تحليلات سياسية

فلسطين والمنطقة.. استراتيجيَّة أميركيّة – إسرائيليّة قيد التطبيق

هل كانت القمة الثلاثية بين العراق ومصر والأردن بعيدة من المخطط الأميركي لسحب بغداد من محور المقاومة إلى محور التطبيع؟ الجواب: لا.

جرى التطرق في مقال سابق إلى لقاءات رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي والوفد العسكري المرافق له في واشنطن، مع الإشارة إلى أهمية الوفد واختصاص كل طرف فيه. أما المواضيع التي تم التوافق حولها مع الأميركيين، فتقع في جوهر الاستراتيجية الأميركية الصهيونية في الشرق الأوسط.

يرتبط ذلك بالتصورات الاستراتيجية التي صرح بها الجنرال المتقاعد عاموس يدلين، المرشح الأقوى لمنصب رئيس مجلس الأمن القومي في “إسرائيل”.

هذا المقال، يستكمل هذه الرؤية الاستراتيجية، اعتماداً على ما حصل ويحصل ميدانياً في الأيام الأخيرة، وهو مرفق بتصريحات ترتبط بما تمت الإشارة إليه سابقاً. أما الأحداث الميدانية، فلا داعي لسردها كلها، ويمكن الاكتفاء بعدد منها فقط، وتتلخص باجتماع وزراء الخارجية في روما، وافتتاح السفارة الإسرائيلية في الإمارات، والقمة الثلاثية – مصر والأردن والعراق – في بغداد، وقصف القوات الأميركية لعناصر تنظيم “سيد الشهداء” من الحشد الشعبي عند الحدود العراقية السورية، والحملة الإعلامية المكثفة على إيران والرئيس المنتخب، وزيارة الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين إلى البيت الأبيض ولقاؤه الرئيس بايدن ومضمون حديثه معه.

لقاء روما

لم يكن لقاء وزراء خارجية ما يسمى “دول التحالف” بعيداً من الاستراتيجية الأميركية المتجددة في الشرق الأوسط، لكن من يتابع ذلك يجد أن هذه الاستراتيجية هي جوهر اللقاءات، حتى وإن اتسعت التصورات لتصل إلى أفريقيا وأوروبا مروراً بمصير “داعش” ووظيفته المستقبلية. ويبدو لمن راقب المحادثات أن أميركا قلقة من بقاء “داعش” في الشرق الأوسط، لأنه أدى مهامه الوظيفية هناك، ولا بد من إضعافه وتشتيته في ظل التراجع الأميركي في الشرق الأوسط، ونقل بعض فصائله إلى أماكن أخرى لتقوم بالمهام القذرة نفسها. وقد تكون أفريقيا إحدى ساحات نشاطه المستقبلي.

الأهم في اجتماعات روما، وفقاً لوسائل الاعلام الإسرائيلية، هو اجتماع وزير الخارجية الإسرائيلي الجديد يئير لبيد مع نظيره الأميركي أنتوني بلينكن، ونظيريه من البحرين والإمارات، وتوجهه لاحقاً لافتتاح السفارة الإسرائيلية في الإمارات، ومن ثم القنصلية الإسرائيلية.

وقد لفت لبيد نظر بلينكن، كما يقول المراسلون، إلى ضرورة الاهتمام بالعلاقة مع البحرين التي لم تحظَ بالاهتمام الكافي، وكأنه يريد أن “يتوسّط” للبحرين لدى البيت الأبيض! وحين نتفحَّص مضمون ما تم التفاهم حوله، وما عرضه الوزيران، الإسرائيلي والأميركي، في المؤتمر الصحافي المشترك، في روما، نجد لبيد يقول: “لا توجد لإسرائيل علاقات أهم من العلاقة مع الولايات المتحدة”، ويتفق معه بلينكن.

ويضيف لبيد: “أريد أن أعمل معك على توسيع دائرة السلام في منطقتنا”. طبعاً، السلام في نظر لبيد هو “التطبيع” أو بالأحرى التبعية لـ”إسرائيل” وأميركا في استراتيجيتهما. أما “توسيع” الدائرة، فتعني إضافة أنظمة أخرى إلى الحظيرة نفسها، وهو ما يتفق عليه الطرفان ويعملان على تحقيقه. إذاً، بماذا تختلف هذه الاستراتيجية عن استراتيجية ترامب- نتنياهو؟

وفي حين قفز نتنياهو وترامب نهائياً عن الحق الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وفق قرارات الشرعية الدولية، نجد أن بلينكن يقول للبيد: “إن التطبيع وتوسيع دائرته ليسا بديلاً من التعامل مع الملف الفلسطيني”. ويرد عليه لبيد: “سنناقش خطوة يمكنها أن تخفف من حدة الصراع لتجعل الحياة أفضل للفلسطينيين والإسرائيليين”.

هنا، لا بد التوقف عند هذه الجملة، والتي لا تعني أنهم سيناقشون كيفية تطبيق قرارات الأمم المتحدة، وإنما خطوة “تخفف من التوتر”، وإطالة عمر الاحتلال، أي عودة إلى تخفيف الخناق بترتيبات أمنية جديدة على المعابر وتسهيلات اقتصادية لا تعطي للفلسطيني حقاً، وإنما تتجاوب جزئياً مع احتياجاته اليومية. مثل هذه الإجراءات كان ترامب ونتنياهو مستعدين لتقديمها أيضاً، وهي جوهر السلام الاقتصادي الذي تحدث عنه توني بلير سابقاً، وتبنته حكومة نتنياهو لفترة طويلة، ولم ترفضه إدارة ترامب، فهل هذا ما يجسد حقوق الشعب الفلسطيني؟ إذاً ما هو الجديد؟

افتتاح السفارة

من روما، توجه لبيد إلى الإمارات، حيث افتتح السفارة الإسرائيلية بطقوس دينية متشددة، مع العلم أن لبيد صهيوني ليبرالي وعلماني بالكامل، كما يقدم نفسه لجمهور ناخبيه. وليس خافياً أن صراعه الأساس في “إسرائيل” مع المتدينين الحريديم، ولكنه عند افتتاح السفارة، اعتمر “الكيباه” السوداء، وهي التي تعني التشدد الديني، ورافقه في ذلك ربانيم حريديم ليباركا السفارة! وقال متعالياً وموجهاً كلامه إلى العرب: “نحن هنا باقون، افهموا ذلك، واقبلوه! وتعالوا إلينا لنتحدث”.

لم يقل جئنا إليكم، بل يطلب من العرب أن يأتوا إلى “إسرائيل” “لنتحدث”، وفي هذا استعلاء الضيف على مضيفيه. ليس ذلك فقط، بل قال لهم أيضاً: “هذا يوم تاريخي، وهو بداية الطريق. من هنا نبدأ المسيرة”، في إشارة واضحة إلى أن الإمارات ستكون الموقع الجديد للانطلاق إلى ما حولها وأبعد منها. لقد كانت فلسطين هي نقطة الانطلاق الأساس للحركة الصهيونية، فأصبحت الإمارات هي نقطة الانطلاق الأخرى للحركة الصهيونية نحو التوسع والنفوذ.

لقد كان تاريخ 6 تموز/يوليو 1921، أي قبل 100 عام بالضبط، هو تاريخ صدور صك الانتداب الأممي لفلسطين، ويبدو أنهم مصرون على تحقيق إنجازات جديدة بمناسبة مئة عام. ونحن لا ننسى أن ترامب أعلن في العام 2017، أي بعد قرن من وعد “بلفور”، نيته تقديم وعد جديد لـ”إسرائيل”، بإعلانه أنه يعكف على إعداد صفقة جديدة لإنهاء الصراع في الشرق التوسط، سميت بـ”صفقة القرن”.

زيارة ريفلين إلى البيت الأبيض

في اليوم ذاته من افتتاح السفارة الإسرائيلية في الإمارات، زار الرئيس الإسرائيلي المنتهية ولايته، رؤوفين ريفلين، البيت الأبيض بدعوة رسمية من الرئيس بايدن، قيل إنها زيارة وداع، لكن مضمونها لم يشر إلى ذلك، بل يشير إلى دعوة للتشاور ورسم الخطوط العامة للعلاقات الإسرائيلية الأميركية الجديدة- القديمة. أكد خلالها الطرفان العلاقة الاستراتيجية بين النظامين والأسس الأيديولوجية والمصالح الاستعمارية التي تعزز هذه العلاقة.

ومن اللافت للانتباه ذلك التحذير الذي أطلقه ريفلين في أُذن الرئيس بايدن خلال لقائهما المطول، ومفاده “أن هناك دولاً عربية معتدلة تتقرب من إيران، وهو خطر لا بد من معالجته”، وهو يقصد السعودية بلا شك. هذا يعني أن أي تقارب عربي مع إيران يعد خطراً على المشروع الصهيوني الاستعماري، أي الاستراتيجية الأميركية الصهيونية في الشرق الأوسط، ولا بد من التفريق بين العرب وإيران وتعزيز الصراع السني الشيعي أو العربي الإيراني لتحقيق هذه الاستراتيجية.

الرسالة الأخرى التي حملها رفلين بقوله هذا، أن الموقف الأميركي من ولي العهد محمد بن سلمان قد يجعل السعودية تتقرب من إيران، وهذا يتطلب تساهلاً أميركياً وصفحاً عنه، من أجل ضم النظام السعودي إلى عملية التطبيع.

مرة أخرى، يريد أن “يتوسط” إلى محمد بن سلمان لدى بايدن، لأن السعودية، بموقعها الجغرافي وقدراتها المادية، لا بد أن تكون شريكة في تجسيد المشاريع الاقتصادية الكبرى التي قدمتها “إسرائيل” ضمن استراتيجية الشرق الأوسط الجديد.

أما ثقلها الديني “السني”، فهو ضروري أيضاً لإضفاء الشرعية الدينية على اتفاقيات “أبراهام” وما يتبعها من برامج اجتماعية وثقافية لتحقيق الهيمنة الصهيونية في الشرق الأوسط في مواجهة إيران، عاجلاً أم آجلاً.

ميدانياً

لم تمر تلك الأيام وما بعدها بتصريحات ومواقف فقط، بل رافقتها أيضاً خطوات عملية على الأرض، منها قصف مواقع المراقبة لقوات الحشد الشعبي (سيد الشهداء)، بأمر مباشر من الرئيس بايدن، واستشهاد 4 من عناصره على الحدود العراقية السورية؛ تلك المنطقة الاستراتيجية لمحور المقاومة على خط طهران دمشق بيروت، حيث تحاول القوات الأميركية منع كل تواجد لقوى المقاومة العراقية، لتحلّ مكانها عصابات “داعش”، التي ترعاها أميركا بالقرب من تلك المنطقة وداخل سوريا.

أما الإعلان الرسمي بأن ذلك القصف تم بقرار من الرئيس بايدن مباشرة، فهو تأكيد على الأهمية الاستراتيجية لهذه الخطوة، وربما تأكيد للرئيس ريفلين بأن أميركا برئاسته مصرة على منع قيام هذا التواصل بين طهران ودمشق وبيروت، وهو مطلب إسرائيلي بالأساس.

إضافةً إلى ذلك، في تلك الأيام بالذات، عقدت القمة الثلاثية بين مصر والأردن والعراق في بغداد، وكان على جدول أعمالها تعاون بين الدول الثلاث لتبادل النفط والكهرباء؛ فمصر لديها إنتاج زائد من الكهرباء يقدر بـ27 ألف جيغاواط، يمكنها أن تزود به العراق والأردن، ولم يسأل أحد لماذا لا تزود قطاع غزة بالقليل منه، بدلاً من العيش تحت “رحمة” المحتل الإسرائيلي؟! أما العراق، فلديه فائض من النفط يمكن أن يزود به الأردن ومصر عبر أنابيب تقام وتمر في الأردن، ومن هناك إلى سيناء، لهذا الغرض.

هل كانت هذه القمة بعيدة عن الإذن الأميركي أو المخطط الأميركي لسحب العراق من محور المقاومة إلى محور التطبيع؟ الجواب: لا. هذا الأمر أكّدته الصحافة الإسرائيلية التي تابعت الحدث، وأكدت أن القمة حصلت بتوجيه أميركي، وأن هذا هو الهدف المرجو منها. كما أكد ذلك معلّقون مصريون موالون للنظام، وأكده رفض مصر والأردن تسمية هذا المشروع باسم “الشام الجديد”، ورفضهما المعلن إشراك سوريا ولبنان فيه إلا بعد تطبيق “قرار مجلس الأمن 2245، على أن يحفظ أمن سوريا واستقرارها وتماسكها، ويتيح الظروف المناسبة للعودة الطوعية للاجئين”، ما يعني إقامة هيئة سياسية جديدة بديلة للرئيس الأسد في سوريا لقيادة “التحول السياسي” هناك، ما يؤكّد تساوق هذا المشروع مع الأهداف الأميركية.

ولم ينفِ أيّ من الدول الثلاث إمكانية أن يرتبط هذا الشروع بمشاريع الأنابيب النفطية التي تعمل “إسرائيل” على تنفيذها، وهي تمتد من دول الخليج إلى الشواطئ الإسرائيلية، ومن هناك إلى أوروبا.

باختصار شديد، إنَّهم يعملون على الأرض، ولا يخطّطون ويصرّحون فقط، فمتى يعمل الآخرون من طهران إلى بغداد والشام وبيروت؟ متى تُتخذ القرارات المصيرية في بغداد وبيروت بالتحوّل نحو الشرق، روسيا والصين، بعد أن أخذت طهران والشام هذا القرار؟

هل ينجح الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي في تحقيق التصالح المطلوب مع الرياض، على ألا يكون ذلك على حساب الشعب اليمني، لسحب البساط من مسار المشاريع الصهيونية، فيكون التعاون والمشاريع المستقبلية عربية إيرانية تخدم شعوب المنطقة في التحرر والسيادة، بدلاً من أن تكون عربية إسرائيلية برعاية أميركية تخدم المطابع الصهيونيّة.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى