في انتظار عودة مصر إلى دورها: غياب العرب عن.. العالم! (طلال سلمان)

 


طلال سلمان

تتبدى نيويورك، هذه الأيام، ومع افتتاح الدور الجديد لأعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، عاصمة للسياسات الكونية ومركزاً للصفقات السرية والتسويات التي حان موعدها، بعد إرجاء طويل، بين «الأقوياء» حول مشكلات متفجرة تتوزع في أنحاء مختلفة من العالم.
لن يكون الرئيس الأميركي باراك اوباما إمبراطور الكون، بعد اليوم. لقد عاد إلى مسرح السياسات الدولية شركاء كبار كانت قد غيبتهم أزمات حادة داخل مركز السلطة في بلادهم، أبرزهم على الإطلاق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإذا كان الرئيس الصيني ما زال يفضل ألا يظهر في الصورة التذكارية لقادة العالم فإن هؤلاء لا يمكنهم أن يتجاهلوه حتى لو غاب.
في أي حال، لن يتكرر في المبنى الأزرق ذلك المشهد التاريخي لقمة الكون، في ذروة الانقسام بين معسكريه الغربي بقيادة الرئيس الأميركي جون كينيدي، والشرقي بقيادة الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف، وهو الانقسام الذي سمح ببروز كتلة عدم الانحياز التي جاء بعض قادتها إلى تلك الدورة، وبينهم ممثل النهوض العربي جمال عبد الناصر، كما سمح بأن يجيء إليها الزعيم الكوبي فيديل كاسترو ليفيد من الفرصة في زيارة تاريخية لأحياء الزنوج في نيويورك ولعب كرة القدم مع شباب هارلم.
هنا لب الموضوع: الوجود العربي في المجتمع الدولي ومدى حضورهم في القرار الدولي، بمعزل عن مستوى تمثيل بلادهم في الدورة الجديدة للأمم المتحدة، الذي سيكون هذه السنة هامشياً، بمعزل عمن سيجيء إلى نيويورك ومن سيغيّبه الانشغال بالداخل وفيه… فالعرب بلا قائد ولا قيادة، بلا مشروع سياسي، وهم يذهبون إلى «حائط مبكاهم» الجديد منقسمين إلى حد الاحتراب، بعضهم يستعين على البعض الآخر بالأجنبي، وأحياناً يتواطأ مع هذا الأجنبي على «أخيه» الذي بات يراه الآن «عدواً».
يكفي أن ننظر إلى خريطة الحرب في سوريا وعليها لنكتشف خطورة الاشتباك العربي حولها ومن خلالها، الذي يوزع «دولهم» أيدي سبأ.
لقد سقط المحرم، كمثل الاستعانة «بالحليف» أو «الصديق» الأجنبي على الأخ الشقيق، أو كمثل المشاركة في تسعير نيران الحرب الأهلية في بلد عربي، أو كمثل الاندفاع إلى تقديم خدمات ثمينة للعدو الإسرائيلي بذريعة توفير شروط النصر على حاكم ظالم.
لقد اندثرت «المرجعية العربية» سواء أكانت مؤسسة يحرص «الكبار» من قادة العرب على تعزيز دورها، مثل الجامعة العربية، كما غيبت القيادات التي حكمت مصر، ابتداءً من تاريخ وفاة جمال عبد الناصر، الجامعة العربية وأفرغت دورها من أي مضمون، بل لعلها قد جعلت هذا الدور مجافياً لاحتياجات الأمة وتطلعاتها.
عطلت اندفاعة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات إلى الصلح مع إسرائيل بشروطها، بعد «اغتيال» حرب أكتوبر (تشرين) بثغرة «الدفرسوار» وما تلاها من انتكاسة عسكرية مفجعة، دور مصر بوصفها المرجعية العربية.
وتمثلت أولى النتائج باندثار دور جامعة الدول العربية، كمؤسسة تحتضن الجميع، وتحاول صياغة موقف موحد للعرب، حتى لو سارت بخطى أضعفهم.
وحين خرجت هذه الجامعة من القاهرة إلى تونس، كانت قد غدت مؤسسة عجوزاً، بلا روح وبلا دور فاعل… فلا تونس هي مصر، ولا المناخ المحيط يمكن أن ينعش جامعة لدول منقسمة على ذاتها، بعضها متواطئ مع السادات في صلحه، وبعضها الآخر معترض، ولكن من دون قدرة على وقف هذا الخروج على دور الجامعة وميثاقها.
هكذا خسر العرب مرجعيتين في آن: القاهرة بنفوذها الواسع ودورها القيادي المؤثر الذي انقلب إلى عكسه، والجامعة العربية التي صارت خلال غيابها مؤسسة مشلولة. ثم أنها لما عادت إلى القاهرة بعد غياب السادات كانت قد تحولت إلى إدارة بيروقراطية بلا روح وبلا إرادة، خصوصاً أن «دولها» كانوا قد نظموا شؤونهم من دونها وبعيداً عنها… متهمين عودة «المصري» إلى موقعه في أمانتها العامة «اعترافاً» متأخراً باتفاق كامب ديفيد وما نتج عنه، وإن هم «لم يعترفوا» به رسمياً.
كانت المعارضة للصلح المنفرد قد غدت «أقلية» فعلياً، بغض النظر عن التصريحات والخطب ومهرجانات تسفيه «التطبيع».
احتراماً للتاريخ، من الضروري استذكار «جبهة الصمود والتصدي» التي أقيمت على عجل، وعقدت أول قمة لها في طرابلس معمر ألقذافي، وحضرها الرئيس السوري حافظ الأسد، والرئيس الجزائري هواري بومدين، ولم يأت إليها الزعيم العراقي صدام حسين، الذي كان يستكمل موجبات «تسلم» الرئاسة في بغداد من نسيبه الرئيس يومها أحمد حسن البكر، فأوفد من يمثله ولا يقرر عنه… وكان طبيعياً أن يكون الرئيس ياسر عرفات حاضراً وخطيباً مفوهاً وهو يسفه بلسانه «كامب ديفيد»، مع أن عقله كان «يتفهم» مغامرة السادات، ويحاول أن يفيد منها، إذا ما استطاع إلى ذلك سبيلاً… فلم يكن سهلاً على الزعيم الفلسطيني أن يقفل باب القاهرة دونه، وأن يفقد دورها «كوسيط مؤثر» في السياسة بعدما فقد دورها كقائد للعرب في معركة تحرير فلسطين.
انتقل مركز الثقل لمعاهدة «كامب ديفيد» إلى العاصمة السورية دمشق، وفيها انعقدت القمة الثانية، وارتحلت القمة الثالثة إلى الجزائر… ثم انتفت الحاجة إلى قمم أخرى بعد ترسخ الأمر الواقع بالعجز عن تجاوزه.
في هذه الأثناء كانت إيران الثورة الإسلامية تجد طريقها إلى عواصم عربية عدة، فلقيت الترحيب في دمشق حافظ الأسد، الذي كان يعرف كيف يستفيد من «التعاون» الذي يظل أقل من أن يصير تحالفاً، ولكنه يكفي في لعبة التوازنات السياسية التي يتقنها جيداً.
وبعد الاجتياح الأميركي للعراق، الذي سهَّل له الطريق تحالف معظم العرب مع الأميركيين بذريعة استنقاذ الكويت، كان طبيعياً أن تعتبر طهران أنها شريكة في إعادة صياغة الوضع الجديد في العراق… وهكذا غدت إيران لاعباً رئيساً في بغداد، مع تعزيز تحالفها مع الرئيس بشار الأسد في سوريا، الذي جاء وريثاً لأبيه «اللاعب الأكبر» في المنطقة.
ومن قبل هذا كله كانت طهران قد عرفت طريقها إلى لبنان عبر دعمها مشروع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الذي كان قد احتل معظم الجنوب في آذار 1978، ثم اجتاح عاصمته بيروت في بدايات صيف 1982، وتمكن من ترحيل المقاومة الفلسطينية منه، ومن تنصيب رئيس جديد للجمهورية، لم يقدّر له أن يستلم زمام الرئاسة، إذ اغتيل قبل وصوله إلى القصر الجمهوري.
وعندما انتصرت المقاومة الإسلامية في إجلاء المحتل الإسرائيلي كانت طهران تحتفل بوصفها شريكاً في هذا الانتصار.
نستعيد هذه الوقائع لكي نشير إلى أن الحضور الإيراني في الأمم المتحدة، هذه السنة، سيتبدّى بصورة رصينة، وسيكون خطاب رئيسها قوياً بمضمونه، مع اطمئنانه إلى دوره في المنطقة العربية من حوله، فضلاً عن نفوذه في جواره الإسلامي.
ومن البديهي أن الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني سيتبدّى نجماً في المبنى الأزرق بنيويورك، بعدما نجحت إيران في احتلال موقع الدولة ذات النفوذ الواسع في الشرق، لا سيما في غياب مصر عن دورها القيادي الشرعي والمشروع، ومع احتراب سائر العرب في سوريا ومن حولها، وانشغال أكثرية أنظمتهم بمشكلاتهم الداخلية، وبهوت القضية الجامعة فلسطين، التي لم يغفلها النظام الإيراني يوماً في خطابه السياسي.
سيكون الوجود العربي باهتاً، وسيكون الخطاب العربي حشواً، لأن من يملك القدرة على القرار، ومصر أساساً، مشغولة بذاتها، في حين أن دول الخليج مشغولة بسوريا فضلاً عن أنها لم تندفع يوماً للعب دور دولي بارز، مكتفية بتحالفها مع الإدارة الأميركية، والجزائر غاطسة في هموم معركتها الرئاسية وهل سيجدد الرئيس بوتفليقه لذاته دورة رابعة أم يخلي الطريق أمام غيره… ودائماً بالتفاهم مع الجيش.
مرة أخرى يتقدم الإسلام السياسي على العروبة، في المنتديات الدولية، وتطرح القضايا العربية بمجملها في بازار التفاهمات الدولية في غياب أهلها الأصليين.
… ودائماً، في انتظار عودة مصر إلى دورها القيادي الذي لا بديل لها فيه.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى