فن و ثقافة

فواز طرابلسي عن «زمن اليسار الجديد» [6]

أسعد أبو خليل

الحديثُ هنا عن كتاب فواز طرابلسي الجديد، «زمن اليسار الجديد»، الصادر عن دار رياض نجيب الريّس. تعلم في سرديّة طرابلسي أن تنظيم «اليسار الجديد» لم يعد جديداً (ولم يكن ثوريّاً أصلاً) بحلول ١٩٧٢، سنة الانتخابات النيابيّة الأخيرة قبل الحرب.

 

وكانت مجموعة «لبنان الاشتراكي» قد هجرت التنظيم، لكنه استطاع الصمود عبر ضمّ عناصر جديدة إليه. كان التمايز بين التنظيمَين (الحزب الشيوعي والمنظّمة) من منظور اليسار صعباً على الذي يبحث في سوق التنظيمات اليساريّة عن ملاذ له.

طرابلسي عارض المشاركة في الانتخابات النيابيّة، فيما أيّدها محسن إبراهيم وأحمد بيضون (رشيد درباس كان مرشحاً على قائمة نقولا الشاوي نفسه في تلك السنة، ص. ١٤٦، قبل سنوات من اكتشافه لسحر اليساريّة الحريريّة).

تلاقت المنظمة مع الحزب الشيوعي على ضرورة «الارتقاء» إلى «المستوى السياسي الوطني» في العمل، والذي تُرجم في عام ١٩٧٥ في «البرنامج المرحلي» للحركة الوطنيّة.

يأتي طرابلسي على ذكر إضراب معمل غندور الشهير في عام ١٩٧٢ وكان للمنظمة دور فاعل فيه. أطلقت سلطة «الزمن الجميل» النار على المُضربين من العمّال. ردة الفعل الغاضبة جمّعت عشرات الآلاف من الناس في تظاهرة احتجاج كبيرة لا أزال أذكرها.

كان ذلك الإضراب درساً للذي كان يبحث عن دلائل عن تحالف السلطة مع البورجوازيّة أو عن فهم الدولة كأداة قهر طبقي. هنا تنتفي الطائفيّة في لبنان.

انشقّ وضّاح شرارة عن المنظمة وتحرّك ضمن ما عُرف بـ«المجموعة المستقلّة». اتهمت المجموعة المنظمة بـ«التحريف والإصلاح والقُطريّة». طالب التنظيم الجديد بـ«فرز» عناصر لبنانيّة للعمل في صفوف المنظمات الفلسطينيّة. يُلاحظ في حينه أن اليسار آنذاك، حتى في جناحه الذي اعتبر نفسه البديل الجذري، كان يخشى من طرح فكرة الكفاح المسلّح ضد السلطة أو تنظيم مجموعات مسلّحة خارج نطاق المقاومة الفلسطينيّة.

يقول طرابلسي إن المنظمة خسرت «نحو نصف الأعضاء، إن لم نقل الثلثَين» (ص. ١٥٧) في سلسلة الانشقاقات والمغادرات. يعترف طرابلسي بأن تأثير الانشقاقات كان سلبيّاً: عداء شديد نحو المثقّفين (إذا كان ذلك سلبيّاً بالفعل) وإعادة بناء التنظيم على أسس شديدة المركزيّة الأوامريّة. أصبح محسن إبراهيم «أبا خالد» وأصبح «أبو خالد» الآمر الناهي في التنظيم، وباتت القيادة تقرّر مسائل الانتخابات داخل التنظيم (لم يختلف الوضع في باقي التنظيمات اليسارية).

يتحدّث طرابلسي عن النزعة المحافظة في موضوع المرأة. شكّلوا «لجنة نسائيّة» برئاسة رجل (طرابلسي) لكن القيادة استبدلت طرابلسي بشقيق محسن إبراهيم عندما بدأت اللجنة بإثارة قضايا حسّاسة مثل التحرّر الجنسي (ص. ١٥٨). والمحافظة في هذه القضيّة لم تكن حكراً على المنظمة وإنما سادت في كل الأحزاب والتنظيمات الشيوعيّة، الإصلاحيّة والثوريّة على حد سواء.

كان للمنظمة سمعة أنها الأكثر نجاحاً في اجتذاب الرفيقات، وكان بعض الشباب ينضمّون إليها فقط لهذا السبب. الوجود النسائي كان منعدماً في القيادة في معظم التنظيمات، وكان تبجيل العمل المسلّح حجّة لاستبعاد المرأة مع أن الكثير من القيادات الشيوعيّة من الذكور لم يحمل سلاحاً أو يتعلّم على الرمي (كان هذا من ضمن تقسيم العمل في هذه التنظيمات، القتال والموت للأعضاء المعتّرين).

في هذا، إنّ تجربة «حماس» وحزب الله مختلفة للغاية، وهي صمدت واستمرّت بسبب التصاق القيادة بالقاعدة في مجابهة الأخطار ونمط العيش.

يتحدّث عن مباشرة التدريب المسلّح بعد ١٩٧٣ و«بإمكانيّات متواضعة جداً» (ص. ١٥٨). رعاية تسليح وتدريب ميليشيات اليمين كانت متعدّدة ومتنوّعة، عربيّة (الأردن والسعوديّة) وإقليميّة (إيران الشاه) وغربيّة وجنوب أفريقيّة.

كانت أميركا عندما تريد أن تسلّح فريقاً في دولة ما، تجرّ معها صفّاً كاملاً من الحلفاء والوكلاء حول العالم للمشاركة. «الكتائب» كانوا بالنسبة إلى أميركا منذ الستينيّات مثل الـ«كونترا» في نيكاراغوا في الثمانينيّات. لكن لم يكن هناك من خطة لحمل السلاح من قبل المنظمة: كان الهدف في البداية حماية الأحياء المُحيطة بالمخيمات (ص. ١٥٩). فقط التنظيمات الثوريّة الصغيرة آمنت بحمل السلاح ليس فقط لمؤازرة الثورة الفلسطينيّة، بل لإسقاط النظام اللبناني.

منظمة العمل الشيوعي لم تكن في هذا الوارد. ساهمت الجبهة الديموقراطيّة و«فتح» في تسليح وتدريب أعضاء المنظمة. تأخر التدريب العسكري عند كل تنظيمات الحركة الوطنيّة، ما أعطى الزخم في بداية الحرب إلى الفريق الانعزالي. وهذا الضعف زاد من اعتماد الأحزاب اللبنانيّة على قيادة المنظمة التي كانت تقطّرُ (بأمر من عرفات) في التسليح (كان كلوفيس مقصود يروي لنا، كشاهد، مشهد اجتماع لقيادة الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينية، وكان كمال جنبلاط يشكو فيها من استيلاء «فتح» على باخرة سلاح في مرفأ صيدا لحساب الحركة الوطنيّة. وكان عرفات يلفّ ويدور ويراوغ ويكذب، وكان جنبلاط يضيق ذرعاً منه).

يتحدّث عن المنافسة بين «أمل» (التي طرحت نفسها كبديل من الإقطاع ومن الحركة الوطنيّة في آن) وبين اليسار والتقدميّين. بحلول ١٩٧٥، كان اليسار أقوى وخصوصاً بعد تمسّك «أمل» بالتحالف مع النظام السوري بعد تدخّله العسكري في ١٩٧٦. لم يكن المزاج العام يقبل ذلك، وتسبّب ذلك في معارك أدّت إلى إغلاق مكاتب «أمل» في مناطق الجنوب وبيروت الغربيّة (لكن «أمل» ستعود بعد بضع سنوات لتثأر من الضيم الذي لحقها، بنظرها). سياق الصراع بين «أمل» والحركة الوطنيّة يغيب عن سرديّات مستحدثة وخبيثة عن اغتيال شيوعيّين في ذلك الزمن.

يقول فوّاز طرابلسي: لم نتوقّع «الحرب» وما أحد توقّع «الحرب» (ص. ١٦٢). هذه الجملة أثارت استغرابي كثيراً وهي تدلّل على حالة التفوّق التي سادت في الميدان السياسي والعسكري عند اشتعال الحرب لمصلحة القوى الانعزاليّة.

كيف يمكن أن يغيب عن توقّع النخبة اليساريّة المثقّفة، التي كانت تتابع الصحافة العربيّة والعالميّة، أن أميركا وإسرائيل ووكلاءهما في لبنان كانوا يعدّون للحرب؟ كانت الصحف اللبنانيّة تنشر تحقيقات مصوّرة عن مخيّمات التدريب الكتائبيّة والشمعونيّة في ميروبا وفي غيرها. وكانت ظاهرة التسلّح اليميني بادية للعيان.

و«الكتائب» بدأت بمحاولة إطلاق شرارة «عين الرمّانة» منذ عام ١٩٦٩ على كوع الكحّالة وفي محيط تلّ الزعتر. كما أن حملات التحريض ضد الوجود الفلسطيني كانت واضحة في مراميها ومتناغمة مع إعلانات المسؤولين الإسرائيليّين عن الوجود الفلسطيني في لبنان.

لم تكن قوى «الكتائب» و«الأحرار» تخفي مخطّطها، بل تعلنه أمام الملأ وخصوصاً بعد فشل الجيش اللبناني في تطويع المقاومة الفلسطينيّة بالنيابة عن إسرائيل في ١٩٧٣. وليس صحيحاً أبداً أنه لم يكن هناك توقّع باشتعال الحرب.

مجلّة «الهدف» كانت تحذّر باستمرار من مخطّط يهدف إلى إشعال الحرب وتصفية القضيّة (عدد ٦ ديسمبر من مجلّة «الهدف» في ١٩٦٩ يحذّر من مخطّط أميركي خطير في لبنان). كانت خطب جورج حبش تتكرّر في تحذيراته من مخطّط الفتنة الكتائبيّة. وحزب العمل الاشتراكي العربي – لبنان (وهو حزب صغير رديف للجبهة الشعبيّة) طرح منذ ١٩٧١ مشروع الكفاح المسلّح لإسقاط السلطة ودحر قوى اليمين الفاشي.

كل الإشارات كانت موجودة وكان هناك حديث عن المؤامرة من القوى الوطنيّة، لكن الأحزاب والتنظيمات الوطنيّة لم تأخذ تلك المؤامرة على محمل الجِدّ (نعلم الكثير اليوم عن تلك المؤامرة، من خلال ما كتب ونُشر وخصوصاً من الأرشيف الأميركي، حيث كان هناك ضابط أميركي رفيع على كوع الكحالة وكان مقاتلو «الكتائب» يكمنون لقوافل فلسطينيّة في محاولات لإشعال الحرب. الذي يقرأ عن محاولات مبكرة لا يجادل في مسؤوليّة «الكتائب» في بوسطة عين الرمّانة).

المؤامرة لم تكن خافية، لكن كان عقلاء الحركة الوطنيّة حسني النيّة وعوّلوا على دور مُنقذ للدولة كمُقيِّد لتفلّت وتمرّد ميليشيات اليمين، فيما كانت مخازن الجيش اللبناني مفتوحة لميليشيات اليمين، وكانت مخابرات الجيش قد أنشأت بنفسها ميليشيا «التنظيم» (وكانت الأقرب إلى إسرائيل بين ميليشيات تدين بالولاء لإسرائيل).

الحركة الوطنية كانت قد حسمت أمرها بضرورة العمل على تحسين النظام اللبناني باتجاه ليبرالي، بدلاً من شعار إسقاط النظام الذي لم توافق عليه المنظمة أو الحزب أو معظم أحزاب الحركة الوطنيّة.

في النظرة إلى الخلف، كان يمكن وقف الحرب مبكراً لو أن قوى اليسار والقومية باشرت بالتسلّح في الستينيّات وأخذت خيار الدفاع عن النفس. كان ذلك سيضمن هزيمة «الكتائب» بحلول ١٩٧٥، ما كان وفّر الكثير من الويلات على الشعب اللبناني. ت

نظيمات الحركة الوطنية كانت جديّة في حرصها على السلم الأهلي، بينما كان تفجير الحرب أولويّة لـ«الكتائب» ورعاتها الغربيّين وفي تل أبيب. والمقاومة الفلسطينيّة، أو «فتح» بقيادة عرفات تحديداً، لم تكن في وارد الانخراط في الحرب في لبنان، بل هي كانت تنصح بالتهدئة وتعمل من أجلها (كان أبو صالح يعمد إلى قصف الشرقيّة في الأيام التي كان عرفات غائباً فيها عن لبنان).

ويضيف طرابلسي عن الحرب «لم نتوقّع مدتها». صحيح، لم يكن أحد يتوقّع مدّتها لأن الحسم العسكري كان ممنوعاً، من قبل جميع الأطراف التي كانت تتدخّل في الحرب لمصلحة أدواتها منذ البداية. هذا يعزّز الخطأ الذي ارتكبته الحركة الوطنيّة في إدارتها للصراع. هي رفعت شعار عزل «الكتائب»، فيما كان قادة الحركة الوطنيّة (كمال جنبلاط ووليد جنبلاط) والمقاومة الفلسطينيّة يتفاوضون سراً مع قادة ميليشيات اليمين.

لكن طرابلسي يعترف بأن نظرة الحركة الوطنيّة كانت مبسّطة من ناحية توقّع رضوخ البورجوازيّة اللبنانيّة لمطالب الإصلاح (ص. ١٦٣). ويخصّص طرابلسي المسؤوليّة بالحزب الشيوعي والمنظمة وكمال جنبلاط. لم يكن التحليل الماركسي السائد يقبل بوجود تناغم بين المشروع الفاشي والبورجوازية اللبنانيّة (كان الصناعي بطرس الخوري حليفاً وثيقاً لرشيد كرامي، والمُمَوِّل الأساس لميليشيات اليمين اللبناني).

السلاح (عند الحركة الوطنيّة) لم يكن أكثر من أداة «تهويل» (حسب ما يصف طرابلسي، ص. ١٦٣) لفرض إصلاح النظام ولم يكن أبداً أداة لإسقاط النظام، كما أراد الثوريّون في التنظيمات الشيوعيّة المتطرّفة (وكان بعضها، مثل حزب العمل الاشتراكي – العربي – لبنان، ممثلاً في الحركة الوطنيّة ما يضعف حجّتهم في إسقاط النظام لأنهم كانوا ملتزمين بالبرنامج المرحلي للحركة). ومنظمة العمل لم تتورّع عن تطمين البورجوازيّة حول مصالحها، إذ إن تقريراً للمنظمة من آب ١٩٧٥ يقول إن «أي تغيير لن يمسّ الطبيعة الطبقيّة للسلطة، وإنما سوف يمسّ الشكل السياسي للسيطرة البورجوازيّة» (ص. ١٦٤).

ويعترف طرابلسي أيضاً بأن تصنيف اليمين الفاشي بالانعزاليّة (والانعزال كان عن العروبة) افترض من الحركة الوطنيّة أن الدول العربيّة كانت ستحتضن نضال الحركة الوطنيّة، فيما أيّدت بعض الأنظمة العربيّة «الكتائب» و«الأحرار» وسلّحتهم).

(يتبع)

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى