فيديل كاسترو.. التاريخ إن أنصف

عن 90 عاماً و105 أيام، يرحل فيديل كاسترو، وليس في قلبِه حسرة. من كوبا، الجميلة، والكبيرة، يرمُق النظرة الأخيرة على جارةٍ لدود، تصغرُ، وتتقلص، فهل تراه يعرف أي مسخٍ قد حلّ على رأسها؟

في الحدائق اللاتينية، نزوات عابرة. مياه الجزيرة تتسع للأطلسي، ومن خلفه، مقاومات لا تزال تشمخ. اليسار العالمي في مأزق، لكن ضربةَ الكفّ تنفعُ لتكون درساً. العالم بخير، فلماذا يرحل حزيناً؟ جزيرتي محجة لـ «الثوار»، ولأنها لا تزال، فارقد بسلام. الـ «كوماندانتي»، يقول لنفسه، مرة أولى وأخيرة. «التاريخ لن ينصفني.. وحدي». مقابل كل طاغٍ، هناك، في كل بؤرة، من لن يرضخ.

فيديل كاسترو يرحل. رحيل آخر العمالقة. لم يبق على شاكلته أحد، ربما، أو على شاكلة ثورة متعولمة. من يولد حديثاً في التاريخ، لا اسم له، حتى لو كان ثائراً. حمل بلده عمراً مديداً من النضال، ونضالات في عوالم أخرى. أعطاها الحرية، أنشأ شعباً، أحدث توازناً بين بلد قوي وقادر، وبلد مقهور ومحاصر. القوي لم يعد بحجم قوته، يقول كثر. كوبا فيديل لن تعود بمثل عنادها، يقول آخرون. المُبارزة ربما اليوم بدأت.

في هافانا، يرددون نكتة قديمة ـ متجددة، «إنهم يدفعون لنا، ونحن ندّعي أننا نعمل». لكن الجزيرة ليست خمولة. علم عالمي، ومجاني، وأعلى معدل للمتعلمين. طبابةٌ، وأعلى معدل للحياة. القلق ليس سمة، وهو ربما من علامات الحصار. هناك، كادت الشيوعية أن تشعل حرباً عالمية ثالثة، لكن مركّبات زمانها، في كبسولة الوقت، كما تشاء الصحافة المُلونة أن تسميها، لا تزال تعمل. الصورة أجمل، إلى جانبها. هي لعنةٌ، بنظرة من الشمال، لكن جنوبيي الأرض يعرفون قيمتها.

ولد فيديل في 13 آب 1926، واحتاج 33 عاماً، ليُحرر كوبا. كان التحدي أن الجزيرة تدخل نصف قرن جديداً، بفكر جديد. لكن العالم حينذاك، كان يعيش تحديه، ولم يشأ كاسترو و «الرفاق» أن يكونوا خارج السرب. حتى من المقاعد اليسوعية، كان الحلم بقلب نظام باتيستا، قوياً. ومن داخل السجن، ومن المكسيك، ومن يخت «غرانما»، وجبل «لا بلاتا»، قاوم عملية «إنهاء فيديل»، متوعداً الأميركيين بحرب أكبر. ومن داخل الأمم المتحدة، في العام 1960، أطلق أطول خطاب في تاريخ الجمعية العامة للمنظمة، بأربع ساعات ونصف ساعة، لكن دخول التاريخ، كان الفضل فيه للدولة المستضيفة، مع أكثر من 600 محاولة تصفية جسدية، ومواجهة كادت أن تشعل حروباً، ونطاق شاسع للمبارزة، وصل حدود أفريقيا.

وقد تراجعت العلاقات الأميركية ـ الكوبية سريعا منذ انتصار الثورة في كوبا في 1959. كان المسؤولون الأميركيون مقتنعين بأن كاسترو معادٍ كثيراً لأميركا لدرجة يصعب الوثوق به، وكانوا يخشون أن ينقل الجزيرة إلى الفلك الشيوعي، رغم أن كاسترو لم يكن يوماً سوفياتياً. وفي بداية العام 1960، وإثر توقيع كاسترو معاهدة تجارية مع الاتحاد السوفياتي، بحلم تنويع لا يقتصر على الجارة المهيمنة، بدأت إدارة دوايت ايزنهاور بتمويل وتدريب مجموعة من المنفيين الكوبيين لقلب النظام الجديد. وردّ كاسترو بمضاعفة برنامج التأميم، إلى أن حصل الشرخ الديبلوماسي.

وفي عهد جون كينيدي، المؤمن بنظرية «الرّد المرن» لمواجهة الاتحاد السوفياتي، أطلق الأخير العنان للمنفيين، وهي خطة لـ «سي آي إيه» كانت قد وافقت عليها إدارة ايزنهاور، لتكون واقعة خليج الخنازير، وتليها مواجهة اخرى كادت أن تشعل حرباً عالمية ثالثة.

أزمة الصواريخ في أواخر 1962، أسست لهزيمة أميركية جديدة في كوبا، رغم أن التعهد السوفياتي كان على حساب شروط أكبر لكاسترو جرى تهميشها. في عهد ليندون جونسون، المنشغل بمستنقع فيتنام، والمتعهد لسلفه بعدم اجتياح الجزيرة الشيوعية الجارة، أرسلت القوات الأميركية إلى جمهورية الدومينيكان للتدخل في حربها الأهلية، ولتجنب كوبا اخرى. وفي عام 1966، وقعت إدارته على قانون سمح لـ123 ألف منفي كوبي بالبقاء في الولايات المتحدة. أما ريتشارد نيكسون، فاختار أن يُصوّب اهتمامه بعيداً عن كوبا فيديل كاسترو، لكنه ظل يدعم عمليات الـ «سي آي إيه» لتصفيته، وجدد التعهد للسوفيات بعدم مهاجمة كوبا.

وكان جيرالد فورد أول رئيس أميركي سعى لتطبيع العلاقات مع كوبا، وهي محاولة انتهت في كانون الاول 1975 عندما أرسل كاسترو قواته إلى الجنوب الأفريقي. وبحسب وثائق نُشرت حديثاً، حاول هنري كسينجر تنفيذ ضربات جوية ضد كوبا في عام 1976. جيمي كارتر حذا حذو سلفه، من دون نجاح يذكر، ولو بخطاب بالإسبانية. مواجهة جديدة في عهد رونالد ريغان، وتشديد الحصار في عهد جورج بوش الاب، ومحاولة «الشعب للشعب» في عهد بيل كلينتون، وحصار جديد في عهد بوش الابن. إلى أن جاء باراك أوباما، بورقة زيتون من دون غصن، وكونغرس معادٍ.

وفيما ستتنافس وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث على مرّ الأسابيع المقبلة، لتفنيد إرث «القائد»، يعرف فيديل جيداً أنه ترك كوبا مختلفة عما كانت عليه في أواخر خمسينيات القرن الماضي. هي أكثر استقلالاً، وأكثر اعتماداً على النفس، وأكثر فخراً مما كانت عليه خلال حكم الديكتاتور باتيستا، حين كانت تحت السيطرة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة، وحين كانت شركات الأخيرة الخاصة تملك 80 في المئة من الأراضي الزراعية والخيرات. ولكن على عكس تشي غيفارا، الصديق والرفيق، عاش كاسترو عمراً طويلاً، ليرى يوماً مصافحةً أميركية ـ كوبية.. فهل ستتغير وجهة الجزيرة؟

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى