الحديثُ هنا (في حلقة أخيرة) عن كتاب فواز طرابلسي الجديد، «زمن اليسار الجديد»، الصادر عن دار رياض نجيب الريّس.
وضع منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت
لم يكن وضع منظمة التحرير في بيروت سليماً أبداً خلال الحصار. لم يتحدّث فواز طرابلسي عن ذلك في الكتاب. أتذكر كيف أن البزّة المرقّطة للفدائيّين التي كانت تجلب لحاملها العزّة والنفوذ (وأحياناً السطوة الظالمة) باتت تجلب نظرات العداء المفضوحة.
كثر تخلّوا عنها بالكامل. المزاج الشعبي (خلافاً لعنوان «السفير» الشهير) كان قد هجرَ المقاومة إلى مكان معادٍ. بات قادة الحركة الوطنيّة يلجؤون إلى منزل صائب سلام الذي كان على تواصل مع المبعوث الأميركي.
كثر أحرقوا منشوراتهم وكتبهم الحزبيّة وتخلّوا عن أسلحتهم. لم يكن الاجتياح لينجح من ناحية سرعة تقدّم جيش العدوّ لو أن الشعب في الجنوب لم يكن قد تخلّى في عمومه عن القضيّة. الفساد والظلم كانا سائديْن من قبل المنظمات اللبنانيّة والفلسطينيّة، لكنّ الشيوعيّين والحزب القومي وقلّة غيرهم لم يمارسوا ما سمّيَ بـ«التجاوزات» من قبل العناصر المُسلَّحة.
لم يكن كلّ مسلّحي الحرب زعراناً. كم استسهلَ العدوّ الإبادي (الذي نشهد سلوكه اليوم) قصفَ وتهديم مبانٍ سكنيّة فوق رؤوس ساكنيها فقط عند الاشتباه بأن عرفات قد دخلها. هناك الكثير من الأبنية التي لاقت ذلك المصير. مبنى بالقرب من منزلنا في حي المزرعة أصبح ركاماً بقصف قنابل فراغية ولم يكن عرفات قد زاره ولم تكن هناك مواقع للمقاومة الفلسطينيّة (مشبوه في الحيّ ردّدَ في ما بعد أن العدوّ اعتذرَ عن جريمته، وهذا لم يكن صحيحاً).
فواز طرابلسي – بصمات اختراقات إسرائيليّة
وفي تلك الأيام الصعبة، حيث كان عرفات وقادة المقاومة يفتّشون عن أماكن آمنة. يروي طرابلسي عن اشتباك وقع بين «المرابطون» و«الأفواج العربيّة» في الحيّ الذي كان عرفات مقيماً فيه. هذه الاشتباكات بين الأحياء كانت في نظري تحمل بصمات اختراقات إسرائيليّة. وهي زادت بوتيرة مرتفعة قبل الاجتياح (نذكر أفعال أبو عريضة في صيدا والحريق الذي نشبَ في الحارة).
إعلام إسرائيل من خلال «صوت لبنان» الكتائبيّة كان يروِّج بحماس لهذه الأخبار لتأليب الرأي العام. وقع الكثير مِن أهالي الجنوب وبيروت الغربيّة أسرى لبروباغاندا «صوت لبنان» الإسرائيليّة.
يذكر فواز طرابلسي تنصيب بشير الجميّل. وحتى لو عزلنا عامل الجيش الإسرائيلي المحتلّ الذي فرضه، فإن القوّات اللبنانيّة فرضت بالقوة انتخابه واستعانت بالمال (تولّى ميشال المرّ بالاتفاق مع إسرائيل المشاركة في دفع الرشاوى) والتهديد بالقتل. يقول طرابلسي إنه ظنّ يومها أن بشير في الحكم كان سيشبه أمين، مع أن حكم أمين كان تقليداً لما كان حكم بشير سيكون عليه (وكان سيكون مآله الفشل، ولو عاش بشير الجميّل لانتهى في الحكم سركيساً آخر من ناحية العجز والضعف).
حالة «الإحباط والارتداد بين مثقّفي اليسار وصحافيّيه»
يتحدّث طرابلسي بصراحة عمّا سمّاه، بدقّة، حالة «الإحباط والارتداد بين مثقّفي اليسار وصحافيّيه» (ص. 256) بعد الاجتياح. يستشهد بكلام ملطّف جداً من جوزيف سماحة عن بشير الجميل وأن سماحة اعتبر السياسة المرتجاة للبنان هي «حالة اللاحرب واللاسلم السائدة بين العرب والإسرائيليّين». ودعا سماحة الجميّل إلى ربط «مواقف لبنان الخارجية بالموقف العربي العام… ودعاه إلى أن يستخدم علاقة بعض العرب بأميركا لاستدراج تنازلات من إسرائيل تجاه لبنان». وعندما وصل خبر اغتيال بشير الجميّل «أصدر محسن (إبراهيم) بياناً يستنكر الاغتيال باسمه الشخصي». للأمانة، لم يكن القائد الوحيد في الحركة الوطنيّة الذي أدان الاغتيال واستنكره بكلمات قويّة. المزاج الشعبي في الغربيّة راوح بين البهجة والفزع من عواقبه.
عارضت منظمة العمل الشيوعي مفاوضات 17 أيّار. يقول إن مواقفها اختلفت عن مواقف جوزيف سماحة حول المقاومة المسلّحة، ويضيف طرابلسي: «تحمّس جوزيف للمفاوضات وزار بصفته الصحافيّة نتاليا برفقة سمير فرنجية وأمين المعلوف وآخرين». ردّ سماحة على موقف «بيروت المساء» عن المفاوضات «متهماً إياها بـ»التشبيح» و»الانعزاليّة اليساريّة»» (ص. 257). معتمداً على رواية ألان مينارغ، يقول طرابلسي إن شارون أبلغ عائلة الجميّل أن الفلسطينيّين قتلوا بشير. عندها اتخذت قيادة «القوات اللبنانيّة» و«بمباركة» من بيار الجميّل قرار الهجوم على صبرا وشاتيلا. وتولّى التنفيذ إيلي حبيقة وديب انستاز وميشال زوين وإميل عيد وجيسي سكّر ومارون مشعلاني وجو إده (ص. 258) (نتذكّرهم بالاسم ما حيينا). وشارك في الذبح، بالإضافة إلى القوّات، ميليشيا «الأحرار» و«حراس الأرز» بالإضافة إلى وحدات من «جيش لبنان الجنوبي».
عمليّات «جمّول»
وعن عمليّات «جمّول»، يقول طرابلسي، عن حق، إنه لم تكن هناك قيادة تقود أعمال المقاومة بل كانت الأطراف المختلفة تقوم بالعمليّات مستعملةً اسم الجبهة. وغطّت اللافتة، حسب طرابلسي، مقاومة «أمل» وحزب البعث والحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب التقدمي الاشتراكي و«تشكيلات يساريّة متعدّدة أخرى في منطقة سوق الغرب والشحّار». طبعاً، كانت كل الفصائل الفلسطينيّة تقدّم الدعم وكانت تشارك في المقاومة تحت اسم جبهة «جمّول».
يروي حاوي عن اجتماع متوتّر بين جورج حاوي ومحسن إبراهيم طالب فيه الأوّل الثاني بالتنحّي عن منصب الأمين العام التنفيذي للحركة الوطنيّة كي لا يكون الشيوعيّون في واجهة الاستهداف. اقترح حاوي سكرتاريا من ألبير منصور وسمير صبّاغ وأسامة فاخوري (الأوّل والثالث لم ينتميا إلى أحزاب فيما كان الثاني نائباً لإبراهيم قليلات). كان الاقتراح نتيجة تراكمات في الخلاف بين الرجليْن، بالرغم من أن اسميهما ارتبطا في الأذهان بثنائي حليف في سنوات الحرب. صارحهم سعد الله مزرعاني بخلفيّة قرار قيادة الحزب الشيوعي فقال: «قرّرنا أن نستعيد هويّتنا اللبنانيّة ونريد أن نأخذ مسافة من المقاومة الفلسطينيّة» (ص. 262). ويضيف طرابلسي: «واستنتجنا أن ذلك يعني أيضاً النيّة بالتسوية مع النظام السوري».
تجاهل محسن إبراهيم بعد ذلك دعوة للقاء قيادي مع جورج حاوي. وبعد ذلك، زار حاوي أمين الجميّل في بعبدا واعتبر فواز طرابلسي الزيارة «فاتحة…استعادة الحزب لهويّته اللبنانيّة». لكن حاوي روى في ما بعد أن الهدف من اللقاء كان مناشدة من حاوي للجميّل بعدم عقد الاتفاق مع إسرائيل وإيصال رسالة من حافظ الأسد ضد 17 أيّار. عندها، اجتمع إبراهيم مع وليد جنبلاط وصدر عنهما بيان يعلن «تعليق أعمال الحركة الوطنيّة».
فواز طرابلسي – اقتراح حاوي تنحي ابراهيم محسن
يقول فواز طرابلسي إن اقتراح حاوي بتنحّي إبراهيم كان نتيجة معلومات استقاها من زيارته لموسكو حول ضغوط وشروط لحلّ الحركة الوطنيّة وإنه حاول تفادي ذلك بتغيير واجهتها (ص.263). لكن قرار الحلّ لم يناقَش من غير جنبلاط وإبراهيم وقد فوجئ بالقرار قادة وجمهور الحركة الوطنيّة. حتى طرابلسي لا يبدو أنه يعلم كيف اتخذ إبراهيم وجنبلاط القرار وإذا كانا قد تعرّضا لضغوطات ما من جهة ما. صحيح أن الحركة كانت (كما يعترف طرابلسي) في حالة انقسام وتشرذم فظيع.
هنا، وقعت القطيعة بين الحزب والمنظمة وبين جورج حاوي ومحسن إبراهيم، على ما يقصّ فواز طرابلسي (ص. 263). والخلاف كان أيضاً يعكس، على ما يقول المؤلّف، خلافاً بين التحالف مع النظام السوري (من جهة الحزب) والتحالف مع عرفات (من جهة المنظمة). وبلغ الخلاف بين الطرفين الحدّ الذي دفع الحزب للطلب من موسكو وقف المنح الدراسيّة للمنظمة.
الغريب أن الخلاف لم يكن معلناً والتفاصيل عنه في كتاب فواز طرابلسي أقرأها للمرّة الأولى. ويقول طرابلسي، خلافاً لسرديّات الياس عطالله المستجدّة وعن بطولاته في مواجهة غازي كنعان: «فتح الحزب مكتباً في دمشق، وأخذ ينسِّق عمليّات المقاومة مع الأجهزة السوريّة» (ص. 265). طبعاً، عندما يقع خلاف في السرد بين الياس عطالله وطرابلسي، تصدّق حتماً الأخير. ويقول إن عناصر من المنظمة كانوا يعتقلون على الحواجز السوريّة في طريقهم للقيام بعمليّات.
فواز طرابلسي – جورج حاوي اتهام عرفات بتفجير حرب المخيّمات في عام 1985
ويقول طرابلسي إن جورج حاوي اتّهم من دمشق عرفات بتفجير حرب المخيّمات في عام 1985. أمّا كريم مروّة، فأعلن من التلفزيون الفرنسي تأييده لحركة «أمل» وهاجم «الجناح اليميني» في قيادة منظمة التحرير. ويتحدّث طرابلسي عن اغتيالات الشيوعيّين فيربطها (وعن حق) بـ«المعارك التي نشبت بين الشيوعيّين وحركة أمل» (ص. 266).
كما ويقول طرابلسي إن الحزب الشيوعي رتَّب محاولة اغتيال ضد ميشال عون «ونسبها إلى البعث السوري في مؤتمر صحافي مشترك بين الياس عطالله وعبدالله الأمين». وانكفأ محسن إبراهيم بعد دخول القوات السوريّة إلى لبنان في عام 1987. ويضيف أن نقاشاً بينه وبين القيادي الشيوعي خليل الدبس يوضح أن تمنّع محسن إبراهيم عن قبول منصب نائب جورج حاوي كان من العوائق أمام وحدة الحزب والمنظمة (وكان للأمين العام للحزب الشيوعي نائبان أصلاً).
انتقل المؤلف إلى باريس في عام 1984 ودخل في نقاش مع المنظمة حول توجّهاتها. لكن الذي يقرأ الكتاب يتعجّب أن المؤلّف صبر لسنوات على سلوك ومواقف لم يكن موافقاً عليها (من جانب محسن إبراهيم). توافق طرابلسي وإبراهيم على «طلاق ديموقراطي» بينهما، ويتحدّث طرابلسي بصراحة نادرة عن التسوية المالية مع المنظمة بعد أن خدمها متفرّغاً لخمس عشرة سنة متواصلة. كما أنه يتحدّث عن مرتّبه وعن قروض استدانها في ما بعد ويسمّي الأشخاص المعنيّين بشفافية.
انضم طرابلسي، بمبادرة من ياسر عبد ربّه ومحمود درويش، إلى أسرة مجلّة «الكرمل». يعرض الكاتب لكتابات إبراهيم في الثمانينيات ويرى أنه «ضخّم» خلافه السياسي مع الحزب الشيوعي ويربطه بالخلاف الذي وقع بينه وبين حاوي. وإبراهيم شخصيّة لم تكن مرشّحة للقيادة لأنه لم يكن جماهيريّاً. كان يجذب المثقّفين مثله مثل نايف حواتمه لكنه لم يكن ليقيم علاقة مباشرة مع الناس.
تجديد الحركة الوطنيّة
يعود إبراهيم ليطرح مسألة تجديد الحركة الوطنيّة من دون طرح مشروع محدّد. ويواظب محسن إبراهيم على ولائه لياسر عرفات ويتساءل طرابلسي عمّا إذا كان ممكناً لوم الإمبريالية الأميركيّة على انشقاقات حركة «فتح» بعد هزيمة 1982. ويكشف طرابلسي (للمرّة الأولى على علمي) أن إبراهيم توصّل إلى اتفاق مع النظام السوري يمنعه عن التعبير السياسي مقابل سلامته الشخصيّة فيما كان يجرّح بكرامة رفاق له في التنظيم (ص. 303). ويلوم إبراهيم رفاقه على تأخر المراجعة فيما كان هو الممسِك الفعلي بمقادير التنظيم. ويخلص محسن إبراهيم في استنتاجاته النظريّة إلى أن «التاريخ» (كلّه؟) حكمَ عليه (أي المشروع الماركسي للتغيير) بالفشل (ص. 312)، وأضاف، بالنيابة عن منظمته التي جدّدها، أن «لا التزامَ كاملاً بالماركسيّة». ويعرض طرابلسي هذه الاستنتاجات بما ستستحقّه من نقد ورفض أيضا.
وبخلاف صفّ اليساريّين السابقين التائبين، يجاهر الكاتب، في ختام الكتاب، بأن الماركسيّة لا تزال مرجعه «الفكري الأوّل». كما وينتقد إعلان النقد الذاتي الذي طرحه إبراهيم في أربعين جورج حاوي. هذا الكتاب باتَ من الأركان الأساسيّة في كتابة اليسار اللبناني، لا بل في تأريخ الحرب الأهليّة، ومن زاوية يساريّة غير اعتذاريّة.
صحيفة الأخبار اللبنانية