في اللاذقية ضجة

 

عدت إلى اللاذقية زائرا سياحيا بعد أكثر من خمسة عشر عاما … عدت إلى المدينة التي كنت فيها طالبا في الصفوف الثانوية في الأربعينات و مدرسا في الخمسينات فإذا بي أشعر بفوارق كبيرة طرأت عليها .. فاللاذقية الأن أوسع و أكبر عمرانا و أكثف سكانا و أنها تزاحم فعلا أكبر المدن السورية …

حاولت أن أزور الأماكن التي أعرفها جيدا فإذا بي أتوه عن غرضي إذ إختفت جميع البساتين التي أتذكرها بين حارات المدينة و قد إنتصبت فيها الأبنية الضخمة التي لا طراز لها خاص بالمنطقة كما في عمران تونس مثلا و المغرب و الجزائر فكل عماراتها الكبيرة الحديثة لا طراز لها سوى الضخامة و الإرتفاع و الكثافة و إكتظاظ الشوارع كلها تقريبا بالبنايات المتلاصقة …

لقد تغير كل شيء هنا تقريبا و المناظر السيئة ليست قليلة خذوا مثلا الرصيف الممتد مما كان يسمى بالكازينو و هو فندق و مقهى و مطعم بناه حكم الإنتداب الفرنسي في الثلاثينيات و الأربعينيات على الشاطئ قرب ما كان يسمى بالطابيات – إذا لم أخطئ – و يمتد رصيف عريض من عند الكازينو بإتجاه الشمال الغربي و هذا الكورنيش – كما كان يسمى – كان المكان الذي يتنزه فيه عدد كبير من سكان المدينة و معظمهم من الشباب الذين كانوا في الصيف خاصة و بعض أيام الربيع و كنت واحدا منهم بإستمرار حتى ولو كنت مراهقا في تلك العهود كنا نأتي كي نتفرج على أجمل الجميلات من الفتيات المسيحيات خاصة و بعض المسلمات السافرات من الحسناوات أيضا … كانت تلك النزهة عصرا أجمل ما أذكره عن ذلك المكان الذي صار كما رأيته في زيارتي الأخيرة هذه .. الرصيف صار مهدما في بعض أقسامه و الكازينو مثله مخرب في بعض أجزائه و محاط بأسوار خشبية كبناء مهجور و عرضة للإصلاح الذي تأخر بالتأكيد و الرصيف و الكازينو خاليان طبعا من العمال أو المتنزهين و الفتيات ملكات الجمال ..الله …الله ..!!أين هن الحسناوات في هذا الزمن القبيح ؟!.

المرفأ الضخم الذي احتل بحر الساحل من عند الكازينو إلى مسافة كيلومترات لم يسمح برؤية البحر القريب من الشاطئ و لا شيء سوى البواخر الضخمة و الآلات الكبيرة و البضائع المكدسة على مسافة طويلة جداً تقارب منطقة رأس ابن هانئ ، مما يجعل المدينة بأسرها لا ترى البحر إلا بصعوبة و لا بد من قطع عشرة كيلومترات أو أكثر كي نرى البحر و نسبح فيه في منطقة خليج ابن هانئ أو الكورنيش الجنوبي الذي كان عامرا بخضرة البساتين في زماننا فصار الأن حيا خارقا في أبنيته العصرية  و مطاعمه الهائلة على الشاطئ الجنوبي للمدينة و المواجه لمدينة جبلة الواقعة على بعد ثلاثين كيلومتر … هناك يمكن رؤية البحر بإتساعه و أمواجه و بهذا المعنى لا يمكن في المدينة رؤية البحر في مساحته الكبرى إلا إذا ابتعدت كثيرا عن مركز المدينة كما كان الحال في الزمان الذي يخصنا نحن الذين ولدنا في أواخر العشرينات … حتى مقهى و مطعم العصافير إختفى تقريبا و كان على شبه جزيرة داخلة في البحر بات هذا المقهى الرائع مسدودا عليه منظر البحر بعد أن خنقته البنايات العالية و الأشجار الضخمة فصار مقهى جانبياً فقيراً في مناظره الجميلة …

رحمك الله يا أبا العلاء المعرّي فيما قلته في وصف اللاذقية حتى في زمانه كما يبدو تعرّضت اللاذقية لتغييرات سيئة كما تقول أبياته هذه :

فـي الـلاذـقيـة ضجّـة                                  مـابــين أحـمـد و الـمسيـح

هـذا بـنـاقـوسه يـدق                                  و ذاك بــمـآذنـه يــصـيــح

كـل يـحـبـذ ديـنـه                                    يـالـيـت شعـري مـا الـصـحـيـح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى