كتاب الموقعنوافذ

فهد في المصيدة

فهد في المصيدة … سأبدأ بهذه القصة:
طلب الوالي المملوكي من جنده أن يذهبوا إلى قرية في البادية، ويقتلوا عصابة من قبيلة معينة، وهم عشرة مطلوبين. ذهب الجند، حاصروا القرية وقبضوا على العشرة المطلوبين قطعوا رؤوسهم ووضعوها في كيس، وقفلوا عائدين.
في ظلال النخيل، عند واحة غروب، جلسوا يستريحون ويأكلون ويشربون حتى ثملوا. ناموا. أفاقوا، تفقدوا الرؤوس في الكيس. أحصوهم فوجدوا رأساً ناقصاً. أعادوا العدّ، ثمة رأس ناقص. اضطربوا وفكروا وحلّوا المشكلة بما يسمّى عدالـة الصدفة: نقطع رأس أول قادم إلى الواحة. وهكذا كان حظ القادم الأول: قطعوا رأسه ووضعوه في الكيس إلى جوار الرؤوس التسعة.
عند وصولهم إلى باحة قصر الوالي، فتحوا الكيس وعدّوا الرؤوس فكانت إحدى عشر. ذلك لأن دورقي نبيذ زيادة أنقصت رأساً وبدورقين آخرين ازداد الكيس رأساً.
ليس هناك أي سبب يدعو للاعتقاد أن هؤلاء ، ربما، لا يعرفون العد للعشرة! كما أن عدالة الصدفة قد تذهب، وقد ذهبت برأس بريء.
وهذا بالضبط مصغّر ما يحدث في بلادنا. فالمطلوبون يتكاثرون، وقطع الرؤوس بالفؤوس يتم وبالمدفعية. ولا أحد ، حتى هذه اللحظة يتعرّف على وسائل أخرى لوقف هذه المذبحة!
في المقال السابق، وعدت بأن أجد حلاً. وفي الحقيقة الحل موجود، وحتى في صيدلية قروية لصيدلي يفهم بخلطة كيميائية تأخذ بعين الاعتبار الوضع السوري بكل خصوصياته وتعقيداته.
ببساطة: يمكن البدء بإعلان تنازلات شفوية . وهناك سوابق في التاريخ: طاولة افتراضية شفوية.
التنازل الأول من المعارضة المسلحة، أن يقولوا: هدفنا، ليس إسقاط النظام ، بل تغييره… تغييره لا تدميره. لأن هذا يعني الذهاب إلى منطقة المعارك اليائسة، وأحياناً يسمونها: منطقة” يوم القيامة” . وضرورة هذا التنازل آتية ، ليس فقط من نقص ما في صوابية هذه المعركة، وإنما من واقعية  أن الانتصار مشكوك فيه. وإذاما حدث مثل هذا الانتصار فإنه يشبه الهزيمة:
فبلد مدمّر لا يمكن أن يكون، بمقبرته الكبرى، وخرابه الكبير…موطناً للديمقراطية!
والتنازل الأول من النظام ، أن يتقدم بإعلان حسن النيّة على الأرض، وهو العفو عن كل مسلح، حتى لو تلطخت يداه بالدماء. وذلك باعتباره شريكاً في مصالحة الدم بين القبائل ( كما حدث في ” صلح الحديبية”)، وفي أي صلح آخر. وعلى أساس محاسبة القادة من الطرفين، الذين بالغوا في تحويل الدفاع أو الهجوم…إلى جريمة منظمة، وإلى قتل عمومي، لا تفريقي في المدن والأشخاص.
على طاولة حوار حقيقية يمكن البحث في كيفية الانتقال السلمي للسلطة، من الاحتكار الحالي، إلى الانتشار القادم ( التشارك) وتسوية الملفات العالقة. وهذا يتم … بقيادة، متفق عليها ، للمرحلة الانتقالية.
هذه البساطة في تناول الأزمة. (في الحقيقة… الحرب) تفتقر إلى ما يلي: متى يقتنع الطرفان بالحل؟
الثورة، أو الانتفاضة المسلحة… أو العصابات … سمّها ما تشاء. مقتنعة بأنها ذاهبة إلى النهاية المأمولة: إسقاط النظام. وقد تكون أقنعت من وراءها من الداعمين بأن الأمر مسألة وقت وصبر.
“بريخت” الكاتب المسرحي الألماني له هذه القصيدة:
” لا تدقّ مسماراً في الجدار لتعلّق معطفك
ارم بمعطفك على الكرسي.
لماذا تتموّن لأربعة أيام… وأنت عائدٌ غداً؟”
وطبعاً يمكن العودة إلى جملة من الوعود بالنصر أطلقها مختلف أنواع القادة السياسيين والعسكريين، على مدار السنة ونيّف المر الذي ساهم ( حسب ما نرى) بتزويد المقاتلين بإرادة القتال.
إذا اقتنع السادة الداعمون…( بالحل السلمي من واقع حربي)… فسيوافق المقاتلون على الطاولة الشفوية ، أولاً، ثم الحقيقة، من خشب البلاد السورية، ثانياً.
مقابل ذلك ثمة من يُقنع القيادة السورية بضرورة هذه الطاولة، ومن دون غش وخداع  وحيَل الحكومات أمام معارضيها. ويكون الشعار:
” انتصار المطالب، وليس انتصار الغالب”.
للأسف الشديد… اختلطت الأمراض المستعصية بالأمراض الموسمية، وغداً من الصعب التفريق، في حالة الإسعاف الدموي، أو الموت تحت الأنقاض.
وسأختم بهذه الحكاية:
القائد محمد علي باشا، الذي حكم مصر، كما تذكرون في نهاية القرن الثامن عشر أراد أن يمتحن القادة عنده. ففرش سجادة ووضع في وسطها تفاحة وطلب الوصول إلى التفاحة دون وسائط ودون الدعس على السجادة.
الوحيد الذي أوجد الحل ابنه إبراهيم باشا. وذلك بان بدأ بطوي الطرف ودحرجة القسم المطوي حتى الوصول إلى التفاحة… عندئذٍ اقتنع محمد علي باشا بتعيين ابنه قائداً لحملته على فلسطين وسورية للوصول إلى تركيا (والسلطنة) .
لا تحتاج صورة الواقع الآن إلى كميات إضافية من العناد الذي يدمّر ولا يعمّر، بصرف النظر عن توزيع الألقاب الصارمة على المسؤولين عن الكارثة…. وتجنباً لمصير معروف في مثل هذه الصراعات.
” كنّا فهداً في قفص…
أصبحنا جرذاً في مصيدة“.

بوابة الشرق الاوسط الجديدة

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى