قادم من الشام؟.. كيفو البخاري؟

مات محمد البخاري الموريتاني، ولم يكن في نفسه أيّ بعض من “حتّى”,غاب مثل سطر يجفّ بعيدا عن رمال المحيط….مثل خيط دخان يتلوّى ويترنّح تعبا في مبخرة ميلويّة…ودمشقيّة بامتياز.

كتب ,رافق ,صدّق, كذّب ,شاكس,أخلص,خاصم,ضحك ,توجّع ,راهن ,ناقش,كابر,تواضع,صارح,ابتعد,اقترب,نسي,تذكّر,تحدّث,كشف,كتب, قرأ,أخفى,ودّع ,تأنّق ,تأفّف,تكبّد ,هادن,غامر,ملّ …………….فغادر, بكلّ أفعال الماضي ,المبنيّة للمجهول منها والمعلوم.

هو يعلم جيّدا أنّ (كان) فعل ناقص ولا يمكن امتلاكه إلاّ بعد المغادرة ,لذلك قال يوما:(صرت مقبرة للأصدقاء).

عزّى كل الموجوعين ,مسح زجاج المرآة كي يمحو دمعته ,نسي أن يعزّي نفسه ,كتب ورقة نعوته بأصابع ترتجف من كثر ثباتها … ثمّ غادر بالبدلة التي كانت تتقبّل العزاء وهو يمدّ يده في أماسي الحرمان.

رحل دليل العربي التائه في ليل دمشق,لم يعد يسأل القادم من الشام في كلّ بلاد العالم :(كيفو بخاري؟).

-بخاري بخير,مازال ميّتا ويسكن المقبرة التي لا تبتعد كثيرا عن المطار الذي لا يعرفه إلاّ قادما.

ترك بخاري مكانه شاغرا في مقبرة العائلة الموريتانيّة ليوهم أمّه بأنّه سوف يعود بعد قليل.

لم نعد بعد اليوم نقاوم الملل في نادي الصحفيين يمشاكسة البخاري واستفزازه …لم نعد نشرب عصير الشعير بذات الشهيّة بعد أن غادر سيّده.

لم يعد الرجال يجدون لنسائهم مغازلا,بريئا ,مجّانيّا ومسالما في لحظات السأم .

لم تعد أصغر العتبات وأعلاها تجد لها عاتبا غيرك يا (بخّور) ,كما كنّا نناديك في اللحظات التي تكون فيها رائقا.

من منّا لا يذكّره البخاري بمواعيده الخاصّة والعامّة…لقد ذكّر بعضهم حتى بأسماء زوجاتهم وأيام ميلادهم.

كان يملك ذاكرة بدويّ يكاد يحفظ اسم كلّ حبّة رمل …ويقتفي أثر كلّ نسمة قد تداعب شعر امرأة ما في مكان ما.

قال عنه الفنّان الراحل مصطفى الحلاّج ,حين استغرب الجميع دخوله المقهى غير مبلّل ذات ليلة ماطرة ,مثل أهل الخطوة والتبريك:(إنه يمشي ويقفز بين حبّات المطر …فلما الاستغراب…!؟) .

هل فقدنا الابتسامة البريئة بعد أن ترك البخاري عصاه الصغيرة التي كان يتوكّأ عليها مثل (همزة ) فوق (ألف) , ويختبأ وراءها مثل ظلّها…غادرنا موهما إياّنا بأنه يتجه نحو مطار دمشق لاستقبال صديق.

سوف يستقبله كلّ الأصدقاء هناك ويسألونه عن الجنازة التي جاء منها ومن سوف يلحق به من أصدقائه الملولين .

حقّق محمد البخاري أمنيته في الموت والدفن في تربة دمشق ,لكنّه فشل في المشي وراء جنازة كل أصدقائه بإيقاعه المتناغم مع التكبير والتوحيد وأجراس الكنائس …..لذلك كان الجميع يعتقد بأنّه سوف يكون أكبر معمّر في دمشق ….وآخر من يموت.

يذكّرني محمد البخاري بشخصية (الباهي) في رواية عبدالرحمن منيف(عروة الزمن الباهي),غير أنّ الأوّل قد عاش في باريس والثاني في دمشق….هل قدر المغاربيين أن يكونوا أدلاّء أشقّائهم العرب في مشارق الدنيا ومغاربها.

ماتت جميع شخصيات الرواية ,انضمّ إليهم البخاري كشاهد على عبقريّة الأقدار ,لكنّهم مازالوا على الورق أحياء يرزقون .

لم يكن شاهدا على العصر باللغة الممجوجة,لكنّ العصر كان شاهدا عليه في المحبة والإخلاص والتفرّغ للقلب قبل كل شيء.

نسي “بخّور” أن يصطحب معه عصاه ولا جرائده ولا كأسه …لكنّه أخذ ذاكرة غفل عنها الموثّقون …

ليس غريبا أن يكرّم معهد ثرفانتس الإسباني روحه الرقيقة هذا الأسبوع,ذلك أنّه يعلم بأنّ محمّد البخاري لم يكن يحارب طواحين الهواء أبدا….حتى وإن ضلّ طريقه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى