تحليلات سياسية

فلاديمير بوتين أو ستالين الجديد.

فلاديمير بوتين هو ستالين المرحلة الراهنة والقادمة من تاريخ روسيا الاتحادية. فهو الذي اعتبر في العام 2005 أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان الكارثة الجيوسياسية الأكبر في القرن العشرين وهو الذي عبّر عن تقديره لشخص الزعيم السوفياتي الراحل جوزف ستالين الذي اعتبره بوتين مؤسس القوة السوفياتية العظمى بحيث أمر بإعادة تدريس الحقبة الستالينية للتلاميذ في المدارس الرسمية بعد تحريمها لأكثر من ستين عاماً مضت.

في مقالة نشرتها صحيفة “روسيسكايا غازيتا” الروسية الرسمية حدّد فلاديمير بوتين أولويات عمله كرئيس لروسيا، رأى أن “إعادة تسليح روسيا أصبحت ضرورية لمواجهة سياسة الولايات المتحدة والحلف الأطلسي في مجال الدفاع الصاروخي، مما يفرض عدم تخلينا عن قدراتنا للردع الإستراتيجي والتي تشكّـل الضمانة الأساسية لأمتنا”، كان ذلك إشارة من بوتين إلى السلاح النووي والصواريخ العابرة للقارات والمقاتلات والغواصات وذلك عبر أضخم برنامج للتسليح في البلاد منذ عقود طويلة تبلغ قيمته 23 ألف مليار روبل أي ما يقارب الألف مليار دولار.

إذن الأولوية في حسابات بوتين هي لموقع روسيا في الدائرة المحيطة بها وفي الدوائر الأبعد، وهنا يكتسب البعد الأمني العسكري أهمية خاصة باعتباره المدخل لحماية المصالح الروسية ودور روسيا دولياً وللجم سياسات الناتو وأطواق الدروع النووية التي يدرك سيد الكرملين أنه لا يمكن تفسيرها بأنها تدابير وقائية ضد ما يسميه الغرب “الخطر الإيراني”.

كيف يفكّـر فلاديمير بوتين الذي لا يخفي أحلامه بأنه يطمح لاستعادة موقع “روسيا السوفياتية” التي أغرقها بالفوضى الرئيس الأسبق بوريس يلتسين بين العامين 1991 و1999؟ هنا لا بد من اعتبار الحقبة الرئاسية الجديدة هي استكمال للفترتين الرئاسيتين السابقتين له حيث كان هدفه الأساس تكريس الإستقرار السياسي والإجتماعي والإقتصادي والأمني، أي أنه في الفترة الرئاسية الحالية أولوية البناء هي على ما تمّ إنجازه للإنتقال بروسيا إلى مرحلة جديدة.

لا شك أن التعديل الدستوري في العام 2008 الذي جعل مدة الرئاسة ست سنوات بدلاً من أربع يعطي فلاديمير بوتين الوقت الكافي لتحقيق “أفكاره” ومقاربته لدور روسيا المرتقب، فهو فاز بنسبة 64% من أصوات الناخبين ومن دون الحاجة إلى دورة ثانية. أي أنه يملك تفويضاً شعبياً واضحاً يعطيه صفة الزعيم الوطني من دون منازع خصوصاً إذا أخذنا في الإعتبار أن خصميه الرئاسيين نال كل واحد منهما نسبة 17.8% من الأصوات (زعيم الحزب الشيوعي جينادي زبوجانوف) و8% (الملياردير ميخائيل بروخوروف)، ويعرف الرئيس بوتين أن نسبة الأصوات المرتفعة التي نالها هي تصويت شخصي له أكثر ما هي تصويت لحزبه “روسيا الجديدة” ترتب عليه مسؤولية شخصية إزاء الناخبين وتحديداً إزاء الطبقة المتوسطة والنخب الفكرية المنتمية لها، وحقيقة الأمر أن التنافس الفعلي مستقبلاً هو على هذه الطبقة بالذات، فهي مصدر الإحتجاجات كما أنها مركز التركيز من جانب الشخصية الليبرالية الصاعدة الملياردير بروخوروف الذي تجذب أفكاره حول ضرورة التحديث دون إجراء تغييرات راديكالية الكثير من أبناء الشعب الروسي المتعبين من فكرة الثورات والدماء، فالملياردير مؤهل لكسب شرائح واسعة من أحزاب اليمين واليمين المتطرف ما لم ينجز فلاديمير بوتين السياسات الإقتصادية والإصلاحية والإجتماعية التي وعد بها خلال حملته الإنتخابية، فالطبقة المتوسطة تشكّـل ثلث السكان وإرضاؤها يفترض زيادة الرواتب ورفع القدرة الشرائية والأجور والإعانات الإجتماعية المقدّرة بـ170 مليار دولار، كما أن بوتين معني بتحسين أوضاع أساتذة الجامعات الذين هم أقل شرائح المجتمع الروسي دخلاً وأكثرهم خطورة في تحريك الشباب نحو الشارع الروسي، وهذه مسألة ليست خافية على سيد الكرملين.

ما يطمئن بوتين في سياساته الإقتصادية والإجتماعية والعسكرية أن عائدات النفط الوفيرة “ورقة رابحة” في يده لإجراء التطوير المطلوب، وهذا ما جعله يوجّـه رسالة ذات دلالة للغرب: “لا يجوز تحديد قواعد اللعب في الاقتصاد والسياسة الدولية من وراء ظهر روسيا أو بمعزل عنها وعن مصالحها…”. والتلازم بين البعدين الإجتماعي والعسكري أساسي في تفكيره، من هنا الإستقرار الإجتماعي الداخلي هو جوهري للحؤول دون التدخل الغربي في المسألة الداخلية كما أنه يتيح لروسيا إمكانية التحرك بحرية ومرونة في الدوائر البعيدة لمعالجة “قضايا مكافحة الإرهاب الدولي والرقابة على الأسلحة وصون الأمن العام وفرض التعاون البناء…”، ففي تقديره أنه مع روسيا القوية تستعيد موسكو مكانتها وقدرتها للعب دور واسع، وهذا مربوط بـ”مرحلة تعزيز القدرات العسكرية والإنفاق على الجيش، فالقوات المسلحة يجب أن تكون قادرة على التصدي لأي نوع من الأخطار المحتملة وهي تحتاج إلى جيش وأسطول بأعلى درجات التأهب للقتال والتأهيل والتحرك السريع”.

روسيا “دولة عظمى” كما كانت مع الاتحاد السوفياتي تشكّـل العنصر الأبرز في حسابات بوتين، ولذلك من المرتقب أن يتخلى عن معاهدة خفض السلاح النووي التي وُقـّعت مع واشنطن منذ سنتين إذا أصرّت الولايات المتحدة الأميركية على خططها لنشر منظومات صاروخية دفاعية في أوروبا، وليس من قبيل المصادفة أن بوتين بدأ عملياً بإنجاز مشروع “يوراسيا” وهو الإتحاد الذي يطمح لإقامته مع عدد من جمهوريات الإتحاد السوفياتي السابقة.

أياً يكن الأمر تتطور إيجاباً علاقة روسيا بالصين مع فلاديمير بوتين، وهذه العلاقة هي التي أنجبت أن الدولتين استخدمتا مرتين حق النقض في مجلس الأمن بالموضوع السوري، وإذا كان من دلالة لذلك فهي أن روسيا والصين تمضيان معاً في سياسة كسر الأحادية القطبية الأميركية، وهكذا يخطئ من يظن أن موسكو يمكن أن تتراجع في الموضوع السوري الذي يشكّـل بالنسبة لها “معركة بعيدة” في الدفاع عن المصالح الروسية.

باختصار بوتين أو ستالين المعاصر يريد أن تكون روسيا ومعها الصين شريكة للولايات المتحدة الأميركية… ومثل هذه الشراكة تصاغ حالياً عبر البوابة السورية وتزويد الجيش الروسي خلال السنوات العشر القادمة بـ 400 صاروخ متطور عابر للقارات و8 غواصات مخصصة لحمل صواريخ نووية وخمس سفن قتالية و600 طائرة حربية وألف مروحية و2300 دبابة من الجيل الخامس و17 ألف آلية عسكرية.

أخيراً الرئيس فلاديمير بوتين قد يكون امتداداً في مقاربة لدور روسيا وموقعها على الخريطة الدولية للرئيس الروسي أندروبوف الذي حكم لفترة قصيرة سبّبت قلقا عميقا للغرب الأميركي والأوروبي والذي كانت أيضا سوريا عنصرا أساسيا في حسابات التوازن الدولي لديه.


صحيفة روسية رسمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى