قاسم سليماني والمدى الحيوي لإيران

لم يكن مستغرباً ما أثاره المقطع المصور لـ «محاضرة أخلاقية» مقتضبة كان يلقيها سليماني باللغة العربية على جنود عراقيين في مكان غير معلوم. فالرجل الغامض يُعدّ من أشهر الشخصيات على الساحة الإقليمية حالياً. وهو على شاكلة القادة الشرقيين طوال التاريخ، أصبح موضعاً لنسج القصص والحكايا وربما الأساطير. فالعقل الجمعي في هذه البقعة من العالم، ولانغماسه الشديد في مفاهيم الإمامة والخلافة والقيادة العابرة لكل قوانين النخب ودوراتها، لم يعتد بعد على النتاج المؤسساتي، وأن الصناعة السياسية والإستراتيجية باتت عملية معقدة ومجزَّأة، تشارك فيها دوائر اقتصادية وسياسية وعسكرية عدة. ولكن، لمَ لا؟ فليكن الرجل اسطورة او مشروع اسطورة. هكذا تقول قوانين السوق، في مراعاة المستهلك وأهوائه الخاصة.

يمثل قائد فيلق القدس الإيراني اللواء قاسم سليماني الطبيعة المستجدة للعلاقات العامة الإيرانية. أي أن الرجل بصوره وقصصه وظهوره الدائم في مقاطع مصورة على الجبهات، يعكس إعلاناً رسمياً من الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنها تخطت «الحساسية» العربية المزمنة من دورها في الجوار، خصوصاً مع انتصار الثورة وسطوع نجم مصطلح «تصديرها». إيران اليوم تتعاطى مع الشأن العراقي على المنوال الأميركي ذاته، فحماية مصالحها أو مصالح حلفائها باتت تتطلب حضوراً مباشراً، وبما ان لواشنطن اربعة آلاف مستشار في العراق، فلمَ لا يكون لها 5 أو 6 أو 7 آلاف؟.

أخرج سليماني «المشروع» الإيراني عن صمته، أو ربما أن الأخير تحدث من خلاله. فلا حرج بعد اليوم. المجال الحيوي يتمدد، وقطر دائرة الأمن القومي الإيراني يتوسع علانية وأمام العرب والعالم. وحاجة حلفاء طهران للمساعدة المباشرة في مواجهة أزماتهم الداخلية ذات الامتداد الإقليمي والدولي، بات جوابها صائتاً مباشراً وعلانياً. كذلك فإن الأمر يعني أن ايران تظهر بشكل حاسم حاجتها الماسة للإبقاء على الحلفاء بما تيّسر من سيناريوهات، تحفظ قدراً وازناً من مصالحها وقدرتها على المناورة ما وراء حدودها. لكنها تدرك أن الانغماس المباشر ينطوي على مخاطرة بتفريغ بعض خطابها السياسي من مضمونه، وفي الجانب الآخر شحن خطابات كانت بمثابة الاتهام الذي يوجه بشكل دائم لإيران.

القاعدة التي تتحكم بمستقبل «الحراك» الإيراني في المنطقة قديمة ومجرَّبة، وهي تقضي بأن الميزان الحقيقي لنجاح السيطرة العسكرية على الرقع الجغرافية الكبيرة، يكمن في اختبار «إدارة السيطرة». لذلك، وإن كان الاستعجال في ضرب الخصم مفهوماً في قياس الحروب، فإن ما بعد السيطرة يحدد ملامح النجاح من الفشل. نعم، في الواقع العراقي وكذلك السوري، إيران لا تُحسب بمثابة الغازي القادم من خلف الحدود بالمنظور الحكومي المحلي ولفئات اجتماعية واسعة، انطلاقاً من دعمها «شرعية» الأنظمة المركزية في بغداد ودمشق. لكنها في الوقت ذاته، تدرك انها تناور أو تعمل في أرض «معادية» بالمنظور العسكري وبالمفهوم التقني المباشر للمسألة. إذ إن البقع التي تنشط فيها طهران عسكرياً خرجت عن سيطرة حكوماتها المحلية منذ سنوات بفعل تراكمات، منها ما يتصل بالغزو الاميركي للعراق والإدارة شديدة السوء التي اعتمدتها النخب الحاكمة المنبثقة عن توازنات الاحتلال وما بعده، ومنها ما يتصل بعقود من غياب «وعاء ديموقراطي» يكفل استقراراً مقبولاً في الحياة السياسية والاجتماعية السورية.

بمعزل عن ثقل الدور الإيراني المباشر على ارض المعركة، خصوصاً في «الجبهة العراقية» تبقى طهران الحاصد الأول للـ«غنائم» على المستوى السياسي والإستراتيجي، والخاسر الأول في حال الفشل. لذلك، فهي تتحمل الجزء اليسير من علامات «التصدع الوطني» الذي تمثله القوات العراقية المشتركة، خصوصاً قوات «الحشد الشعبي». فالواضح من أداء هذه «المجاميع» انها تقاد بعقلية «شعبوية» غير احترافية، من تطويعها المقاتلين وصولا الى ادارتها القتال. وهي جماعات تحرص على إنتاج كمٍّ هائل من المقاطع المصورة بشكل يومي لعملياتها العسكرية بما فيها من شعارات تحمل هوية دينية مذهبية تعكس أبعاداً قد لا تتصل بطبيعة الصراع وحقيقة الخندقة الدائرة فيه. وهي شكلت المادة الدسمة لأطراف إقليمية ودولية في عملية تسويق الصراع ضد «داعش» على أنه حرب مذهبية.

لا شك بأن إيران تحصد ثمرات التوسع الجديد، في عملية حماية الحلفاء وضرب «العدو» من حيث يمكن ان يضربها يوماً. فهي تطبِّق ألف باء الإستراتيجيات العسكرية المجرّبة، لكنها تحصد ايضاً «غِلالاً عرضية». الأشواك هذه لا تحسب غلة لكنها تبقى «حصاداً» حقيقياً لا وقاية ناجعة من ضرره حتى الآن، فالجمهورية الإسلامية حاولت تجاوز هويتها المذهبية منذ انتصار الثورة على الشاه محمد رضا بهلوي العام 1979، نعم، لم تكن مقنعة للكثير من «المرتابين» العرب. لكنها اقنعت كثراً آخرين، خصوصاً في دعمها المقاومة الفلسطينية، وسعيها لتحسين العلاقات المشتركة مع مصر ودول شمال افريقيا. لكن الخشية اليوم أن يكون الجهد قد ضاع.

ائتلاف «الظروف السيئة» في مواجهة الدخول الايراني العلني على المعترك المشرقي، والأداء الاعلامي الهش لـ «محور الممانعة» في مواجهة إعلام متمرس في صناعة الاحداث على الضفة الاخرى، كلها امور ساهمت في خلق خط مواز لخط «الانتصارات» اليومية التي تسجلها طهران. ربما لأن العقلية الايرانية تراهن على نتائج الميدان بمعزل عن المنابر. وربما لأن المعركة تدار بقدر من الاستعجال الشديد لترابطها وتشابكها مع ملفات يتداخل فيها الحساب المحلي والإقليمي والدولي. لكن تبقى الحقيقة ان الخط الموازي هذا، قد يكون الأشد فتكاً في مشروع التآكل الاجتماعي في المنطقة العربية ـ الإسلامية.

في المعركة هذه، هناك ما يُحسب لإيران وما يُحسب عليها، قد لا تكون الدماء والأموال الخسائر الوحيدة، فالعمل جار على قدم وساق لبناء القاعدة الصلبة والبيئة الحاضنة للمعركة القادمة. وفي قلب الحدث هذا، ومهما ضاق حيّز المناورة، يبقى التنقل الخفيف، والعناية المشددة بحساسيات متراكمة منذ 1400 عام، أولوية لا تتقدمها أخرى. تجاوزات «معسكر الأخيار» في العراق مثلا اضطرت المرجعية الدينية العراقية في النجف للتعبير عن استيائها الشديد. وقد بدا ذلك جلياً في مطالبة ممثل المرجعية الدينية الشيخ عبد المهدي الكربلائي بعدم رفع صورة السيّد علي السيستاني و«الرايات الخاصة» لتسببها بإثارة الهواجس، مؤكداً على ضرورة أن تتوحد الأطراف كافة تحت راية العراق. لكن المرجعية ذاتها تتحمل قسماً غير مباشر من أخطاء الميدان بعد إعلانها «جهاداً كفائياً» ربما أملته الانكسارات السريعة في صفوف القوات الحكومية، في مقابل تمدد غير محتمل للعناصر الإرهابية واقترابها من بغداد. لكن حشده وبمعزل عن كل المقاصد، حمل لوناً مذهبياً خالصاً، كان له مفاعيله على أرض الميدان.

تبقى المهمة المستحدثة أمام اللواء سليماني، الذي بات واجهة «المشروع الإيراني» بمعزل عن مستوى الصلاحيات الممنوحة له من طهران، إعادة إنتاج آلة دعائية «حديثة» تغسل ما استطاعت من تراكمات «خطايا» الشهور وربما السنوات الماضية، على ان يفرض الرجل انضباطاً مهنياً على ما تيسر من قطاعات عسكرية تعمل بإمرته أو في ظله او تحت رعايته، بما يكفل التأسيس لأرضية خالية من تجاوزات لا تخدم مصالح طهران أو حتى مصالح بغداد ومعها دمشق.

سليماني «محارب قديم». خبر جبهات «المدى الحيوي» لمنظومة الأمن القومي الإيراني من أفغانستان الى بيروت، و «هوسات» الحشد الشعبي، او شعارات بعض المقاتلين في ريف دمشق، لا تعكس طريقة تفكيره أو اسلوب عمله. لكنها تنعكس عليه حتماً، وبالتالي أصبح تأطير الميليشيات والجماعات المسلحة غير النظامية على امتداد الجبهات، واجباً يوازي اهمية العامل «الوقتي» في تحقيق الأهداف الميدانية، خصوصاً أن الهدف ليس فقط القضاء على «داعش»، وإنما منع الأمور من التحول الى سياق جديد يؤسس لبؤرة «غليان» جديدة بفعل الإحباط أو الإحساس بالضعف والهزيمة لدى فئات وطنية واسعة، تغذيها هوية المنتصرين، وهنا تبرز أهمية العودة الى الهوية العسكرية النظامية.

التجربة العراقية عقب الغزو، وبعد مقتل ابو مصعب الزرقاوي العام 2006 وتحقيق «الصحوات» نصراً حاسماً على «القاعدة»، ثم عودة الأمور الى مربعها الأول، واستثمار أخطاء الحكومات العراقية المتعاقبة، من إهمال المناطق الوسطى والشمالية، وتعاطيها الأمني مع مطالبات شعبية مشروعة من وجهة نظر قسم واسع من الشارع العراقي، وما افضى له الأمر من تأسيس لمرحلة الدولة الداعشية ذات الامتداد الإقليمي بكل مفاعيله، كل هذه الأمور تثبت ان مهمة إيران وبالتالي اللواء سليماني في «إعادة هيكلة» زمن ما بعد النصر، تفوق في الواقع العربي أهمية النصر بحد ذاته.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى