فصل في إجهاض الأفكار وتصفيتها (مصطفى اللباد)

 

مصطفى اللباد

نشرت «السفير» يوم الثلاثاء الماضي في 21 من الشهر الجاري مقالاً بعنوان: «فصل في إجهاض الثورات وتصفيتها»، يتوسل تجربة الزعيم الوطني الإيراني محمد مصدق والانقلاب الأميركي-البريطاني عليه في العام 1953 لعقد مقارنة ضمنية بينه وبين من يجلس على كرسي الرئاسة في مصر الآن ليضعهما معاً في وحدة حال موضوعية، ومفتتحاً المقال – المغالطة بسؤال: هل نكون قد دخلنا في طور تصفية الثورة المصرية دون أن ندري؟ يثير المقال الكثير من الشجون، سواء عن تجربة مصدق الوطنية والانقلاب عليها أو عن الأوضاع الراهنة في مصر، والتي لا يمكن النظر إليها من زاوية أن محمد مرسي يمثل الثورة وكل خصومه يمثلون الثورة المضادة، كما أراد المقال بدهاء أن يقول، بل إن العكس ربما كان صحيحاً!
يفتتح المقال سرديته بالفقرة التالية بين الأقواس: «ادعت بريطانيا على مصدق أمام محكمة العدل الدولية بزعم انتهاك حقوقها النفطية، فسافر بنفسه إلى لاهاي مدافعاً عن حقوق بلاده النفطية، ووصف بريطانيا بأنها دولة إمبريالية تسرق قوت الإيرانيين المحتاجين». وفي طريق عودته مر بالقاهرة حيث استقبله النحاس باشا واحتفت به الجماهير وهو في طريقه من المطار إلى فندق «شبرد»، من دون الإشارة لمصدرها. وهي فقرة وردت بحذافيرها في (مقالي في صحيفة «النهار»: زيارة جديدة إلى الزعيم محمد مصدق – 29 آب 2008). على أن الأمر هنا لا يمثل فقط افتئاتاً على الأفكار، وإنما أيضاً على التاريخ والتجارب الوطنية في الشرق الأوسط، عبر مقايسة ضمنية ظالمة بين الزعيم الوطني الإيراني محمد مصدق والدكتور محمد مرسي.

الفوارق الكبرى بين مصدق ومرسي

أولاً، أسقط التحالف الأميركي – البريطاني في العام 1953 الزعيم مصدق في ما عرف لاحقاً باسم الخطة «أجاكس»، لأن مصدق ضرب مصالح الاحتكارات النفطية الدولية الكبرى، عبر تأميم النفط الإيراني بعد يومين فقط من توليه رئاسة الوزراء. أما محمد مرسي فلم نر له قراراً واحداً بعد مرور عام الآن على توليه الرئاسة، يشتمّ منه حتى النية في مخاصمة الولايات المتحدة الأميركية، ناهيك عن ضرب مصالحها بأي صورة كانت.
ثانياً، أمّم مصدق النفط الإيراني لمصلحة الشعب الإيراني، فيما ينظر مرسي راهناً في مشروع جديد للاستثمار في منطقة قناة السويس يجعل سيادة مصر الوطنية عليها محل شك وتساؤل ويفتح الباب واسعاً أمام جهات دولية وإقليمية للنفاذ إلى معادلاتها.
ثالثاً، ضرب مصدق مصالح كبار الملاك بمشروعه للإصلاح الزراعي، أما إدارة مرسي فتعقد اللقاءات في البلاد وخارجها لعقد الصفقات والتصالح مع رجال الأعمال المرتبطين بعهد مبارك البائد في تنكر واضح للثورة وقيمها وأهدافها.
رابعاً، قاد مصدق ونفّذ ثورته، وكان طبيعياً أن يتولى المسؤولية التنفيذية بعدها ليحقق أهداف الثورة التي قادها. أما مرسي فلم يكن قائداً لثورة المصريين في «25 يناير» 2011، ولم يكن هو أو أي شخص من جماعته رمزاً لهذه الثورة، ووصل إلى السلطة بطريق طويل من النكوص عن أهداف الثورة، ابتدأ بترقيع دستور النظام القديم بعد شهرين فقط من قيام الثورة ليغلق الطريق على تفاهم وطني كبير وعلى دستور عصري وحديث يحقق آمال المصريين، ثم عادت الجماعة لتبرم الصفقة تلو الأخرى مع المجلس العسكري وصولا إلى انتخابات برلمانية، في الوقت الذي كان الثوار الشباب فيه يضحّون بحياتهم في التحرير وما حوله في تظاهراتهم ضد هيمنة العسكر. وحين نكث «الإخوان» بوعدهم المسبق كالعادة بعدم ترشيح رئيس للجمهورية، ونزلوا بمرشحين أحدهم أساسي، الشاطر والآخر احتياطي مرسي، للاستئثار بالمنصب، وسمحوا بفتح الطريق أمام مرشح النظام السابق ليصل إلى دورة الإعادة. وفي الإعادة فاز مرسي بأغلبية ضئيلة، ليس اقتناعا بشخصه وإنما لرغبة المصريين في قطع الطريق على مرشح النظام السابق.
خامساً، تتبنى جماعة «الإخوان المسلمين» وممثلها في الرئاسة الأجندة النيوليبرالية في الاقتصاد وتتماهى مع التراتبية المعلومة في الاقتصاد الدولي، أما مصدق فكان قريباً من الجماهير وروح العدالة الاجتماعية فأدخل الضمان الاجتماعي لأول مرة في تاريخ إيران، ناهيك عن تحديه للمصالح الاقتصادية لإمبراطورية العالم الكبرى. هنا أستعير كلمات مصدق أثناء محاكمته للتدليل على الفارق الكبير بين خصوم الإمبريالية ومهادنيها: «نعم إنها خطيئتي، خطيئتي الكبرى، وحتى الأكبر، أنني أممت صناعة النفط الإيرانية ونبذت نظام الاستغلال السياسي والاقتصادي لإمبراطورية العالم العظمى. وذلك على حساب نفسي وعائلتي والمغامرة بحياتي وشرفي وممتلكاتي. حاربت برحمة الله وإرادة الشعب الإيراني فقط نظام الجاسوسية العالمية والاستعمار… أنا واع بأن مصيري يجب أن يكون مثالاً في المستقبل في كل الشرق الأوسط لكسر أغلال العبودية لتلك المصالح الاستعمارية».
سادساً، أسس مصدق «الجبهة الوطنية – جبهة ملي» قبل توليه رئاسة الوزراء مع شخصيات وطنية إيرانية كبرى، أما مرسي فكان عضواً في جماعة سرية، «الإخوان المسلمين»، ويأتمر مثل سائر الأعضاء فيها بقرارات زعيمها والسمع والطاعة له. وإذ كان مصدق وحتى النهاية مالكاً لقراره، إلا أن تراتبية مرسي في الجماعة ووضعيته الحالية لا تشي بأنه في مركز صنع قرارها بل يسبقه في ذلك آخرون غير منتخبين من الشعب المصري أمثال الأساتذة: محمد بديع، خيرت الشاطر، محمود عزت ومحمود غزلان.
سابعاً، كان مصدق مرشح الجبهة الوطنية الأول وزعيم الثورة التي قادها، أما مرسي فكان مرشحاً احتياطياً لمرشح الجماعة الأساسي خيرت الشاطر، الذي حجب عن الترشح فانفتح الباب أمام مرسي دون إرادة منه. ثامناً، قاطع الغرب النفط الإيراني وفرضوا حصارا نفطيا ضاريا على إيران، أما مرسي وإدارته فيحظيان بدعم الغرب وأميركا تحديداً، فضلاً عن المؤسسات الدولية المانحة مثل صندوق النقد الدولي.
تاسعاً، أثبت مصدق قدراته التنفيذية العالية في المواقع التي شغلها منذ شبابه، فكان وزيراً للمالية في العام 1921 وعمره 39 عاماً ثم وزيراً للخارجية في العام عام 1923، ومعارضته لتنصيب رضا ميربنجي شاها على إيران في العام 1925، وصولاً إلى تأسيس «الجبهة الوطنية – جبهة ملي» في نهاية الأربعينيات وانتهاء بانتزاعه منصب رئاسة الوزراء في العام 1951. أما مرسي فلم يعرف عنه الاشتغال بالسياسة حتى عودته من أميركا، على ما يقول الأستاذ ثروت الخرباوي العضو السابق في الجماعة، وبالتالي فنضاله السياسي المبكر وقدراته التنفيذية لا يمكن مقارنتها، وهي لم تتعرض إلى اختبار إلا عند توليه منصب الرئاسة، حيث يظهر لكل ذي عينين فشلها وتخبطها.
عاشراً، راهن مصدق طيلة فترة رئاسته للوزراء وحصرياً على تأييد الشعب الإيراني فأعلن استقالته من رئاسة الحكومة في تموز العام 1952 احتجاجاً على العراقيل التي وضعها الشاه أمامه. ساعتها هبت الجماهير الإيرانية المؤمنة بأفكار مصدق على اتساع الجغرافيا الإيرانية (طهران، أصفهان، همدان، كرمانشاه والأحواز) لتأييده، فأجبرت الشاه على النزول لإرادة مصدق. أما مرسي وبالرغم من بلوغ حملة التوقيعات الشعبية، حملة تمرد على رحيله، ملايين الأصوات، فقد قال قبل يومين فقط أثناء زيارته إلى إثيوبيا: «أتيت إلى الرئاسة بشق الأنفس، فكيف لي أن أغادرها بسبب بعض التوقيعات؟».
وأزيد فوق العشرة واحداً، تقول الحكمة الآسيوية المأثورة: تكلم حتى أراك، وحين نقرأ ونشاهد فصاحة وبيان مصدق نرى وطنيته وشعبيته والمستوى السياسي الرفيع الذي مثله، أما حين يتكبد المرء عناء قراءة ومشاهدة خطابات وحوارات طرف المقارنة المغلوطة الآخر فسيصدمه مستوى ثقافي وسياسي لا يتناسب مع مكانة مصر ووزنها وقدرها، وهناك عشرات الأمثلة التي يمكن استظهارها في هذا السياق.

الخاتمة

من المفهوم أن ينخرط كتّاب ومنظرو «الإخوان المسلمين» في السجال الفكري القائم الآن في مصر وخارجها حول وصول جماعة «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في أعقاب «الربيع العربي»، ومن الطبيعي أن ينحازوا على هذه الخلفية إلى الدكتور مرسي وتجربته. إلا أنه ليس من المفهوم أو الطبيعي والمعقول أن يعقدوا مقارنة ضمنية بين تجربة تاريخية بحجم تجربة الزعيم الوطني الإيراني الكبير مصدق وتجربة متعثرة يمثلها الدكتور مرسي وأقل ما يقال فيها إنها ملتبسة وغير مبدئية. إذا كان الرهان لتمرير الفكرة المغلوطة يعتمد على عدم إلمام ذاكرة القارئ بتجربة مصدق في الحكم التي انتهت في العام 1953 قبل ستين عاماً من الآن، فالأفكار لا تنتهي ولا تموت، ومحاولة إجهاض الأفكار وتصفيتها مآلها حكماً إلى فشل. أما إذا كان الرهان على أحد تفسيرات التاريخ باعتباره «رواية القصص» وأن كل ذي مصلحة يرويها على الشاكلة التي تناسبه وتخدم أغراضه، فإن القصص، مثلها مثل الأفكار، وعلى خلاف السلطة غير قابلة للسطو عليها. ما زال مصدق يعيش في الذاكرة بالمبادئ وبالقيم التي مثلها وناضل من أجلها، أما الآخرون المراهنون على الإسناد الأميركي والإقليمي، فربما يحسبهم البعض أيقاظاً في الحاضر ولكنهم في التاريخ رقود!

صحيفة السفير اللبنانية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى