نوافذ

فرحٌ مُباغِت

اليمامة كوسى

منذ حوالي عشرة أيّام وبينما كنت أسير في ساحة الأمويّين لفتني مشهدٌ بدا لي وكأنّهُ قافزٌ من أحدِ أفلامِ السّينما ولم أستطع معهُ إلّا وأن أقف قليلاً متظاهرةً بأنّني أنتظرُ أحداً لكي يتسنّى لي إكمالهُ حتى النهاية.

كانوا ستّة أطفال خمّنتُ بأنهم لم يتجاوزوا الابتدائيّة يتحلّقون حول سيّارةٍ من الطراز العسكريّ واقفةٍ على طرفِ الشارع وقد تحطّم زجاجها الأماميّ وزجاج نوافذها وأضواؤها بالكامل، فبدت وكأنّها هيكل سيارة لا أكثر.

كان كلّ اثنين يقفان أمام إحدى العجلات ويقومان بإزاحتها بحيث تصبح متجهةً إلى الأمام لا إلى أحد الجانبين، ولأنّ أصغرهم شعر بأنّ يديه الضعيفتين لا تقدّمان ولا تؤخّران في تلك العمليّة التي كان يقوم بها صديقُه؛ اتّجه إلى العجلة الرابعة وتفحّصها قليلاً ثمّ ركلها بضع ركلات وقال لرفاقهِ بنبرةِ الخبير: هَيْ جاهزة يا شباب .. ما بدها شي.

وبعد أن انتهوا من تلك الخطوة صعد أحدهم إلى المقود بينما توزَّع البقيّة خلف السيارة وعلى جانبيها، وبدؤوا بدفعها.

كانَ الأمرُ صعباً للغاية وسكَنَت هاجسي للحظةٍ فكرةٌ مخيفة هي أنني سأتابعُ طريقي وأنا أرى اليأسَ يطفو في عيونُ هؤلاء الأطفال، إلّا أنّ تلك الفكرة لم تلبث أن تبدّدت عندما بدأت العجلات تتحرّك شيئاً فشيئاً وقد صدحَ المكان بعبارات التهليل والتشجيع التي كانوا يطلقونها.

كانت تلك السيّارةُ – العاجزة منذ دقائق- تسيرُ الآن في الشارع دون تباطؤ أو عرقلة كما لو أنها تطير، تتوقّفُ لثوانٍ معدودة يتبادلُ فيها سائقوها مهمّةَ القيادة ثمّ تُعاودُ مسيرها من جديد وسعادةٌ غامرةٌ تنقلُ عدواها لكلّ مَن في ذلك الشارع من شجرٍ وحجرٍ وبشر.

كانت لحظةً مليئة بالدهشةِ والانبهار لذا لم أستطعْ منع نفسي من الابتسام أمامها، إلّا أنّني وفي قمّةِ الفرحة التي شعرتُ بها اجتاحني حزنٌ دفين عرفتُهُ منذ لحظاته الأولى ولازمني طيلةَ طريقي إلى وجهتي.

هو ذلك الحزن الذي خُلقَ خصيصاً لأجلنا نحن السوريّين، حُزنُنا الذي ذقناه حتى ألفناه، والذي ارتديناه حتى أبلَيناه، لكنّنا لم نستطع تغييره على مدى أربعةَ عشر عاماً.

فكّرتُ بسيّارةِ أحلامنا التي تعطّلت، وبالرُّكّابِ الذين لم يعدْ لهم وجود، وبالطريقِ الذي صارَ يغصُّ بركامِ المنازلِ المتهدّمة.

فكّرتُ بذاك الطفل الذي أمضى طفولتهُ يبكي في العتمة، مُتخَماً بالبرد والجوع والذّعر وأصواتُ الرصاص تخرقُ قلبه قبل أذنيه، كما فكّرتُ بتلك الأمّ التي لا تزالُ تقلّبُ صور أبنائها منتظرةً عودتهم على الشرفة كلّ يوم.

فكّرتُ في الآباءِ وهم يموتون ألف مرّة في اليوم لكي يؤمّنوا قوت عائلاتهم، وبالأبناء وهم يحزِمون قلوبهم قبل حقائبهم ليسافروا نحو أقاصي الأرض علّهم يعثرون على فتيلِ ضوءٍ يُشعلون به مستقبلهم.

فكّرتُ بذلك العجوز الذي خرج مُكرهاً من بيتٍ قضى فيه كلّ أيام حياته ولم يجد نفسهُ إلّا وهو نائمٌ على وسادةٍ قاسية في إحدى زوايا مخيّمٍ يبعدُ مسافاتٍ شاسعة عن المكان الذي كان يعيشُ فيه.

فكّرتُ أيضاً بذلك الشابّ الذي شَهِدَ منظر أيادي الموت وهي تقبضُ على أجساد رفاقه الأوفياء وتأخذهم بلا رجعة دونَ أن يستطيع حملَ رُفاتهم إلى عائلاتهم كأقلّ الممكن، كما فكّرتُ بذاكَ الذي سرقت الشظايا قدميه ولم يعد يستطيعُ دفعَ عربةِ طفله ذي الثلاثة أعوام، فصارَ واجباً على زوجتهِ الصّبورة أن تدفعَ بعربتين بدل الواحدة.

فكّرتُ بتلك الطفلةِ التي لا تعرفُ تهجئة اسمها، وبأخيها الذي تركَ الجامعة ليؤمّن لقمة عيشِ عائلتِهِ بعد أن ابتلع السجنُ والدهم دون أن يعرفوا لماذا.

فكّرتُ أيضاً بذاك العاشق الذي يسعى جاهداً عاماً بعد عام وهو يدّخرُ المالَ ليشتري بيتاً صغيراً يعيشُ فيه مع محبوبتهِ ثمّ يأتيَ عيدُ الحبّ مرةً أخرى وهو لا يملكُ شيئاً، فيُهديها وردةً حمراء تُضيفها إلى ورودها السابقة.

فكّرتُ بوجوهِ الناس المُتعبة وهي تنتظرُ وسائل النقل لوقتٍ طويلٍ كلّ يوم، كما فكّرتُ بحوارات الأصدقاء اليائسة عندما يمرّ طيفُ حديثٍ عن الغد، وبالزياراتِ الشحيحة بين الأقرباء واندهاشهم المتكرر بأبناءِ بعضهم الذين كبروا دون أن يعرفوهم، كما فكّرتُ بالمحادثات الصوتيّة ومكالمات الفيديو التي يبعُدُ مستخدموها عن بعضهم آلاف الكيلومترات وآلاف الأيام لكنّهم يجدونها الفرصة الوحيدة لتخفيف مرارةِ موائدِ أعيادهم التي تغصُّ بالغائبين.

قلتُ في نفسي: هي هكذا قلوبُنا، تخشى علينا من فرحٍ مُباغتٍ لا نعرفُهُ فتحاول أن توازنَ المعادلة بإحياء أحزانها الدفينة من الذاكرة.

وعلى الرغم من أنّي أصدّقُ توازن المعادلات الذي تُقرّهُ الطبيعةُ منذ الأزل، إلّا أنّني لا أستطيعُ أن أُحدّدَ بدقّة كم يستحقُّ من الفرح مَن تتالى على قلبهِ كلّ تلك الأحزان، لكنّ الشيء الوحيد الذي أعلمه وأؤمن به هو أنّ السوريّين الشّرفاء الذين تقاسموا الأحزان والآلام والتضحيات في الماضي؛ سيتقاسمون الأفراح والمسرّات وكلّ التعويضات الإلهيّة المُقبلة عليهم في المستقبل، أعطال السيّارة المحطّمة لتعودُ إلى السير من جديد كما كلّ سيّارات العالم.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى