فريدة النقاش تقف على أطلال الحداثة (حازم خالد)

حازم خالد

الكاتبة المصرية تؤكد أن الاعتماد التقني الجماعي على الذات مشروط بالاستقلال الوطني، واختيار طريق التقدم الاجتماعي.

مؤلفة كتاب "أطلال الحداثة" هي فريدة النقاش الكاتبة والناقدة والمترجمة، تخرجت في قسم الأدب الإنجليزي جامعة القاهرة 1962، تكتب بانتظام في عدد من الصحف والمجلات المصرية والعربية، وشاركت في تأسيس جريدة "الأهالي". وهي عضو بارز في التجمع الوطني التقدمي الوحدوي اليساري المعارض، كما رأست تحرير مجلة "أدب ونقد"، وهي أيضًا رئيسة جمعية ملتقى تنمية المرأة، وللكاتبة العديد من المؤلفات، منها كتابان عن تجربتها كسجينة سياسية في عهد الرئيس أنور السادات هما "السجن .. الوطن"، "السجن دمعتان ووردة".
وفي كتابها الصادر عن مؤسسة دار الهلال تحت عنوان "أطلال الحداثة" ترى الكاتبة إن تطور المجتمع وتغير القيم والأفكار هو دائمًا أكثر تباطؤًا وتعقيداً في بلدان الحضارات القديمة، وقبول الجديد أمر ممكن لكن التخلص من القديم أصعب كثيرًا، ذلك لأن إسقاط إرث المعوقات الثقيل عن ظهورنا حتى يحملنا خيالنا وأقدامنا إلى المستقبل الذي سنشارك فيه الإنسانية فهو عمل شاق ومركب وطويل المدى وهو ذاته يعني الدخول الجدي، الذي لا غنى عنه إلى الحداثة كمنظومة متكاملة، وهي انفتاح أيضًا على إمكانات متعددة تتحول الأشياء المعروفة والمستقرة إلى موضوعات لإعادة الفحص والتساؤل.
وتؤكد الكاتبة على أن الاعتماد التقني الجماعي على الذات مشروط بالاستقلال الوطني، واختيار طريق التقدم الاجتماعي، وهما الهدفان الرئيسان لحركة التحرر الوطني التي انتكست، وسوف يكون نهوضها الجديد مشروطًا بدوره بفعالية الثقافة الوطنية التقدمية، التي تنشد المثل الأعلى الاشتراكي في ارتباط وثيق بالجذور والحاجات الوطنية والإقليمية، ومن دون خضوع للاحتياجات الزائفة، التي تخلقها الإمبريالية.
بل إنها سوف تنهض في مواجهة هذه الحاجات الزائفة وفي خصم التحرر منها، وإلى أن يحدث هذا التحول الأساسي في المجرى العام لحركة التحرر الوطني، سوف تظل وديان التكنولوجيا، وآلات الطباعة المتقدمة معلقة في الفراغ أو مشروعًا استثماريًا لطبقة تابعة.
ويجري إنفاق الإعلاميين على دراسة جدواها، التي تتقاسمها بيروقراطية "العالم الثالث" مع السادة في المراكز ويتحمل البلد المعني ديونًا إضافية فوق ديونه من دون أن يسهم كل هذا في التنمية الحقيقية، والتي لا مفر من أن تتم في بلدان "العالم الثالث" بالاعتماد على الذات والاعتماد الجماعي على الذات، وهو ما يساوي تحرير الطاقات المكبلة للشعب العامل بمشاركته الفعلية في الثروة والسلطة، وحينئذ سوف يكون للمعارف العلمية الحديثة شأن آخر، وللإنتاج التكنولوجي المتقدم وظيفة أخرى تتخلق عليها الأرضية الملائمة لكي تلحق هذه الشعوب في مستقبل الأيام بركب الحضارة العلمية الجديدة، ليكون إسهامها أعظم بما لا يقاس؛ لأنه إسهام الشعب كله، ومن أجل الشعب كله.

• ما بعد الحداثة
تختار فريدة النقاش من تفسيرات ما بعد الحداثة ومواقف أنصارها للعرض والمناقشة التفسيرين والموقفين الضدين أي الأشد تناقضًا والأكثر رئيسة، ولأن فيهما أيضًا يمكن أن تتجلى حقيقة النظر لقضايا العالم الرأسمالي التابع أي عالمنا الذي يسمونه متخلفًا، وأيضًا للكيفية التي يتطور بها هذان الضدان داخليًا وخارجيًا في بلادنا وصورة الأدب والنقد المواكبين لهما أوالناتجين عنهما.
فترى أن التفسير الأول والأعلى صوتًا والأكثر نفوذًا على صعيد العالم كله هو التفسير الليبرالي بفكره المحافظ الجديد، الذي يرى أنه بسقوط الاشتراكية فإن العالم قد وصل لنهاية التاريخ، أما التفسير الثاني فيمثله الفكر الاجتماعي التقدمي الجديد، الذي ينطلق من حقيقة أن ما حل بالعالم قبل وفي ظل ما يسمى بالنظام العالمي الجديد هو أزمة عميقة، وكان المشروع الاشتراكي المناوئ للرأسمالية قد عجز عن الخروج منها وسرعان ما تعرض هو نفسه للهزيمة والانكسار.
وترى الكاتبة أن خلاصة الأمر أن ما بعد الحداثة هي الحالة الواقعية للبشرية التي عجزت لأسباب كثيرة عن التجاوز الصحي للرأسمالية، وخلق الشروط الجديدة لهذا التجاوز في زمن تلعب فيه وسائل الإعلام والثورة التكنولوجية دورًا مركزيًا، وتزيج الصورة الكلمة المكتوبة، فتقلل من شأن الأدب الذي يقاوم بطريقته، وتزدهر السيميولوجية، والتفكيكية كمناهج جزئية معزولة عن الأساس المادي والرؤية الكلية، وتتراجع فكرة الطليعة.

• توظيف الأموال والأفكار
تذكر الكاتبة أن شركات توظيف الأموال دخلت على الطريقة الإسلامية إلى وعي المصريين ووجدانهم، حتى من قبل أن تسرق ما في جيوبهم بعد كدح العمر في بلاد النفط وحين انهارت تركت إلى جانب الحسرات والبصمات أفكارًا مازالت الجماعات الدينية تستخدمها في الحصول على التأييد السياسي. ولا بد أن نعترف بأن الجماعات الدينية، التي أسست شركات توظيف الأموال على الطريقة الإسلامية، وتمتعت بمهارة خاصة، جعلتها تنجح في تقديم عملها الاقتصادي، الذي قام على أساس من الملكية الخاصة. فكانت تتعامل هذه الشركات في ساحة الوعي بثلاثة مفاهيم رئيسة تحولت إلى شعارات رائجة، وسهلة التداول مثل أوراق البنكنوت هي على التوالي: الرزق، البركة، الحلال والحرام، وذلك كي تعلن عن مضمونها الديني، وحصانتها المستمدة من الله مباشرة وتجتذب إليها. تبعًا لذلك ودائع المصريين الذين كانوا فقدوا الثقة منذ زمن طويل في قدرة الحكم القائم على حل مشكلاتهم، أو حماية مدخراتهم من أن يأكلها التضخم، بل كان بعض الشيوخ والمبشرين الدينيين، المعتمدين في أجهزة الاتصال الجماهيري، كما في الشركات، قد تباروا جميعًا لإثبات حقيقة دينية – من وجهة نظرهم – فحواها: أن ابتعاد المصريين عن الله أدى بهم إلى الهزيمة وفساد الحال، وأن ملاذهم الوحيد الآن هو العودة إلى الله حيث الإسلام هو الحل. ولكن عندما حلت الكارثة في الواقع الفعلي تفاوتت ردود الأفعال بين الموت والجنون والاكتئاب حين وجد المودعون أنفسهم، وكأنما تعروا فجأة، وسقطت أوهام كبيرة كانوا عاشوا عليها طويلًا، خاصةً أن الكارثة مصحوبة أيضًا بكشف المستور، وسبيل من الفضائح من كل لون، وجنس، ومخدرات، ومضاربات، وشذوذ وسياسة أيضًا، فقد كان مسئولون كبار متورطين مع هذه الشركات.
ولم تكن هذه الشركات التي سقطت بعد هيبتها من دون أن يتوقف عملها إلا "خصوصيتنا الرأسمالية التابعة"، وقد تجلت هذه الخصوصية في منظومة الأفكار ومثلت المفاهيم: الرزق، البركة، الحرام والحلال، وراجت في الإعلانات التي عمرت السوق وأجهزة الاتصال الجماهيري، وبدا رجالها وقد طالت لحاهم وجلابيبهم، ولم يكن مفهوم الخصوصية على هذا النحو الشرير إلا مزاوجة بارعة بين الاستبداد الفكري والسياسي بالضرورة، وبين الحرية الاقتصادية التي لا تحدها حدود، بينما راهن المودعون على حدود الضمير الذي يخاف الله.

• أصولية " هنتنجتون "
تتطرق المؤلفة إلى ما قدم كل من "فرانسيس فوكايا ما"، و"صمويل هنتنجتون" بأفكارهما الجديدة المتجذرة في الفلسفة المثالية بتوجيهاتها الرجعية، صورة لأزمة الثقافة التي هي وجه من وجوه أزمة الرأسمالية الشاملة والعميقة، وتبين الدراسة المتأنية لأفكارهما أنهما يلتقيان في المنطلقات والخطوط الرئيسة ويتفقان على هيمنة الرأسمالية في العالم كضرورة . وإن كان "هنتنجتون" يلوح بصراع الحضارات الذي لا مفر منه، ويدعو كلًا من أميركا وأوروبا بتصفية الخلافات بينهما ليتوحدا في مواجهة الآخرين من مسلمين، وكونفوشيوسيين، وبوذيين، ومسيحيين آرثوذكس شرقيين بعد أن اخترقت الحضارة الدين واللغة، وضيق آفاقها، وقال باستحالة الحوار والتفاعل الصحي بين الحضارة؛ لأن كل حضارة – في وجهة نظره – جوهر نقي فريد خاص به لا تشوبه ثائبة.
ومما سبق يتضح إن "هنتنجتون" يعيد إنتاج نظريات الاستشراق الاستعمارية ويلبسها ثيابًا جديدة، فإن الشرق الذي هو "الموضوع" كان قد أخذ بدوره ينتج ردود أفعاله المتباينة ضد التبعية والهيمنة الإمبريالية بالإعلاء من شأن خصوصيته بعد أن كانت هذه الهيمنة قد عطلت نموه الذاتي وقطعت عليه الطريق.

• رسالة في الطريق
وفي المقابل تعرض الكاتبة نموذج محمود شاكر قائلةً: اعتبر نموذج الشيخ محمود شاكر هو أفضل تمثيل من وجهة نظري لهذه الحالة التي اعتبرها الوجه الآخر لمركزية هنتنجتون اليورو – أميركية الموغلة في تعصبها ويمينيتها.
فقد وضع شاكر في كتابه "رسالة في الطريق" إلى ثقافتنا أسس هذا التمركز العربي الإسلامي، الذي طالما حلم في بدء حياته باستعادة الخلافة الإسلامية وعصرها الذهبي وهجر الجامعة العصرية التي كان طالبًا فيها يدرس الأدب العربي الإسلامي، ليعتكف في أرض الحجاز حيث ولد الرسول العربي "ليقرأ الشعر والأدب ويحفظ بعض أهم إنتاجه عن ظهر قلب".
وهو يصاب بالهلع من الفكر الجديد الذي مثله طه حسين الذي أخذ يطبق منهجًا في البحث العلمي كان قد درسه في فرنسا – هو منهج ديكارت في الشك – فوصل به بحثه إلى ما قال عنه: إنه انتحال "الشعر الجاهلي" الذي وُضع جزء منه في العصر الإسلامي وقدم أدلته التاريخية المقارنة على فكرته.
وخلصت المؤلفة إلى أن هنتجنتون وشاكر يقدمان وجهي العملة لأزمة الرأسمالية العالمية، التي تهدد مصير البشرية كلها، وتكاد تدفع بالكوكب إلى حالة من الفوضى الشاملة.
ففي الوقت الذي يمكن أن تتيح فيه وسائل الاتصال المتسارعة في تقدمها فرصة غير مسبوقة للتفاهم والتواصل بين البشر والشعوب تجعل الرأسمالية هذا التواصل صعبًا وتزكي نيران التقوقع والتعصب مما حدا بمنظمة اليونسكو أن تنشيءَ برنامجًا خاصًا لدراسة التداخل الثقافي وهو البرنامج، الذي توقف لأن الدولتين من دول المراكز هي أميركا وبريطانيا لم تدفع حصتها لميزانية المنظمة العالمية.

• فلسفة التنوير
وفي الفصل الخامس والأخير تجيب فريدة النقاش عن تساؤلها عن فلسفة التنوير، بأنها فلسفة العقل، التي نشأت في أوروبا في القرن الثامن عشر، أي بعد قرنين من بداية الرأسمالية، وهي فلسفة تقرر أن الوعي هو العامل الحاسم في تطور المجتمعات، وأن الشرور الاجتماعية نتيجة مترتبة على الجهل بفهم الطبيعة الإنسانية.
وقد نشأت فلسفة التنوير في عصر التمهيد للثورة البورجوازية الكبرى، وكرد فعل على التزمت الديني والأيديولوجيا الإقطاعية، التي تأسست على هذا التزمت، ومن ممثليها فولتير، وروسو، ومونتسكيو، وشيلر، ولسنج، وجوته.
وترى الكاتبة أن حقيقة المأزق الذي يقع فيه المنورون الجدد؛ لأنهم يتطلعون إلى تكرار رسالة التنوير الأوروبي في واقع مختلف ومتخلف وفي زمن تغرب فيه شمس العقل الانتقادي الأوروبي بعد أن دخلت البوروجوازية التي هي وليدة التنوير في أزمة عميقة، فولدت الفاشية والأصوليات المختلفة، وبعد أن كانت قد تمددت خلال قرون عن طريق الاستعمار، الذي عاود البروز بوجهه العسكري الصريح وأكثر من ذلك، فإن النقد الاشتراكي الجذري الذي استشرف ضرورة تجاوز البورجوازية ليفعل التنوير فعله الإنساني الكوني.
إن إعمال العقل في شئون الحياة وإعماله أيضًا في الواقع القائم على الاستغلال والتبعية دون أن تكون مرجعيته هي فقط ما قاله المنورون الأوائل، والذين تكشفت نقاط ضعفهم، ألا يعني تحرير الجماهير من قبضة الخرافة لتكون قادرة على الإطاحة بالأوهام تحريرًا لقدراتها أيضًا على تغير هذا الواقع المزري الذي تحكمه رأسمالية تابعة وكأنها أبدية. ويعني هذا أن الجناح الثاني لحركة التنوير الجديدة لا بد أن يكون إعمال العقل في هذا التسلط الرأسمالي التابع بغية التخلص منه باعتبار أبديته هي بدورها وهم من الأوهام، أي أن التنوير الحقيقي سيظل مشروطًا بالتغيير الشامل ليؤتي ثماره، أي بالتجاوز للوضع الراهن. (خدمة وكالة الصحافة العربية).

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى