الحديثُ هنا عن كتاب فواز طرابلسي الجديد، «زمن اليسار الجديد»، الصادر عن دار رياض نجيب الريّس. يستعيد طرابلسي مرحلة انبهار المثقّفين العرب بالثورة الإسلاميّة في إيران، ويذكر في هذا السياق أدونيس وحازم صاغيّة ووليد نويهض (ص. 218).
والمفارقة أنّ أكثر المنبهرين بالخميني وحركته تحوّلوا في ما بعد إلى ألدّ أعداء النظام الإيراني وكل حركات المقاومة التي يدعمها. يستشهد بكلام صاغيّة بتهليله لـ«اقتلاع» المثقّفين ذوي «الجنوح الليبرالي» في داخل إيران.
انتقد جوزيف سماحة ذوبان منظّمة العمل الشيوعي في جسم الحركة الوطنيّة ودعا إلى مغادرة الجبهة التحالفيّة ناقداً بالتلميح لكتابات محسن إبراهيم. هذا لا يحتمَل. تقرّرَ فصل سماحة في اجتماع للمكتب السياسي، ويعترف طرابلسي أنه لم يوافق ولم يعارض قرار الفصل.
ويقول إنّ محسن كان يستعين بسماحة (باعتراف الأخير في ما بعد، حسب الكتاب) لتهميش طرابلسي. الغريب أن طرابلسي تحمّل لسنوات من إبراهيم تفرّده بالسلطة ومعاركه ضد منافسه الأوّل في داخل التنظيم، ولم يعترض على سلوكه وبقي متحفّظاً في نقده حتى في الكتاب الصريح الذي بين أيدينا.
لكن سماحة يخرج من المنظمة ليشترك مع سمير فرنجيّة في «مشروع لتجديد الحزب التقدمي الاشتراكي»، فيما كان فرنجيّة «يتعاون مع جوني عبده لبناء مواقع معارضة ضد كانتون سليمان فرنجيّة» (ص. 221). قبلَ سماحة آنذاك، في نقلة فكريّة، بإنتاج زعامة ثنائيّة «ممثّلة ببشير الجميّل ووليد جنبلاط». يقول طرابلسي إن سماحة ذهب إلى حدّ «محاولة عقلنة حكم بشير الجميّل»، وهذا الموقف سادَ في بعض أوساط الانهزام في الحركة الوطنيّة.
زيارات فواز طرابلسي – إلى عدد من الدول شارك فيها من قبل قيادة الحركة الوطنيّة
يروي فواز طرابلسي زيارات شارك فيها من قبل قيادة الحركة الوطنيّة إلى عدد من الدول بما فيها العراق وليبيا. في العراق، تسنّى له الالتقاء بصدّام الذي كان على معرفة بترجماته. وتزامنت الزيارة مع حملات ضد الشيوعيين في العراق، وزيارة أخرى تزامنت مع زيارة وليد جنبلاط ومحسن إبراهيم إلى دمشق (لم يقابلهما صدّام في تلك الزيارة ربما اعتراضاً على العلاقة بين الحركة الوطنيّة والنظام السوري).
زبارة فواز طرابلسي إلى العراق
ليس واضحاً اليوم تاريخ بداية العلاقة بين النظام العراقي وبين «الكتائب» و«القوّات اللبنانيّة»، ولكن أمين الجميّل كان على علاقة جيّدة مع النظاميْن العراقي والليبي قبل 1982.
لم يكن طارق عزيز هو العرّاب الوحيد (كما يذكر المؤلّف)، فقد كان النائب اللبناني البعثي، عبد المجيد الرافعي، على علاقة جيّدة مع القوى الانعزاليّة بحكم العداء المشترك للنظام السوري.
زبارة فواز طرابلسي إلى ليبيا
أمّا في ليبيا، فكان العقيد القذّافي يستسيغ عقد جلسات فكريّة لمناقشة «الكتاب الأخضر» (لم يشارك طرابلسي فيها، ولكن شارك فيها كثير من المثقّفين وقادة الحركة الوطنيّة). (إذا كان صدّام يريد أن يكون عبد الناصر آخر، فإن القذّافي أراد أن يكون لينيناً آخر).
يتحدّث عن لقاء جمعه مع فيديل كاسترو، وتبدو شخصيّته جد محبّبة ولطيفة خلافاً للزعيميْن الليبي والعراقي.
زبارة فواز طرابلسي إلى اليمن
عن اليمن يقول إنّ محسن إبراهيم زار علي ناصر محمد بعد تسلّمه السلطة وقدّم له نصيحتيْن: «تجميع مناصب الحكم الثلاثة بشخصه: الأمانة العامة للحزب، رئاسة الدولة، ورئاسة مجلس الوزراء، وتمتين علاقته بياسر عرفات، لأن الأخير سيخدمه في الانفتاح على السعوديّة» (ص. 234).
يقول فواز طرابلسي عن المرحلة إنه كان يغرّد خارج السرب (ص. 236) ولكنه لا يشرح سبب بقائه في التنظيم. صحيح، يقول إن زوجته رأت أن يتركا المنظمة وينضمّا إلى الحزب الشيوعي (ص. 236)، لكن طرابلسي يعترف: «تردّدت وأهملت».
والعلاقة بين فواز طرابلسي وإبراهيم تبدو في الكتاب غامضة ومتوتّرة وتنافسيّة. كانت تلك العلاقة تحتاج إلى شرح وسرد أكثر مما ورد عرضاً في الكتاب.
الارتقاء بالعلاقات بين الحزب والمنظمة إلى أرقى المستويات»
في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي في 1979 يتخذ الحزب قراراً بـ«الارتقاء بالعلاقات بين الحزب والمنظمة إلى أرقى المستويات». كان الاندماج بينهما مطروحاً، وأذكر في تلك المرحلة أننا كنا دائماً نتوقّع حدوث الاندماج الذي لم يتحقّق. وافقت المنظمة على قرار الحزب الشيوعي وطرحت الاندماج. وطرابلسي على حق في أن المنظمة فقدت في الحرب أي مبرّر لوجودها «المستقل» (ص. 237). عمل المؤلف بجدّ من أجل الاندماج ولكنه يكتشف عدم الترحيب من الجانبيْن (وكان هو مولجاً بعمليّة الاندماج). محسن إبراهيم رأى أن الاندماج يتحقّق فقط في حالتيْ النصر أو الهزيمة.
استفاد محسن إبراهيم من دوره كأمين عام تنفيذي للحركة الوطنيّة. بدا كأنه أعلى مرتبة من وليد جنبلاط (الرئيس الاسمي للحركة الوطنية، والذي دعم زعامة إبراهيم) وجورج حاوي وإنعام رعد وإبراهيم قليلات (أي قادة أحزاب أكبر بكثير من المنظمة، وكان قليلات يرى في نفسه الرقم الأوّل بين قادة الحركة الوطنيّة).
يقول فواز طرابلسي إن إبراهيم «صادر مسؤوليّاتهم أو استعاض عنهم بالتواطؤ مع ممثّلين عنهم». ونقرأ عن اعتراض من قبل الأمناء العامّين الآخرين لدور إبراهيم، ولم نكن نعلم عن ذلك في حينه. كم كان قادة تنظيمات الحركة الوطنيّة وأحزابها يعملون ويتآمرون في السرّ، حتى عندما كانوا يظهرون في صور الاجتماعات الأسبوعيّة للمجالس المركزيّة.
ازدياد عدد المتفرّغين في الأحزاب بسبب تدفّق المال والسلاح «بوفرة»
تدفّق المال والسلاح «بوفرة» (ص. 241) ضخّمَ حجم الجهاز العسكري وزاد عدد المتفرّغين في الأحزاب (بلغ نحو 60 أو 70% من أعضاء المنظمة، بحسب تعداد طرابلسي). هذا الرقم مذهل، لأن النسبة كانت أقلّ بكثير في صف الأحزاب الثوريّة الصغيرة التي اعتمدت على المتطوّعين. وكان التفرّغ يجلب إلى التنظيمات عدداً من الذين لا يمتّون بصلة إلى عقيدة الحزب أو التنظيم، وكان ذلك ظاهراً في الجسم العسكري للتنظيمات بصورة خاصّة.
وكان بعض المتفرّغين يتنقّلون بيسر بين التنظيمات لأنه لم يكن لديهم أي دافع أيديولوجي. يذكر المؤلّف أن سوءاً أصاب العلاقة بين المنظمة والجبهة الديموقراطيّة (بسبب قرب الأخيرة من النظام السوري). لا أذكر أن العلاقة كانت سيّئة بين المنظمة والنظام السوري في تلك الحقبة وكانت بيانات المنظمة والحركة الوطنية منتظمة في الإشادة بالنظام السوري، ولكن قرب محسن إبراهيم من ياسر عرفات عزّز شكوك دمشق من المنظمة (وعرفات نفسه كان دائم الإشادة بالنظام السوري، فيما ساءت العلاقة بينه وبين النظام العراقي، وصدرت «فلسطين الثورة» بعنوان اتّهمت فيه صدام بقتل وديع حدّاد).
انقسمت مجلّة «الحريّة» إلى قسميْن، قسم تحرّره الجبهة وقسم آخر تحرّره المنظمة. فشلت المساكنة وانفصلا، وأصبحت مجلّة «بيروت المساء» الناطقة باسم المنظمة. يقول طرابلسي عن ذلك: «سجّلت (المجلّة) باسم محسن، كما هو حال جميع ممتلكات المنظمة» (ص. 242). هذه الإشارة العابرة فضيحة بكل معنى الكلمة.
الاستئثار بالأملاك المنقولة وغير المنقولة
نعلم أن زعماء الأحزاب والمنظمات كانوا يستأثرون بصنع القرار، ولكن الاستئثار بالأملاك المنقولة وغير المنقولة هو جانب غير معلوم من الناس. عرفات، مثلاً، لم يكن كذلك. لم يسجّل أملاكاً باسمه أو باسم عائلته. على العكس من ذلك، سجّل عرفات ممتلكات في لبنان بأسماء لبنانيّين أصدقاء لمنظمة التحرير فسرقوها واحتفظوا بها عندما طالبتهم منظمة التحرير بها فيما بعد.
جورج حبش لم يختلف. لكن الظاهرة في التنظيمات اللبنانيّة كانت أميَل نحو الفساد. لكن أين كان قادة المنظمة، بما فيهم نائب محسن إبراهيم, عندما كان الأمين العام يسجِّل أملاكاً للتنظيم باسمه الشخصي؟
يذكر اجتماعاً طويلاً بين حافظ الأسد ومحسن إبراهيم في أيّار 1982. يقول إنّ الأسد روى بتفصيل عن الحسم العسكري في ما يعرف بمجزرة حماه. يقول إنّ الأسد هدّد إبراهيم بالتلميح، ولكن كيف كان إبراهيم يضايق الأسد في تلك الحقبة؟ كانت تصريحات إبراهيم وقادة الحركة الوطنيّة كلّها إشادة بسوريا والدور السوري. وإبراهيم كان من الذين نصحوا وليد جنبلاط بالتصالح مع النظام السوري بعد اغتيال كمال جنبلاط مباشرةً. طالب الأسد ببيان يعلن إدانة الحرب العراقيّة-الإيرانيّة، فاستجاب إبراهيم لذلك قبل أيّام من بدء الاجتياح الإسرائيلي (ص. 244).
يروي عن الاجتماعات التي تلت حصار بيروت من أجل التحضير للمقاومة. كان عرفات يحذّر من غزو إسرائيلي وشيك للبنان (راجع الصحف في شباط وآذار 1982)، ولكنه لم يكن مستعداً عسكرياً لذلك أبداً، لا بل إنه عيّن الحاج إسماعيل، واحداً من أقلّ القادة العسكريّين كفاءةً، قائداً عاماً للقوّات المشتركة. كان إسماعيل من أول المنسحبين، وبدلاً من محاكمته ميدانياً، كافأه عرفات بتعيينات لاحقة في مناصب رفيعة، قبل «أوسلو» وبعدها.
المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة
في التحضير لإطلاق المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة، يذكر الأحزاب المشاركة، وهي الحزب الشيوعي ومنظمة العمل وحزب العمل الاشتراكي العربي-لبنان (الحزب الأخير قلّما يرد في تأريخ تلك المرحلة). ويذكر طرابلسي ما غاب عن السرديات، من أن الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطيّة شاركتا في أعمال المقاومة ولكن من ضمن أعمال «جمّول».
المقاومة الفلسطينية في لبنان
هذا كان عهدي بالمقاومة الفلسطينية في لبنان، كانت فصائلها تقوم بأعمال النضال والقتال وتقدّم الشهداء وتقبل بتواضع تجيير الرصيد للأحزاب اللبنانيّة، كما جرى بصورة مطلقة في «حرب الفنادق». لم يكن سهلاً التكيّف بين العمل العلني (الاستعراضي في حالات الأحزاب الناصريّة) والعمل السرّي الذي فرضه الاجتياح الإسرائيلي وتدشين عهد الجميّل.
اقترح جورج حاوي على محسن إبراهيم العمل من أجل توحيد التنظيمَيْن. ويبدو أن النيّة كانت صادقةً عند الحزب الشيوعي، وحتى عند فواز طرابلسي، ولكن العقبة كانت عند محسن الذي لم يكن يرتضي بالدور الثاني في تنظيم جديد يضمّ المنظمة. وطرابلسي محقٌّ في أنّ إعلان الدمج في حقبة الهزيمة تلك كان يمكن أن يمدّ الأعضاء بالمعنويّات اللازمة (ص. 252).
يصف مشهد عرفات وهو يتنقّل بين الأبنية في حصار بيروت، وكيف كان العدوّ الوحشي الذي لم يعر الحياة المدنيّة يوماً أيّ اعتبار، يطارده ويقصف أبنيةً سكنيّةً فوق رؤوس ساكنيها لعلّه يحظى بعرفات بين الجثث. وكان سهلاً على عرفات الاختباء لأنه، خلافاً لرفاق له في القيادة، لم يكن يميل إلى حياة الرفاهية، وأذكر في ليلة من تلك الأيام أنه نام مع مرافق واحد في سيّارة فولفو تحت جسر في بيروت الغربيّة. وفي تلك الأيام العصيبة، تقرأ عن اشتباك بين «المرابطون» و«الأفواج العربيّة». كيف لا تقتنع أن العدوّ كان مخترقاً تلك التنظيمات التي تمرّست باشتباكات الأحياء؟
فواز طرابلسي – مشهد وداع عرفات
ويصف بإيجاز شديد مشهد وداع عرفات. كان عرفات آسراً لمن عرفه. أعجب حتى الساعة كيف أن شيوعيّين أعجبوا به، لأنّ عقيدته (إذا كنا نستطيع أن نتحدّث عن عقيدة لرجل آمن بالبراغماتية والتكتيك والألاعيب كبديل عن عقيدة) أبعد ما تكون عن الشيوعيّة واليسار. عرفات ارتاح في حضن أنظمة الخليج أكثر مما ارتاح في أحضان أيّ نظام عربي. وقراره المستقلّ (بالزعم) لم يرفعه يوماً بوجه أنظمة الخليج. هو شهرَ فقط ضدّ سوريا والعراق وليبيا.
(يتبع في حلقة أخيرة)
صحيفة الأخبار اللبنانية