قراءة للأزمة السورية “أسباب ومآل” (عامر راشد)

 

عامر راشد

رغم أن الأزمة السورية دخلت عامها الثالث، متخذة مسارات خطيرة على مستقبل البلد، تندر القراءات البحثية السياسية المعمقة لأسبابها، ومجرياتها والسيناريوهات المتوقعة لمآلها، من منظور استراتيجي، وهو ما اجتهد في تقديمه أربعة من الباحثين في ورقة تستحق التوقف عندها.
تحت عنوان "سوريا.. الطريق إلى الثقب الأسود"، قدَّم د. سمير التقي وحسام ميرو وإبراهيم الأصيل ومنير الريّس ورقة تحليلية لأسباب اندلاع الأزمة السورية والسيناريوهات المتوقعة لمآلها على ضوء مسارها المتدحرج، وتطور موازين القوى الداخلية والمواقف الإقليمية والدولية إزاءها، وبصرف النظر عن أي ملاحظات قد تساق على الورقة من زاوية الاختلاف مع أرضية المعارضة، التي انطلقت منها، تمتلك الورقة قيمة بحثية جديرة بالاهتمام والتدقيق في محتواها.
تتوزع الورقة على ثمانية أقسام، قسمها الأول "العقد الاجتماعي السوري"، يعرض فيه الباحثون الأربعة بعجالة مرحلتين مرَّت بها الدولة السورية منذ الاستقلال، ومن ثمَّ يركزون على المرحلة الثالثة، مرحلة ما بعد وصول "حزب البعث" للسلطة في الثامن من آذار/مارس 1963. وفي هذا الشأن يرى الباحثون أن سورية الحديثة وجدت نفسها بعد الاستقلال "مقطّعة الأوصال ومرّ فيها العقد السياسي الوطني والعقد الاجتماعي بمراحل عدة ويمكن أن نوزع هذه المراحل إلى ثلاث جمهوريات: فثمة جمهورية أولى نشأت بعد الاستقلال وصولاً إلى الوحدة، ثم جمهورية ثانية بدأت مع الوحدة وانقطعت لفترة بسيطة فيما بين 28 أيلول 1961 حتى الثامن من آذار/مارس 1963، لتعاود التأسيس لنمط الحكم الشمولي الشعبوي".
ويضيف الباحثون الأربعة: "نشأ العقد الوطني السياسي السوري على ما يمكن تسميته بالشرعية الثورية، فلقد حكم البعث هذه الفترة عبر التأسيس وفرض مجموعة من القيم قامت عليها سلطته.. وحاول البعث اشتقاق شرعيته من رؤية برنامجية لمهام وطنية: تحرير الأرض وتحقيق الوحدة القومية ومهام اجتماعية، في محاولة للجمع بين التنمية والعدالة الاجتماعية في إطار منظومة قيمية اشتراكية.. وبذلك كان جوهر اشتقاق الشرعية الثورية، في مرحلة ما بعد سقوط النظام الديمقراطي البرلماني في الخمسينات، هو اشتقاقها من عوامل عقائدية ثورية قومية وطبقية".
وحسبما يراه الباحثون الأربعة، تعرَّض العقد الاجتماعي في ظل حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد لـ"تحولات عميقة بانتقال حكم البعث تدريجياً من تحالف بين قاعدته الشعبية المكونة من فقراء الريف في سورية وشرائح من الطبقة المتوسطة المدنية، ليغير جلده تدريجياً فيما بعد..".
 ويعالج الباحثون الأربعة في القسم الثاني من الورقة "الملامح العامة للواقع السياسي السوري الراهن"، حيث يؤكدون أنه "يبدو واضحاً أن الكثير من العوامل التي تسم الواقع السوري الراهن قد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الصراع نفسه، وأسهمت تلك العوامل في تحويل الأزمة السورية إلى ساحة لتناقض وصراع المصالح الإقليمية والدولية".
كما يؤكدون أن طول أمد الصراع، قد لعب دوراً مهماً على مستويات عدة، ومنها: "على مستوى المعارضة: "انكشاف هشاشة المعارضة الديمقراطية المدنية أمام قوة وحشد القوى الإسلامية. إذ تتركز المعارضة المدنية اليوم في عدد من المناطق، وهناك العديد من المجموعات المدنية التي لا تنضوي تحت جناح لجان التنسيق المحلية، لكنها تعمل بآليات تواصلية جيدة، وتقدر تلك المجموعات بأكثر من 600 مجموعة في طول البلاد وعرضها، ويصل عدد أعضائها وسطياً إلى 100 شخص، إلا أنها لا تخضع لإطار قيادي موحد، ولا برنامج سياسي محدد، بيّد أنه تتبنى جميعها مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية، وتنشط بعض الأقليات في معظم هذه المجموعات، وبعضها يشكل القسم الأكبر منه مواطنون من الأقليات الدينية".
ويوضح الباحثون أن طول المدة الزمنية كشف عن "تباينات في القوى الإسلامية نفسها، وأوجد أرضية لوجود قوى إسلامية جهادية. وفشلت المعارضة السورية في تشكيل بديل قائد للبلاد وللثورة. ولئن كان تشكيل الائتلاف الوطني مكسباً كبيراً على طريق وحدة المعارضة، فإن الطريق نحو تمكنه من الحصول على إجماع سياسي ووطني وطاعة وقيادة وطنية جامعة ما زال أمراً يحتاج لجهود كبيرة وكثيرة". 
وعلى مستوى النظام، يلاحظ الباحثون أن "معظم الانشقاقات في النظام كانت من الطائفة السنية.. ولم تحدث انشقاقات على مستوى القطع العسكرية الكبيرة، وظلت على مستوى الأفراد، أو المجموعات الصغيرة. ويعاني النظام من عدم قدرته على الحسم العسكري، وخروج مناطق كثيرة من البلاد من سيطرته العسكرية، وما يستتبع هذا الأمر من تجلي أشكال أخرى من سيطرة الدولة المركزية..".
والتقدير النهائي للباحثين الأربعة هو: "وجود حالة استعصاء في المجال العسكري بين قوى الجيش الحر وبين الجيش النظامي، قد ينكسر في أية لحظة تحت ضربات قوى الثورة، لكن أفق هذا الانتصار غير واضح، وتحديداً فيما يتعلق بمعركة دمشق، خاصة أن كل الوعود الدولية بتقديم دعم نوعي للجيش الحر لم تتحول إلى واقع فعلي..".
وفي القسم الثالث "الأزمة الاقتصادية وتفكّك الدولة" يبيِّن الباحثون أن الحكومات السورية المتلاحقة منذ استلام البعث للسلطة لم تستطع السير بـ"برنامج تنموي شامل قادر على تلبية المتطلبات الأساسية للتنمية المستدامة. وقد عانت القطاعات الاقتصادية كافة من الأمراض الإدارية المزمنة، مثل انتشار الفساد، البطالة المقنعة، ضعف الإنتاجية. إضافةً إلى زيادة في نسب البطالة والفقر وارتفاع معدلات التضخم، وعدم وجود عدالة في توزيع الثروة. وقد أدى تبني حزب البعث لاقتصاد السوق الاجتماعي إلى تحول الاقتصاد السوري للعمل بآليات السوق (العرض والطلب) من دون الاهتمام بتوفير شبكات الضمان الاجتماعي المرافقة لهذا التحول، الأمر الذي أفضى إلى تراجع في دور الدولة في الحياة الاقتصادية اليومية".
ويعتقد الباحثون، في القسم الرابع "الوضع الإقليمي" والقسم الخامس "الوضع الدولي"، أن الثغرات في المواقف الدولية والإقليمية تجاه الأزمة السورية لا تكمن فقط في "إستراتيجية أوباما تجاه الأزمة السورية في طابعها الحميد والمفرط في تفاؤله في حسن نوايا الأطراف اللاعبة الأساسية وانصياعها للإرادة الأميركية"، بل تكمن أيضاً في "حقيقة أن العطالة الدولية قد تركت الأزمة السورية لتصبح مكسر عصا لكلّ التناقضات الإقليمية والصراعات التاريخية على النفوذ، هذه الحقيقة لا يولّدها إلّا غياب الفعل الدولي والأميركي أساساً، إذ تُترك الساحة السورية لتصبح قُمعاً يرتبط مصيرها بحلّ كافّة القضايا المتشابكة في المنطقة والتي فشل حتّى الآن أوباما، كما أوضحت الجولة الأخيرة للوزير كيري، في بناء منظومة لها قدرٌ كافٍ من التوازن الداخلي، بما يسمح بتطوير سياسات مبنية على الثقة المتبادلة بين مختلف الأطراف".
وفي هذا السياق يشدِّد الباحثون الأربعة على أن "عدم قدرة قوى المعارضة الخارجية حتى اللحظة على فهم طبيعة الصراع الدولي وموقع الأزمة السورية فيه، وعدم إدراك حقائق الوضع على الأرض، والتبدلات التي طرأت على المجتمع السوري، بعد أن غادر معظم هذه المعارضة البلاد، يوضّح سبب غياب السياسة والزعامة الحقيقية لدى العقل السياسي.. فالقضية العادلة وحدها لا تضمن انتصاراً، ولا تغيّر حسابات الدول التي لها مصالحه، كما أن البندقية بلا عقل لن تولد في نهاية المطاف سوى الظلام".

ويلفت الباحثون إلى أن "تجنّب العلاقات مع الجماعات المسلحة يهّمش فعلياً القوى المعتدلة بدلاً من أن يعزز قوتها، فإذا لم يتم تمكين القوى المدنية، ولم تتمكن هي من تجاوز تشتتها وغياب المنطق السياسي في صفوفها، فإن الجماعات المسلّحة ستبقى تؤكد حقّها في أن تكون على طاولة الحل النهائي".
ويخلص الباحثون إلى أن "بعض التساؤلات تؤسس للكثير من مواقف الشريحة الرمادية للشعب السوري، وإذا كان ينبغي تجنب الفراغ أو الفوضى والانهيار التام للبلاد فإننا نحتاج للتفاوض مع رجال الدولة، ولابد من اغتنام الفرصة السانحة التي أسس لها التغير الراهن في موازين القوى، ودعم الانتقال عن طريق التفاوض".
ويحذِّر الباحثون في القسم السادس من "وقائع التفكك الوشيك للدولة السورية"، وعلى حد قولهم: "تسير الأوضاع في سوريا، وبخطى متسارعة نحو تشظي الدولة، وانفراط الجغرافيا، وهو ما تمّ التأسيس له عبر أوضاع ميدانية تترسخ مع الوقت بحكم الأمر الواقع على الصعيد العسكري واستعصائه، بحيث لا نتصور تبدلات حاسمة في خطوط المواجهة. مصالح القوى الإقليمية، انكسار شبه كامل للوحدة الوطنية انفراط عقد المجتمع".
ويضع الباحثون الأربعة، في ختام القسمين السابع والثامن من الورقة، سيناريوهات محتملة لمآل الأزمة، يؤسسون عليها اعتقادهم بأن "حالة الفوضى في البلاد التي قد تنجم عن انهيار النظام بالتزامن مع انهيار الجيش ومؤسسة الدولة، وفي ظل غياب قيادة سياسية حقيقية للثورة، ستؤدي إلى تعثر كبير في عملية التأسيس للشرعية الجديدة القائمة على الإجماع الوطني، ما يبشّر بمستقبل سيء للبلاد".
مرَّة أخرى الورقة غنية بما يطرحها الباحثون الأربعة في أقسامها الثمانية، وتستحق التوقف عنها كإسهام من أرضية معارضة لقراءة الأزمة السورية والبحث عن مخارج لها.

وكالة أنباء موسكو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى