فـرص الـحـل الـسيـاســـي فـــي ســــوريــــــا (رجاء الناصر)

رجاء الناصر

الـحـل السـيــاســي هــو المـمـكـن الـوحـيـد، وهــو وحـده طـريـق الإنـقــاذ، وإلا، فـإن الأزمـة الـسوريـة ستـبـقـى محـكـومـة بـمسـار تـدمـيـري تـراجـيـدي
في الوقت الذي تتصاعد فيه أعمال العنف في سوريا وتسَّد فيها آفاق الحل السياسي بسبب تمسك السلطة الحاكمة من جهة، وأطراف من المعارضة من جهة أخرى بالحل العسكري والأمني.. وفي ظَّل قلق جدي على مصير سوريا الكيان والمجتمع، ويأس قطاعات شعبيه واسعة من أمكانيه الحسم العسكري لصالح أحد الطرفين بسبب توازنات القوى العسكرية والسياسية، سواء على المستوى العسكري الميداني، أو على المستوى السياسي والدولي.
في هذا الوقت يطرح تساؤل محق هل هناك فرصة لحَّل سياسي ينهي الأزمة ويضع حداً لهذا الاستنزاف في القوى وفي الضحايا وفي بنية المجتمع. أم أن الأزمة السورية محكومة بمسار تراجيدي تدميري لا يمكن تجاوزه، مما يستوجب التماشي معه حتى النهاية، رغم مأساوية تلك النهاية؟
في هيئة التنسيق الوطنية… لدينا قناعة واضحة على أن الحل السياسي للأزمة السورية هو الممكن الوحيد.. وهو وحده طريق الإنقاذ.. وهي قناعة قائمة على قراءة متأنية للواقع الراهن ولموازين القوى من جهة، وعلى تحقيق الأهداف المطلوبة من جهة اخرى في ظل تعقيدات ومتطلبات التغيير. وتلك القراءة تركز على مجموعة من المقاربات:
أولها – قراءة لطبيعة الأزمة: فالأزمة السورية ناجمة أصلاً عن طبيعة النظام الحاكم في سوريا منذ ما يزيد عن أربعة عقود على الأقل، فالنظام الاستبدادي الشمولي وما أنتجه من فساد ومن تعطيل للحياة السياسية ومن مظالم اجتماعية ومن إهدار للقيمة الإنسانية للفرد والجماعات وضع سوريا خارج إطار التقدم المطلوب، بل خارج التاريخ، وأضحى النظام الحاكم، بسبب تغول السلطة الأمنية فيه، عاجزاً عن إي إصلاح او تطوير إيجابي من داخله، وهو ما استوجب الثورة على هذا النظام التي جاءت في سياق الثورات وحركات الاحتجاج الشعبية في أكثر من قطر عربي.
وقد أثبتت تجربة الأشهر الإثنين والعشرين الماضية عقم النظام وعجزه عن إصلاح ذاته رغم كل الفرص التي أتيحت له.
ثانيها ـ إن الثورة الشعبية، التي انطلقت سلمية وتحت شعارات الحرية والكرامة، استطاع النظام ان يفرض عليها التحول إلى ميدان العمل العنفي المسلح عبر عنفه المنفلت من أي عقال، هذا الانفلات الذي خلق حاضنات للعنف المضاد، وهو ما أدى في النتيجة لاختلاط بين مبررات وأهداف الثورة من حيث هي ثورة تغيير ديموقراطي من أجل بناء الدولة المدنية الديموقراطية، وبين مشاريع وأجندات خاصة داخلية وخارجية ومشاريع لأنظمة استبدادية تختلف مع النظام في حامله الاجتماعي والأيدلوجي وتلتقي معه في طابعه الاستبدادي.
وقد ظهر هذا التدخل عبر صراع الشعارات، حيث طرح شعار إسقاط النظام كهدف مركزي مقابل شعار التغيير الديموقراطي، ولم يكن هذا الطرح عبثياً ولا لمجرد الإثارة الشعبوية.. حيث أن شعار إسقاط النظام ونقطة على السطر، الذي جرى الترويج له بقوة عبر حملة إعلامية وسياسية منظمة، فتح الطريق امام كل الأجندات وهو ما شرًّع مسائل أساسية:
الأولى: طلب التدخل العسكري الخارجي في مرحلة من المراحل تحت مسميات الحظر الجوي والمناطق الآمنة، رغم خطورة هذا التدخل على السيادة الوطنية.
الثانية: شرعنة انتشار العمل العنفي من قبل قوى متطرفة معارضة للنظام أيديولوجياً ومتماثلة معه في أسلوب الحكم.
الثالثة: استخدام العنف لمواجهة النظام، حيث ان استخدام العنف وتحقيق النصر بواسطته سيضع المنتصرين على رأس السلطة ليتحكموا في مسار تكوين النظام الجديد.
لقد تمكنت هيئة التنسيق من إعادة الارتباط النظري بين شعار إسقاط النظام «الشعبوية»، وبين الهدف الاستراتيجي وهو التغيير الديموقراطي، برغم كل ما واجهته من حملات تشكيك منظمة، إلا أن هذا الارتباط لم يجر تسويقه شعبياً بشكل كاف، ما أدى إلى اختلاط بين الثورة الديموقراطية وبين حالات العنف المضاد وإفرازاته وما أنتجه من مساهمة في تدمير المجتمع وتمزيقه.
في ضوء ما سبق طرحت هيئة التنسيق رؤيتها للحل السياسي، منطلقة من ان طبيعة الحل السياسي مرتبطة بشكل وثيق بإمكانية هذا الحل، وتلك الرؤية تقوم على وضوح الهدف.. وسلامة قراءة الواقع وموازين القوى.. وآليات تحقيق الهدف.
في الأهداف:
– يبقى الهدف المركزي بالنسبة لهيئة التنسيق هو التغيير الديموقراطي الجذري والشامل وإسقاط النظام الديكتاتوري الفاسد لحساب الدولة المدنية الديموقراطية.. مدركة أنه لا يجوز تحت أي اعتبار التنازل عن هذا الهدف وإضاعة فرصة التغيير التاريخية، حيث أن الإبقاء على النظام يعني العودة بسوريا إلى حالة شديدة الظلامية لن تكون مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي سوى صورة مصغرة عنها.
– ضرورة الحفاظ على وحدة الدولة والمجتمع، حيث أن العنف المضاد، في ظل الطائفية والمذهبية والاثنية في مجتمع تعددي بطبيعته وفي إعلاء العملية الثأرية على حساب الوحدة المجتمعية، يمزق بالضرورة الدولة والمجتمع، وخصوصاً أن هناك مشاريع خارجية تتبنى عملية التقسيم أو التمزيق السياسي والاجتماعي للكيان السوري.
إن تشابك هذين الهدفين، التغيير الديموقراطي والحفاظ على وحدة الدولة والمجتمع، يرسمان الصورة المعقدة للواقع السوري ويمنعان الانجراف نحو انتصار قوى ديكتاتورية متصارعة على أسس ايديولوجية على حساب الهدف المركزي وهو إقامة الدولة المدنية الديموقراطية.
في قراءة الواقع وموازين القوى الذي تطرقنا إليه في المقدمة، نجد أنه بعد ما يقارب السنتين من انطلاق الثورة وما افرزته من تضحيات ودمار لم يتمكن اي طرف من حسم الصراع لمصلحته عسكرياً.
كما نرى أن المسالة السورية أضحت مدوَّلة بشكل كبير، نظراً للارتهان الاضطراري والعملي لقوى الصراع العنفي للقوى الخارجية الداعمة والممولة والمسلحة لقوى الصراع، مما لم يعد من الممكن الاحتكام الى القوى المحلية في إدارة الصراع وحسمه، بل بات محكوماً بالصراع أو التنافس الدولي، كما هو محكوم أيضاً بالتوافق الدولي الذي أخذت بعض مؤشراته بالظهور عبر المفاوضات الروسية/ الأميركية وعبر محاولات السيد الأخضر الإبراهيمي في إنجاز تسوية سياسية، وخصوصاً أن الإدارة الأميركية الراهنة باتت تستشعر بأن الحرب المفتوحة في سوريا، رغم آثارها المدمرة على المجتمع السوري، إلا أن آثار هذا الدمار ستشمل المنطقة كلها وقد تخرج عن الأهداف المرسومة لها في ذات الوقت الذي بدأ فيه الروس «بالتضايق» من عنف النظام السوري ومن تنامي القوى الأصولية في المجتمع السوري.
أما عن طبيعة الحل السياسي وآلياته وفق روية هيئة التنسيق فهو يقوم على:
1 – الانطلاق من قضية إيقاف العنف باعتباره المدخل لأي حلَّ سياسي، وفي أي حل واقعي وعملي لا يمكن أن يتوقف العنف في موازين القوى الحالية إلا بوقف متزامن لإطلاق النار. ومن دون هذا الوقف المتزامن يضحى مطلب إيقاف إطلاق النار من قبل فريق من الفرقاء اولاً طلب استلام، وهو طلب غير واقعي في ظل شعور كل طرف بأنه لا يزال قادراً على تحقيق الانتصار أو فرض حرب طويلة المدى على الأقل.
إن وقف إطلاق النار المتزامن لا يمكن أن يتحقق بإرادة ذاتية للمتقاتلين، مما يقتضي وجود قوة قادرة على فرضه، والقوة الوحيدة القادرة هي المجتمع الدولي، أي توافق القوى الداعمة والمؤثرة على قوى العنف والمالكة لمصادر تمويله وتسليح المتصارعين، وحجب الحماية عنهم.
من اجل ذلك تقوم رؤية هيئة التنسيق على ضرورة تحقيق توافق دولي روسي/ أميركي يتوج بقرار دولي صادر عن مجلس الأمن ملزم للأطراف المتصارعة، وفق الباب السادس لميثاق الأمم المتحدة، ويملك آلية تنفيذ صارمة عبر قوات حفظ سلام تملك صلاحية تطبيق هذا القرار. ونحن هنا عندما نتحدث عن إلزام من جهة وعن الباب السادس من جهة ثانية فلأننا ندرك أنه لا توجد إرادة ذاتية للأطراف المسلحة لوقف العنف، كما ندرك أن تطبيق الفصل السابع سيرهن استقلال سوريا لمجلس الأمن، حيث أن تجارب تطبيق الفصل السابع كانت كارثية كما رأينا في العراق، وليبيا.
2- خلق مناخات مهيأة للعملية السياسية، وفي مقدمها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين والمخطوفين، والسماح بعودة آمنة للمبعدين والنازحين، وتنفيذ إصلاحات إسعافية عاجلة تساعد على عودة قطاعات واسعة من اللاجئين والنازحين إلى أماكن سكنهم وتأمين العلاج المناسب للجرحى والمصابين، وعندما نقول بإسعافات عاجلة للحالات الطارئة فلأننا ندرك أن علاج تلك المسائل يحتاج إلى زمن طويل يفوق طبيعة المرحلة الانتقالية المطلوبة.
3- البدء بعملية تفاوضية بين النظام والمعارضة برعاية المبعوث الدولي والأممي، على أن يتم تحديد كل متطلبات العملية التفاوضية، من تحديد وضوح الهدف التفاوضي وهو الانتقال بسوريا من النظام الديكتاتوري الراهن إلى نظام ديموقراطي تعددي، ومن تحديد دقيق للقوى المشاركة في عملية التفاوض وهي المعارضة بقواها ورموزها الواضحة وبقوى النظام الحالي، ومن تحديد للزمن حيث يتم تحديد برنامج زمني لإنجاز مهام التفاوض وتحديد ضمانات تنفيذ نتائج التفاوض.
وترى الهيئة أن الخطوة الأولى في التفاوض هي تعليق الدستور الراهن وإصدار إعلان دستوري يعطي الحكومة الانتقالية كل الصلاحيات لإدارة الدولة بشكل تام، وهو بالقطع يشمل السلطات التنفيذية والتشريعية والسيطرة على الأجهزة الأمنية والعسكرية وتقوم الحكومة الانتقالية، التي نرى أن ترأسها شخصية معارضة مقبولة من جميع الأطراف، بتحضير البلاد للمرحلة القادمة عبر:
– إنهاء تغًّول الأجهزة الأمنية على الدولة والمجتمع وإعادة دمج المؤسسة العسكرية وهيكلة الأجهزة الأمنية.
– تأمين الأوضاع المعيشية والحياتية للمواطنين.
– إعداد مشاريع قوانين لإعادة تنظيم الحياة السياسية.
– إعداد دستور جديد للبلاد على قاعدة بناء نظام ديموقراطي برلماني تعددي.
– إجراء انتخابات عامة وفق الدستور الجديد وتسليم الحكم للسلطات المنتخبة.
تلك هي رؤيتنا للحل السياسي في سوريا، آخذين بعين الاعتبار ضرورة تشكيل قطب ديموقراطي حقيقي وفاعل لأنه وحده ضمانة تحقيق الشق الداخلي من علاج الأزمة، وليأخذ القطب الديموقراطي دوره عليه أن يمارس فعلاُ سياسياً على الأرض عبر تشكيل لجان العمل المدني في جميع المناطق السكنية لحماية السلم الاجتماعي، وتعزيز النضال السلمي من اجل تغيير النظام، وأن يمارس أيضاً فعلاً سياسياً لكسب أصدقاء على المستويين الإقليمي والدولي وشرح حقائق الوضع السياسي ومخاطر الحرب العبثية على المنطقة والعالم.

صحيفة السفير اللبنانية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى