غزة والنظام الشرق أوسطي الجديد (مايكل سينغ)

 

مايكل سينغ

 

يأتي الصراع التي تتكشف أحداثه تباعاً في قطاع غزة في ظل خلفية إقليمية مختلفة كل الاختلاف عن الجولة الأخيرة من القتال الذي وقع في أواخر 2008 وأوائل 2009. فقد أُطيح بالنظام الإقليمي القديم الذي كان قائماً خلال الحرب السابقة، وتم استبداله بنظام جديد غير مؤكد ولم يُختبر بعد. وستمثل الأزمة التي تتكشف فصولها حالياً أول اختبار من ذلك القبيل، وسوف تظهر مدى تأثير الانتفاضات في السنوات الأخيرة على الفاعلين الإقليميين الرئيسيين والعلاقات بينهم.
لقد كان النظام القديم في الشرق الأوسط قائماً على المصالح المتبادلة ويشبه تحالفاً بين المحور والفروع حيث كانت الولايات المتحدة تمثل المحور، بينما شاركها حلفاؤها في المنطقة – فوق كل الاعتبارات والعوامل الأخرى – في المصلحة على حفظ الاستقرار والازدهار الاقتصادي، رغم أن لكل من هؤلاء الحلفاء تعريفه المختلف للاستقرار. وبالنسبة لواشنطن، يتطلب الاستقرار إصلاحاً سياسياً واقتصادياً؛ أما بالنسبة لحلفائها، فإنه كان يعني في الغالب الحفاظ على الوضع الراهن والضعيف على نحو متزايد.
لقد كانت إسرائيل طرفاً رئيسياً في هذا التحالف، كما أنها تعاونت علناً مع بعض الدول الإقليمية، وضمناً مع الآخرين، من خلال المساعي الطيبة للولايات المتحدة. أما إسرائيل وحلفاء واشنطن العرب فقد شاركوا إلى حد كبير في الرغبة في مواجهة وردع إيران ووكلائها ومكافحة الجماعات الإرهابية في المنطقة. وقد أشاد عديدون سراً أو علناً بقيام إسرائيل بتوجيه ضربة إلى «حزب الله» في الأيام الأولى من حرب لبنان عام 2006 أو بتدميرها مفاعل سوريا النووي في عام 2007.
أما النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط فهو مختلف، لكن درجة اختلافه أو مداه غير واضحة. بيد أن هناك أمران على وجه الخصوص غير مؤكدين. أولاً، كيف ينظر الآن القادة في المنطقة – وخاصة القادة الجدد مثل الرئيس المصري مرسي – إلى مصالحهم الوطنية؟ فهذه المصالح لم تتغير بشكل جوهري مع اندلاع الانتفاضات العربية؛ على سبيل المثال تمتلك المليشيات المسلحة في سيناء نفس الدرجة من البراعة في استهداف الجنود المصريين والإسرائيليين على حد سواء، كما أن تصورات عدم الاستقرار أو المشاعر المتطرفة التي تجتاح المنطقة سوف تعيق الاستثمارات والسياحة التي هناك حاجة ماسة إليها من أجل إنعاش الاقتصاد المصري.
ومن ناحية أخرى، إن حسابات الرئيس مرسي السياسية وأيديولوجية فصيله في جماعة «الإخوان المسلمين» تتعارض حتى مع التعاون الضمني مع إسرائيل. صحيح أن مرسي وحكومته قد ظهروا بأنهم يميلون إلى اتباع نهج واقعي حتى الآن، لكن الغرض من إرساله رئيس وزرائه هشام قنديل إلى غزة – على غرار قيام تركيا بإرسال أسطول إلى غزة في عام 2010 – هو لجذب الانتباه ولا يعكس استراتيجية دائمة. وسوف تختبر أزمة غزة فيما إذا كان مرسي، جنباً إلى جنب مع غيره من القادة في المنطقة، سيضع الإيديولوجية فوق المصالح.
أما السؤال الثاني الخاص بالنظام الإقليمي الجديد فيتعلق بوضع الولايات المتحدة في ذلك النظام. إن تردد واشنطن في وجه الاضطراب في الشرق الأوسط خلال العامين الماضيين، إلى جانب "توجهها" نحو آسيا أعطى انطباعاً بأن الولايات المتحدة غير مستعدة لمواصلة دورها كوسيط في المنطقة. وهذا مناسب تماماً لبعض القادة الإقليميين؛ فزعماء مصر وإيران يختلفون حول أشياء كثيرة، لكنهم يشاركون في الرغبة في رؤية تراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط. ومع هذا، فبالنسبة لحلفاء الولايات المتحدة، يثير ذلك سؤالاً مقلقاً عما إذا كان بالإمكان الاعتماد على واشنطن من أجل التحرك بحزم لتعزيز مصالح الولايات المتحدة المتبادلة مع هؤلاء الحلفاء.
لقد أدت حالة عدم اليقين إلى حدوث تدهور في نظام "المحور والفروع"، الذي تم استبداله – على نحو تقديري – بتحالفات إقليمية أصغر تعمل بشكل مستقل (على سبيل المثال، تدخل دول "مجلس التعاون الخليجي" في البحرين) وبتبادل الأدوار من أجل الظهور والتفوق. ويتضح ذلك جلياً في حالة تركيا، التي بدلاً من أن تتوجه نحو الغرب أو الشرق سعت إلى الزعامة الإقليمية، وهو ما يعني التبرؤ من تحالفها السابق مع إسرائيل.
وفي حين أن المؤشرات الأولى لهذا التحول الاستراتيجي في المنطقة واضحة للعيان، فليس من الحتمي أن تستمر على ما هي عليه. يجب على واشنطن صياغة ردها على أزمة غزة لتعزيز مكانتها وتحالفاتها في المنطقة.
 
•         أولاً، يتعين على الولايات المتحدة إظهار دعمها القوي لاسرائيل. لقد اتخذت إدارة أوباما خطوة أولى يُرحب بها في هذا الاتجاه من خلال إصدارها بيانات تؤكد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ووضع المسؤولية على «حماس» عن اندلاع الأعمال القتالية ومعاناة الفلسطينيين تحت سوء حكمهم. وستحتاج الإدارة الأمريكية إلى العمل بشكل وثيق مع إسرائيل من وراء الكواليس، لمساعدتها على تحديد أهداف معينة لعمليتها العسكرية وإنجازها بشكل سريع وحاسم. وبمجرد توقف القتال، ينبغي على الولايات المتحدة وإسرائيل أن يتفقا سراً حول تعريف نهج واقعي ومشترك تجاه غزة والصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
 
•         ثانياً، يجب على واشنطن ممارسة بعض الواقعية السياسية مع مصر وتركيا وحلفاء إقليميين آخرين. إن أي ائتلاف قوي يكون قائماً على المصالح المشتركة. وفي ضوء التغيرات في المنطقة، فلا ينبغي لنا أن نفترض ببساطة أن زعماء المنطقة الجدد يشاركون مفهوم الولايات المتحدة لهذه المصالح المشتركة، ولكن ينبغي أن نُحصي لهم بوضوح تصورنا لهذه المصالح، وسيتحقق ذلك من خلال الحوار الاستراتيجي الثنائي. فقضايا مثل الإرهاب والدعم الإيراني للنظام السوري تمثل مصدر قلق للولايات المتحدة وشركائها في المنطقة ولن يكون من الصعب تحديدها. ومع ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تُصر على أن يعمل حلفاؤها على أساس تحقيق هذه المصالح بدلاً من الاعتراف بها ببساطة من خلال محادثات غير علنية، لا سيما في أوقات الأزمات. لذا فإن المناقشات المتعلقة بالمساعدات يجب أن تتم في نطاق هذا السياق. ينبغي ألا ينظر – في واشنطن والخارج – إلى المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية باعتبارها منحة أو تعويضات لتعزيز المصالح الأمريكية، بل أداة سياسية لتعزيز المصالح المشتركة.
 
•         ثالثاً، ينبغي على الولايات المتحدة توفير نموذج للقيادة الحازمة والفعالة طوال فترة الأزمة لضمان أن تؤدي نهايتها إلى تعزيز مصالح واشنطن وحلفائها. وكانت الخطوات الأولى التي اتخذتها إدارة أوباما إيجابية، لكن سيكون هناك الكثير من العمل الذي يجب القيام به في الأمم المتحدة لضمان أن أي وقف لإطلاق النار في النهاية، سيكون قابلاً للإستدامة ويعزز الأمن الإقليمي. كما يجب على واشنطن أن تشجع الحلفاء العرب على المدى القصير من أجل الضغط على «حماس» لوقف تصاعد العمليات القتالية وتحمل المسؤولية عن أنشطة الجماعات الإرهابية داخل غزة، وعلى المدى الطويل تحويل جميع دعمهم إلى السلطة الفلسطينية. ومن خلال القيام بذلك، على واشنطن ضمان أن تكون المحصلة النهائية للصراع هي تقريب الإسرائيليين والفلسطينيين نحو إرساء السلام والأمن، بدلاً من الانجراف إلى مزيد من الاضطراب.

 

مجلة فورين پوليسي الأمريكية


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى