فرقة كركلّا الجديدة بين رؤيتَيْن

عندما قرّرتُ الذّهاب مع عائلتي لمشاهدة العرض الراقص الأخير لفرقة كركلّا اللّبنانية، “إبحار في الزَّمن / طريق الحرير”، ما كنتُ أتوقّع أن أشعر بما شعرتُ به. حيث وجدتُ نفسي، أنا المتحمّس لهذه الفرقة، منذ أربعة عقود من الزَّمن ونيّف، أمام عملٍ ضخم وشديد الإتقان على المستوى الفنّي ولكن من دون هويّة. بيد أنّ شعوري هذا، الذي شاركني به الراشدون من ضمن مجموعتنا الصغيرة، لم يشاطرنا إيّاه ابني وابنتي المعجبَان بما شاهداه، بل والمتحمّسان له من منطلق معطيات خاصّة بجيل الشباب وأولويّاته.

في هذا الإطار تذكّرتُ عالِم اجتماع المعرفة كارل مانهايم، الذي تضمّ مؤلّفاته كتاباً تحت عنوان “مشكلة الأجيال” تعبيراً عن مشكلة المناظير المختلفة لدى أعضاء الجيلَيْن؛ إذ دار نقاشٌ بيننا، بعد انتهاء العرض، أظهر إلى النور منظورَيْن مختلفَيْن على مستويَيْن متشابكَيْن هُما جيلي وجيل أولادي من ناحية، وجيل عروض فرقة كركلّا العائد إلى السبعينيّات من القرن المنصرم وجيل العرض الحالي من ناحية أخرى. واعتقد أنّه من المفيد نقل هذا الحوار الذي دار بيننا، والذي أردناه حبّياً وبنّاءً.

“- هل أعجبكم العرض يا شباب؟

* كثيراً. إنّه مثل السفر في الزَّمن…

– أيّ زمن هذا؟ هناك أزمان مُتداخلة في هذا العرض. ولا علاقة فعليّة بين زمن وآخر. كيف تسافر سفينة لبنانية وتَعبر قناة السويس في زمن لم تكن بعد قد شُقَّت هذه القناة؟

* هذا هو السفر في الزَّمن. إنّه سفرٌ خياليّ محض!

– قل لي فقط متى ذهب اللبنانيّون ماضياً إلى الهند والصّين، كما هو وارد في العرض؟ ما أعرفه هو أنّهم ذهبوا إلى قرطاج فقط، في زمن الكنعانيّين – الفينيقيّين. فقد ذهبوا غرباً أكثر ممّا ذهبوا شرقاً.

* هناك، في المشهد النهائي، رسومٌ لسفينةٍ في ميناء البندقيّة…

– ولكنّ الكنعانيّين – الفينيقيّين لم يزوروا أبداً هذه المدينة في زمنهم.

* زاره اللبنانيّون أيام فخر الدّين…

– غريب هذا الذهاب والإياب المزاجي في التاريخ البعيد والقريب.

* هذا هو تحديداً السفر عبر الزَّمن. بالمناسبة لماذا تبحثون دائماً عن رابط بين الأزمنة التاريخية؟ فالأزمنة كلّها مُتزامِنة إنسانياً وفنّياً في العرض. ألم تلمسوا ذلك؟

– لمسناه، ولكنّنا انزعجنا من المُفارقات التاريخيّة. نحن لسنا أمام قصيدة شعرية؛ نحن أمام قصّة. وهذه القصّة ينقصها خيطٌ يربط الأجزاء بعضها ببعض. ومن غير المسموح مَسْخ التاريخ بهذه الطريقة.

* ومَن قال لكم إنّ الأمر غير مسموح؟ لما لا يكون مسموحاً؟

– المنطق لا يسمح بذلك. لا يجوز خلط الأمور على هذا النحو، بل وتشويهها. فهل من المنطق مثلاً أن تذهب هذه السفارة اللّبنانية إلى إمبراطور الصّين لتقدّم له، في نهاية المطاف، مجموعة من الحوريّات؟

* هذا من وحي ألف ليلة وليلة. هذا من وحي تراثنا العربي. مشّونا، ما عليه…

– هذا ليس من التراث العربي ولا من التراث اللّبناني. فالهدايا كانت قديماً عندنا، إمّا من العاج والذَّهب والفضّة أو من الأدوات النادِرة. هل تعلم أنّ هارون الرشيد قد أهدى الإمبراطور شارلمان، في زمانه، ساعة فلكيّة، فيما التاريخ لا ينقل لنا ما الذي أهداه شارلمان في المقابل لهارون الرشيد؟!

* لا. لم أكن أعلم ذلك.

– ولو، حوريّات! وبالمناسبة ما رأيكم بالألبسة؟

* هي جميلة ومتنوّعة الألوان. ومُبهِرة للنَّظر، بخاصّة الهندية والصينية، في المشهدَيْن الهندي والصّيني.

– يا ليتكم شاهدتم ملابس “الخيام السود”، في السبعينيّات، أيام كركلّا الأبّ. كانت مدهشة بألوانها وأقمشتها ورسومها الشرقية العربية. كانت ساحرة.

* إلى هذا الحدّ؟

– نعم كانت ساحرة ومدروسة ومن تصميم أخصّائي بريطاني كان عضواً في الفرقة. كان يجول في البوادي وينقل منها تصاميمه وأقمشته وألوانه. في ذلك الوقت كنّا نشعر أنّنا أمام عرضٍ تراثيّ حقيقيّ، لا أمام عرض فولكلوريّ.

* وما الفرق بين الاثنَين؟

– الفرق كبير، التراث هو استحضارٌ للماضي لمعاودة عيشه من جديد. ولذلك له طابع تفاعلي. فالتراث، عند ابن منظور، يأتي من فعل ورث، يرث، بالمعنى الذي نعرفه. لكنّه يأتي أيضاً من فعل أرثِ النار، أي أيقَد النار.

* واو!

– الفرق كبير. فالعمل التراثي يدعو إلى المُشارَكة. أمّا العمل الفولكلوري، فيستدعي التذكير الشكليّ بالماضي فقط. لا معنى للعمل الفولكلوري، في حين أنّ العمل التراثي كلّه معنى.

* هكذا، يكون ذهب منّا المعنى اليوم …

– واكتفيتم بالشكل فقط.

* ولكن أنا لا أبحث بالضرورة عن معنى محدَّد في العمل الفنّي. يكفي أنّه يقدِّم لي صُوراً تجعلني أتعرّف إلى الماضي.

– هنا تكمن المشكلة. فماضي الفولكلور ليس ماضياً موضوعياً.

* أنا لا أفهم… لماذا هناك مشكلة ولماذا هناك فرق بالضرورة بين الفولكلور والتراث؟ فكلّه في نظري ماضٍ.

أصلاً أنا لا أحبّ الماضي كماضٍ. لا يعني لي لا التراث ولا الفولكلور. أنا أتماهى مثلاً مع الشابّ تيمور، في العرض، الذي يصرِّح أنّه ينوي السفر إلى المستقبل.

– هذا حقّك.

* أنا لا أشعر أنّي أنتمي حصراً إلى بلدٍ محدَّد… مع محبّتي الكبيرة للبنان. أنا أشعر أنّي أنتمي إلى العالَم كلّه، وأنّي قادر على العيش أينما كان على الأرض.

– ألا تشعر بحاجة إلى جذور؟

* جذورنا غير جذوركم. نحن من جيل يعجبه التغيير، يعجبه الانتقال والسفر. وهذا العرض الرّاقص دعوة إلى السفر. سافرنا من لبنان إلى عُمان والهند والصّين وبلاد فارس وتركيا والبندقية. كان السفر راقصاً وجميلاً.

– وعندما كان يتكلّم الإمبراطور الصّيني ومستشاره باللّغة الصينية. هل أعجبكم ذلك؟

* طبعاً. شعرنا وكأنّنا في فيلم سينمائي ينقل اللّغة المحليّة إلى الشاشة. هذا جميل؛ فضلاً عن أنّه كان مفهوماً عبر الترجمة”.

بعد هذا الحوار الطويل الذي شارَك فيه أبناء جيلَيْن، توصّلنا إلى نتيجة مفادها أنّ لكلّ منّا منظوره الخاصّ للدنيا والفنّ. مع التأكيد على أوجه الصواب في كلّ منظور من المنظورَيْن.

وفهمتُ هنا أنّ ما حدث بين جيلَيْ الجمهور شبيه إلى حدّ بعيد بما حصل بين جيلَيْ الفرقة: إنّ فرقة كركلّا الأولى لم تَعُد تُشبِه فرقة كركلّا الجديدة. تبدّلت الأمور كثيراً بين جماليّة فرقة عبد الحليم كركلّا وجماليّة فرقة ابنه إيفان كركلّا. لا أُخطِّئ لا هذا ولا ذاك، لكنّني ألاحظ ما يأتي:

* كانت أعمال فرقة كركلّا الأصليّة مُفعمة بألوان وعطور ومناخ عربي وبدوي لا مثيل له، من شأنه أن يجعلك تخرج مسحوراً من مسرح البيكاديللي، في قلب شارع الحمراء، في مدينة كانت تُدافع عن هويّتها العروبيّة بلغة الثقافة والفنّ. أمّا في عرض فرقة نيو – كركلا، فأنتَ أمام عرضٍ راقص جميل جدّاً ومتنوّع لا يسعى إلى ربط نفسه ثقافيّاً بأيّ أرض محدَّدة. فهو كما جاء في العنوان، مجرّد إبحار في طريق الحرير، في رحلة لا هدف ثقافيّاً لها.

* كانت فرقة عبد الحليم كركلّا تعتمد جماليّة محليّة مُنسجِمة مع تراثٍ كان قد بدأ بالأفول، يقوم على التعلّق بالأرض والقيَم الموروثة ومعاني الحضارة العربية التي كنّا ننتمي كلّنا إليها بقوّة ومن دون تحفّظ، مع نزعة لبنانية واضحة تربط تاريخ لبنان المُعاصر بتاريخ الإغريق القدامى، وتُوائِم بين الهويّة الثقافية اللبنانية والهويّة الثقافية العربية.

أمّا جماليّة فرقة إيفان كركلّا، فتقوم على فقدانٍ عام للجاذبيّة الثقافية يسمح بالطيران في الزَّمن من دون قيود، ذهاباً وإياباً، من دون الاكتراث بالمفارقات التاريخية، وبالاعتماد على صُور نمطيّة لا عمق سياسيّاً لها ولا التزام في الألبسة والألوان والموسيقى. فالألوان المُعتمَدة باتت تلك التي نراها في فرق الدبكة الفولكلورية، نافرة وزاهية، وحتّى بوليوديّة في وصلة الرقص الهندي. وهي تُناسِب جدّاً المُشاهدة عن مسافة بعيدة، في قاعات عرض كبيرة جدّاً، كتلك المُعتَمَدَة حاليّاً في عواصم كبرى حول العالَم. فالطموح الدّولي للفرقة الجديدة أسهم بكلّ تأكيد في هذا الخيار الجمالي، كما في جميع الخيارات الجمالية الأخرى: في الموسيقى التي لم يَعُد لها طابعٌ عربيٌّ طاغٍ، بل أضحت نوعاً من الـ tutti frutti في الأنغام والألحان المُنتمية إلى هويّات موسيقية مختلفة ومتباعدة جدّاً عن بعضها البعض.

هذا هو رأيي. ولكنّه ليس رأي أولادي الذين اعتبروا أنّ غياب الجمالية المحليّة حلّ مكانه فيضٌ من الجمالية الافتراضية (في الأمواج الهائجة وخلفيّة القوافل والفرسان، والسجّاد العجمي المُنسدِل الجميل). كما أكّد أولادي على أنّ مشكلة عروض الفرقة الأصلية تمثّلت في أنّها كانت قد بدأت تترهّل بسبب وقوعها في التكرار (حيث قيل لهم إنّ العروض السابقة باتت كلّها متشابهة ومتكرّرة). لذلك، فإنّ الانتقال من معايير (وقيود) الجماليّة المحلّية، المُعتمَدة سابقاً، إلى المعايير الجديدة التي باتت تعتمدها الفرقة اليوم تشكِّل مخرجاً للمأزق الثقافي والجمالي (والسياسي) الذي أضحت أسيرة له بعد حين. لذلك كلّه أعتبرُ في النهاية أنّ أولادي هُم على حقّ في وجهة نظرهم، فيما أنا لستُ على خطأ أيضاً في وجهة نظري.

المهمّ أنّني بتُّ أعتقد أنّ كارل مانهايم كان على خطأ عندما تكلّم على “مشكلة” الأجيال. فما أراه، بفضل عرض فرقة كركلّا الأخير، وما تلاه من مناقشة بين جيلَيْن، هو أنّ هناك، في كلّ حقبة زمنية، إعادة تأهيل هيكليّة في أُسس التفكير والعمل والتعبير لا تعجب بالضرورة أبناء الجيل السابق، لكنّها تُناسِب تماماً أذواق الجيل اللّاحق.

غير أنّ ذلك كلّه لن يمنعني من التمسّك بموقفي الذي يَعتبر أنّ عَولَمة التراث، أمرٌ لا يصحّ لا إبّستمولوجيّاً ولا فنّياً، وأنّ تحويل التراث إلى فولكلور، هو عمل لا يؤدّي سوى إلى مَسْخِه.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى