«فلسفة الفوضى»: الشيوعية الخيار الوحيد
في «فلسفة الفوضى» الذي انتقل أخيراً إلى المكتبة العربية (دار الساقي ــ ترجمة عماد شيحة)، يتفحّص سلافوي جيجيك «جنّة» حياتنا المعاصرة المضطربة بفعل تصدّعات اليسار، والوعود الفارغة للديموقراطية الليبرالية، والتنازلات الواهية التي قدّمها الأقوياء. من رماد هذه الإخفاقات، يُطلق الفيلسوف الإشكالي الذي تحوّل أيقونةً على وسائل التواصل الاجتماعي، نداءً يؤكّد فيه الحاجة إلى التضامن الدولي والتحول الاقتصادي. مع خروجنا من وباء كوفيد 19، فإن أزمات أخرى تحتلّ الصدارة: عدم المساواة الفاقعة بين اقتصاديات الدول المتحكّمة بمصادر الطاقة والتكنولوجيا الذكية والصناعات العسكرية والدول العاجزة أو «المارقة»، وكارثة المناخ، ومراكب هجرة اللاجئين الغارقة في المتوسط، والتوترات المتصاعدة لحرب باردة جديدة.
يبدو أنّ الفوضى هي الدافع الدائم لعصرنا بحسب جيجيك. انطلاقاً من جملة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ الشهيرة: «الوضع ممتاز ما دامت فوضى كثيرة تسود تحت السماء»، ينطلق جيجيك في سؤاله المركزي الذي ستتمحور فصول الكتاب حوله: «ألا تزال هذه الفوضى تجعل الوضع ممتازاً، أم أن مخاطر التدمير الذاتي مرتفعة للغاية؟». تعتمد الأهمية المعاصرة لملاحظة ماو على ما إذا كانت كوارث اليوم يمكن أن تكون حافزاً للتقدم أو أنها انتقلت إلى شيء فظيع لا يمكن إصلاحه. ربما لم يعد الاضطراب تحت، بل في الجنة نفسها. بعمق تحليلي، يستلهم دروس رامشتاين وكوربين وموراليس وأورويل ولينين والمسيح، وبأسلوب جدلي ينقّب عن الحقائق العالمية من المواقع السياسية المحلية في جميع أنحاء فلسطين وتشيلي وفرنسا وكردستان واليمن وإيران وغيرها. في الكتاب، يحاول جيجيك الإمساك بخيط لاقط وسط التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم عبر مجموعة من المقالات المتفرقة التي تغطي المرحلة الزمنية من عام 2018 وحتى نهاية عام 2021، ورحيل دونالد ترامب عن كرسي الرئاسة في الولايات المتحدة ومجيء جو بايدن، في مؤشر إلى بداية مرحلة جديدة يرى جيجيك أنها لن تخرج عن سياق الفوضى التي تعمّ العالم.
من رواية كريستا وولف «سماء منقسمة» (1963) وهي رواية كلاسيكية من أيام جمهورية ألمانيا الديموقراطية تتحدّث عن الآثار الجانبية لتقسيم ألمانيا، يستلّ ملاحظاته الافتتاحية للحديث عن الجنّة المضطربة (الوصف الأقرب إلى عنوان الكتاب بالإنكليزية Heaven in disorder): يقول مافريد (الذي اختار الغرب) لمحبوبته ريتا عندما يلتقيان للمرة الأخيرة: «ولكن حتّى لو قسّمت أرضنا، فلا نزال نتشاطر السماء عينها»، فتجيب ريتا (اختارت الشرق) بمرارة: «لا، لقد قسّموا السماء أوّلاً». إن حامل تقسيم السماء وأداته، بحسب جيجيك، هو اللغة بوصفها الوسيط الذي يديم فيها الطريقة التي نختبر بها الواقع. إننا (نستطيع) بواسطة اللغة «العيش في عوالم مختلفة» عن جيراننا، ولو كانوا يسكنون في العمارة ذاتها. لكن جيجيك يخرج بسرعة من التحليل الاجتماعي للّغة، إذ ليس الوضع في وقتنا الحالي وضع تنقسم فيه السماء إلى عالمين، كما كانت الحال خلال الحرب الباردة حين واجهت نظرتان مختلفان للعالم والاقتصاد والإنسان والثقافة إحداهما الأخرى. يبدو أن انقسامات السماء باتت ترتسم اليوم باطراد داخل كل بلد بعينه: في الولايات المتحدة مثلاً، ثمة حرب أهلية سياسية وأيديولوجية بين اليمين المتطرّف والمؤسسة الديموقراطية الليبرالية، في حين هناك انقسامات عميقة مشابهة في المملكة المتّحدة كما تجلّت في التناقض بين مؤيدي الانفصال عن الاتحاد الأوروبي ومعارضيه. وتتضاءل فضاءات الأرضية المشتركة باستمرار بين المركز والأطراف، وأحياناً داخل «الجنة المنسجمة» ذاتها، ما يعكس تقلّصاً مستمراً للفضاء العام للحرية والجرأة على المؤسسة كما في قضية جوليان أسانج التي يفرد لها جيجيك فصلاً بعنوان «مخاطر تناول كوب من القهوة مع أسانج». هذه الأزمات كلها مجتمعة تبرر للكاتب إطلاق صرخته حول الحاجة إلى التضامن العالمي والتعاون الدولي أكثر من أي وقت مضى.
يضع جيجيك الأزمات المتشابكة كلّها جنباً إلى جنب ويشدّد على ضرورة معالجة الجائحة وذيولها مع معالجة الاحتباس الحراري ونشوب التناحرات الطبقية والعرقية والنزعة الأبوية ومعاداة المرأة والتنكيل بالفلسطينيين وغيرها من الأزمات التي تتماشى معها بتأثير متبادل ومعقّد: «يجعل هذا الوضع المحفوف بالمخاطر لحظتنا الحالية لحظة سياسية بامتياز: الوضع ليس ممتازاً قطعاً، ولهذا على المرء أن يتحرّك!».
في قلب هذه اللحظة السياسية بامتياز، يلجأ جيجيك إلى سؤال لينين المركزي: «ما العمل؟». في الفصل الأخير (لماذا لا أزال شيوعياً؟)، يجيب جيجيك بأن «أدعياء التفاؤل العقلاني الرأسمالي يخبروننا كل يوم أنّ في وسعنا الاسترخاء وبأنّ لا داعي للذعر والآخرون من أنبياء الهلاك يخبروننا أننا فقدنا كل شيء بالفعل وليس في وسعنا سوى الاسترخاء والاستمتاع بالمشهد على نحو معاكس». تبدو الشيوعية إذن بمثابة الخط الثالث في قلب أزمة الرأسمالية والليبرالية ذاتها بحسب جيجيك. نظرية قد تثير حفيظة مناوئي أميركا في العالم بحيث تسلّم لها بالتفوق المطلق ولا تقارعها من خارج منظومتها القيمية والثقافية ونمط إنتاجها. ليزيد جيجيك في الإشكالية، يختم «فلسفة الفوضى» بفكرة خلاصية مضطربة هي الأخرى: «ليست الشيوعية أحد الخيارات الممكنة؛ إنها الخيار الوحيد. الخيارات الأخرى المعروضة علينا مثل «إعادة الضبط الكبيرة» التي تدعو إليها الشركات الكبيرة) هي مجرد وسائل لتغيير شيء ما فلن يتغير أي شيء في الواقع. مع الشيوعية، نختار بحرّية ما يتعيّن علينا فعله وما هو ضروري لعمله.
هذا ما يوصل إلى الادعاء الهيغلي القديم بأنّ الحرية ضرورة مسلّم بها: ليس لأن الشيوعية ستحدث لا محالة- قد لا تحدث وتنتهي بعربدة مدمّرة للذات أو برأسمالية شركات لها سمات إقطاعية- لكن حالما نختارها سنرى أنها المخرج الوحيد».