنية والعرقية والمذهبية والمناطقية، بينما يدّعي صناع حالة «البين بين» انخراطهم في صراع آلات القتل التابعة للدكتاتوريات، وكذلك «إمارات» الارهاب العابر للحدود القديمة.

قبل أيام عدّة خرج رئيس وزراء بريطانيا في «غزوة العراق» توني بلير قائلاً إن «معلومات خاطئة» دفعته وحلفاءه الى احتلال العراق، وهو الذي أفضى إلى تفتت نتجت عنه جماعات كتنظيم «الدولة». وبطبيعة الحال، فإن ما لم يقله بلير إن الغزو أدى الى انتاج الطبقة السياسية الحالية بمتناقضاتها المبنية على نزاعات تاريخية او حتى «نفطية». فالقسمة وحدها عند جمع غلة النفط تكفي لفرز مختلف عن سابقها في موازنات الأعوام الماضية. وبالتالي يمكن من خلال اتهام «أخلاقي سياسي» القول بأن فوضى العراق هي نتاج المؤامرة الغربية التي طبّقت بفعل القوة العسكرية المباشرة. ويُضاف إلى هذه المضبطة تكرار لجميع المنخرطين والداعمين للحرب وكذلك الساكتين عنها. لكن سرد الرواية بهذه الطريقة لا يُعدّ كافياً لتوقع المقبل. فالعامل الداخلي هو الآخر كان سبباً في إنتاج النزاعات وخلق بيئة حاضنة لها. فإذا ما اعتبرنا أن عملية «خلق العراق» بدأت العام 2003 بمعزل عن كل موروثات زمن الرئيس صدام حسين، تظهر على السطح علامات للتصدع المجتمعي أغنتها نخبة الحكم في مرحلة الاحتلال وما بعده، عبر إنتاجها حزمة «قوانين» أسست لانهيار المنظومة الاجتماعية العراقية كقانون «اجتثاث البعث» وغيره، إضافة لتعاطيها الدائم كقوة «غازية» في مواجهة الحراك المطلبي في الأنبار. يُضاف الى هذا الضبابية الدائمة المتحكمة بأداء المرجعية الدينية في النجف، وكذلك احتضان «حزب البعث» في الوسط والشمال لإيديولوجيات يدرك أنها ستبتلعه مع الوقت كما حصل منذ تأسيس «جيش محمد» وأدلجته «إسلامياً» في محاولة لخلق آلية استقطاب جديدة، بعد فشل العناوين القومية والمقاومة للاستعمار في توحيد الجبهة الداخلية في مواجهة الغزو، حيث أفضت التغييرات هذه مع الوقت الى انبثاق «تنظيم الدولة» كقوة عسكرية أساسية، فيما كان يُفترض به أن يكون «مقاومة» عراقية للاحتلال الاميركية.

في سوريا، لا تبدو الصورة أكثر بياضاً. فالفوضى هناك لم تكن نتاجاً حصرياً ومباشراً لتغلغل الجماعات «التكفيرية والإرهابية»، ولا ردّة فعل «عفوية» على استخدام النظام للعنف ضد المتظاهرين في السردية الأكثر استخداماً في الغرب، وهي ليست أيضاً صنيعة قطرية بدأت مع حفر شركة تابعة للدوحة أنفاقاً في حمص بداية العقد الماضي بحجة تطوير شبكة الهاتف. فالقصة معقدة لدرجة ترفع عنها «الشبهات البسيطة والمبسّطة» هذه. فانتظار السوريين للإصلاح منذ تحرر الدولة من «الخلافة العثمانية»، واستمرار الخطابة السورية الرسمية على الموجة التي تحدثت عن مواجهة المؤامرة الغربية منذ احتلال فلسطين، والنزعة الطبيعية للشعوب في عصر الهواء المفتوح نحو «أرض مفتوحة»، كلها عناصر مضاف عليها ما سبق على تعقيده او بساطته، كافية لإنتاج حرب أهلية ثقيلة في بعديها العسكري والاجتماعي.

كلنا في المنطقة مدركون حتى من قبل أن يدرك صناع الأزمات، أننا مقبلون عاجلاً أم آجلاً على تبدّلات يمكن أن توصف بالتاريخية. فحالة العيش بانتظار الانفجار مهما قرب أو بعد، كانت حالة دائمة في نفوس المواطنين الأكثر دراية وإدراكاً لشؤون بلدانهم. فالبنيان المجتمعي غير السليم، والموروثات الدينية المتفلتة من دون حسيب، والانظمة الغارقة بصناعة المتناقضات لتعويم ذاتها، ناهيك عن «التآمر الخارجي الدائم»، كلها عناصر اجتمعت على تأسيس مرحلة ما بعد الهدوء النسبي الممتد من آخر حروب العرب الكبرى مع اسرائيل الى غزو العراق العام ألفين وثلاثة. وبالتالي فإن مقولة رجل الاستخبارات الفرنسي بأن الشرق الاوسط «انتهى الى غير رجعة»، لا تعد ضرباً من ضروب التحليل العميق او المعرفة بماهية الأحداث ومجرياتها على الارض، بل هي اختصار لحالة تمر فيها المنطقة رأى فيها باجوليه مخاضاً لخريطة مقبلة. لكن الرجل وقع في الخطأ الغربي الدائم، والذي لا يحسب حساب الحالات المارقة. فلهذه المنطقة حتمياتها الخاصة التي يعجز أبناؤها عن صياغة رسم بياني واضح لها. لكنها حتميات تؤكد أن لا فعل في الشرق الاوسط من دون رد فعل، وأن في هذه البلاد «عناصر ثابتة» تتجمّع حولها المارقات من تشكيلات مجتمعية وعسكرية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى