‘فَـــي’ لفرح صبري تعود بنا الى أطياف الزمن الجميل
يزدادُ حنيننا إلى الماضي رغمَ بساطته، اليوم عندما نتصفح في هواتفنا نتوقف دائما عند الصور التي لها علاقة بالزمن الجميل، يتسائل اطفالنا عن بعض الادوات التي لم يكن لنا غنى عنها في السنوات السابقة مثل اللالة والفانوس وجرة الماء، ويجهلون عاداتنا السابقة مثل شاي العصر الذي نشربه في باحة المنزل والنوم على السطوح أيام الصيف، كانت احلامنا بسيط وحياتنا سعيدة وطموحاتنا معقولة.
واليوم عادت بنا فرح صبري إلى اطياف ذلك الزمن في روايتها” فَي” الصادرة حديثاً عن دار ومكتبة تركواز، رسمت لنا صاحبة نورن لوحة بغدادية تعبق برائحة ذلك الزمن الساحر، رواية بسيطة في ظاهرها وعميقة في جزيئاتها، لوحة من الغموض والحب والعذاب والعقد النفسية مؤطرة بإطار الماضي، فكشفت عن قراءة دقيقة جداً لكل الاحداث التاريخية التي مرَ بها العراق من فترة الثلاثينيات الى الستينيات من القرن العشرين وكذلك نشاطها في تتبع وتحديد مواقع الاماكن التي اندثرت حالياً مثل مكتبة مكنزي وبعض النوادي والمحلات التجارية في شارع الرشيد وغيرها حتى يخيل للقارئ ان فرح عادت بعجلة الزمن الى الوراء لتستطيع وصف هذه الأماكن بهذه الدقة، ومن غير المنصف الحديث عن اجتهاد صاحبة برغم خلافاتنا برسم خطوط الزمان والمكان دون تناول تميزها في تنسيق مشاعر الحب بين (في وغازي) بما يناسب حقبة الستينيات ، فلكل زمن مشاعره واحاسيسه ورسائله، ومن الملفت انها تناولت موضوع للرواية يليق لكل الأزمان فمازال بعض الرجال في شعوبنا العريية يحارب تقدم المرأة وتعليمها لكي لاتتفوق عليه بينما الحقيقة ان تعليم المرأة وتعزيز قدراتها يعود بالمنفعة لها ولزوجها واسرتها. ويبقى السؤال الأهم لماذا يصر بعض الرجال على الزواج من المرأة الغير متعلمة التي لاتناقش ولاتجادل ولاتخرج من مطبخها بينما تبقى حية في خياله تلك الحبيبة الذكية التي ناقشته وحاورته في كل مفاصل الحياة!
“اخشى الزواج وانجاب الاطفال، أحاول صنع حياة لهم قبل أن أحيا، كم عدد الأشخاص الذين ولدوا وماتوا، ولم يذوقوا طعم الحياة ؟!”.
نافذة على مشاعر عراقيين القرن العشرين
لم تصب الكاتبة جل اهتمامها على موضوع الرواية فقط بل اخذت بعين الاعتبار مشاعر العراقيين ووجهات نظرهم تجاه الأحداث السياسية التي كان يمر بها البلد، من المعلوم ان تلك العقود الثلاثة بين الثلاثينيات والستينيات كانت تعج بالفوضى السياسية والانقلابات والثورات، فيلاحظ القارئ ان كل فترة زمنية يتم تناولها في الرواية تزيح الستارة عن الحدث السياسي المصاحب لها وردة فعل العراقيين وتأثرهم بالساحة السياسية والتغيير الذي يطرأ على المجتمع العراقي الزاحف نحو التقدم .
كذلكَ من المثير للإعجاب هو مغامرة الكاتبة في اختيار “فرع الطب النفسي” اختصاصاً لبطلتها وهذا في رأيي الشخصي تحدي كبير لقدرتها كمؤلفة لأن موضوع الطب النفسي موضوع شائك جداً يحتاح الى دراسة وتعمق في الأمراض النفسية وتأثيرها على الإنسان، ونجحت فرح في كسب هذا التحدي من خلال شرحها المبسط عن المرض النفسي الذي عانى منه بطلها غازي فأوضحت عن اهتمام بهذا المجال ودراسة متأنية قبل القدوم على كتابة الرواية، لإنتاج صورة كاملة ومبهرة عن المجتمع البغدادي في تلك الفترة بعاداته وتقاليده وآفراحه ومآسيه، فلا يسعك عزيز القارئ وانت تقرأ هذه الرواية ذات الروح البغدادية الأصيلة الا ان تتذكر ماكتب الغائب الحاضر في قلوبنا غائب طعمة فرمان عن الحب في “روايته ظلال على النافذة”: كل شيء قابل للتأجيل، ما عدا الحياة نفسها، إنها لاتقبل الانتظار. ثم إنني لا أريد حباً محبطاً، حباً عاجزاً يتقاسم الخيبة فيه الزوج والزوجة”.