دبي– بدأت بإقامة طقوس الوداع لمدينتي الصينية “تشونشغينغ” وذلك بعد أن قررت المشاركة في مؤتمر في دبي لعدة أيام. مع اقتراب موعد الرحيل راودني شعور بعدم الارتياح، إذ كانت طقوس الوداع لتلك المدينة التي أقمت فيها منذ أكثر من أربع سنوات تطغى على مشاعري، وعلى الرغم من شعوري أني أبالغ في إحياء حالة “درامية” لا داع لها، إلا أنني لم أستطع تجاوز الأمر.
وصلت مطار دبي، وقد لفتني مظهر اللافتات المكتوبة باللغة العربية، فمنذ سنوات لم أر هذا المشهد.وجدت عائلة صينية في نقطة التفتشش قادمة إلى دبي لقضاء عطلة رأس السنة الصينية.لم يكونوا قادرين على التواصل بالانجليزية أو العربية مع موظفي المطار، فهرعت إلى مساعدتهم فورا لمعرفة ما يريدون، إذ راودني شعور غريب بالمسؤولية تجاههم.بعدها جاء دوري في ختم جواز السفر، مشيت بضع خطوات فقال لي موظف مصري “ما تقولي إنك عربية بمرقك بسرعة” شكرته ضاحكة، لم أرد أن اقول له أني لم أعد أميز أشكال العرب عن غيرهم من الجنسيات، فأصبحت أرى كل الجنسيات تشبه بعضها. طلب مني الموظف الاقتراب من جهاز التصوير كي يلتقط صورة وجهي كاملة، مرت لحظات حتى تمكنت من فهم ما يقول، فمنذمدة طويلة لم يتكلم معي أحد باللغة العربية المحكية بشكل مباشر.
انتقلت إلى الجانب الآخر حيث كان “أخي” ينتظرني في جهة الوافدين، وقد أحضر لي معه البسكويت الذي كنا نأكله في سوريا والذي يسمى”الفاخر” ومعه كيس “تشيبس دربي” بدأت شيئا فشيئا أسترجع ذاكرتي السورية خلال مرحلة الطفولة، وكأن إقامتي في الصين قد أنستنيأشياء كثيرة، فلم أعد قادرة على استذكار تفاصيل حياتنا.
مضت الأيام الأولى سريعة، لم يُتح لي أن أعمل خلالها كثيرا ، إذ أني وفي معظم الوقت كنت أقابل معارف من العرب والسوريين، وفي كل لقاء كنت أسترجع جزءا من ذاكرتي المفقودة. تذكّرت كيف نسكب الطعام للضيوف ونجبرهم على تناول المزيد منه. تذكّرت طعام والدتي وعمّتي من خلال أطباق سورية مطهوّة بكل محبّة. تذكّرت أننا نضيف إلى “المتة” بعض الزهورات مثل “إكليل الجبل”. تذكّرت كيف كنا نعطي بعضنا البعض أطعمة مثلّجة قبل السفر كي نحتفظ بها كزوادة للأيام القادمة. تذكّرت كلّ عاداتنا حتى أنني بدأت التمييز مجددا بين مختلف الوجوه من مختلف الجنسيات، فأصبحت أميّز بين الهندي والباكستاني والعربي.
عادت إلي ذاكرتي ليس فقط الأجواء العربية الجميلة بل مشاكلنا نحن السوريين، إذ أنني وبينما كنت أستمتع بتناول”الشاورما” سمعت فتاة سورية تخبر مواطنة خليجية أنها تبحث فقط عن أي جنسية أخرى كي تعيش بسلام. وتعمّدت التنصّت على سوري كان يتحدث عن حلمه في أن يكون اسمه “مواطن” ولكن ليس أي مواطن بل “مواطن إماراتي” كي يتمتع بحقوق المواطنة في بلد كالإمارات.
كما سمعت سوريا آخر يشكو عدم ارتياحه على السرير الموجود في غرفة يقطنها أربعة غيره.
سمعت مصريا يتحدث عن أهمية الجنسية في إيجاد عمل في الإمارات، فنحن من بلدان ليست سوى فائض على البشرية. ما إن نكبر حتى نعي حجم كارثتنا، تحديدا لأنه يتوجّب علينا تغيير جنسياتنا سريعا كي نصبح بشرا طبيعيين يُطلق عليهم لقب”مواطنين” في دول أخرى غير بلداننا.
نعم عدت إلى ذاكرتي السورية البحتة، وعرفت تماما لماذا آلمني الرحيل من مدينتي “تشونشغينغ” ليس لأنني إنسانة “تجتهد في إقامة طقوس درامية” بل لأني وعبر الزمن ومع اعتمادي على تجاهل ذاكرتي، هربا إلى الأمام، أصبحت أملك ذاكرة نائمة، تنتظر ما يحرّضها ولم أجدما يحرّض ذاكرتي خيرا من وجعنا نحن العرب عموما، والسوريين خصوصا الذين نعاني ما نعانيه في أوطاننا. نعم أصبحت أملك ذاكرة كلما تألمت تعود إلى الوراء مستذكرة آلام الوداع، فتصبح حتى الأيام المعدودة التي سنمضيها بعيدا عما ألفنا واعتدنا عبئا كبيرا، لأنه يجسّد خوفا من الفقدان.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة