أطياف

قطوف من الحكمة الصينية

قطوف من الحكمة الصينية… خزانة الأدب الصيني، شعراً ونثراً، تضم كنوزاً كلاسيكية لا يقتصر مدى تأثيرها على أدباء الصين وحدهم، إنما يتسع مدى الإعجاب والتأثر بها إلى اليابان وكوريا ومعظم بلدان جنوب شرق آسيا، كما يعترف كبار الأدباء في اليابان بأهمية ذلك التراث. والروائي الياباني كِنْزابُرو أووِه، الحائز على جائزة نوبل للآداب 1994، يعلن ذلك صراحة في أكثر من لقاء، ويقول إن كلاسيكيات الشعر الصيني هي التي عززت ميله إلى الأدب وأغنت مخزونه الفكري والثقافي ودفعته أن يتفرغ لإبداعه الروائي.

وفي كتاب “مأثورات صينية”، نطالع مقولات ونماذج متعددة من الحكمة الصينية، سواء من آثار كونفيشيوس أو لاوتسي ومريديهما من الحكماء والمعلمين الأوائل. الكتاب مصنف في خمسة فصول، وسيكون آخر كتاب أعنى بترجمته، قبيل رحلة الوداع… وربما أكتفي باختيار باقة من كل فصل، إذا شعرت أن الوقت الضنين لا يسمح لي بترف استكماله.

في نيسان 2008، وقد تجاوزت السبعين بسنوات، أتيح لي أن أقوم برحلة إلى بكين العاصمة، وبدأت دهشة الإعجاب من مطارها الجديد وهو باتساع مدينة معاصرة؛ ولعل طيبة الناس وسهولة الإجراءات، ومندوب الفندق الذي يرفع لافتة باسمك وراء الحاحز الأخير.. هذه اللمحات كلها تزيد الرحلة متعة وانشراحا. وحين تكون برفقة سيدة عزيزة مثل فاطمة عطفة، رفيقة الدرب.. تصبح رحلة (الختيار) أيسر وأغنى بهجة وانشراحا. ولأن الشعر مرتبط بالأساطير منذ أقدم العصور، يطيب لي أن أنتقل إلى الأسطورة لأصل إلى الشعر وأقتطف المقطع التالي من رحلتي الموسومة بـ”في مدار التنين”:

“الشمس في الأساطير الشرقية ترمز للرجل ويمثلها على الأرض الإمبراطور، والقمر بلطفه الأنثوي يرمز للمرأة، والنساء مراتب ودرجات، والإمبراطورة هي المرأة الوحيدة التي تمثل البدر في ليلة التمام. ولأن التقويم الصيني منذ القدم يعتمد على منازل القمر، فإن علاقة الإمبراطور بزوجاته ومحظياته منذ ثلاثة آلاف سنة تخضع في الغالب لأيام الشهر القمري. والانسجام الفلكي بين الشمس والقمر لا يبلغ ذروة كماله إلا ليلة التمام. ففي أول الشهر يبدأ لقاء الإمبراطور بأدنى مرتبة من مراتب الزوجات والمحظيات حتى يكتمل القمر بدرا فتكون تلك الليلة من نصيب الإمبراطورة، وهي تمتاز بأن من حقها وحدها أن تبقى معه حتى الصباح في تلك الليلة. ومهما كان عدد النساء في جناح الحريم، فقد حددت التقاليد للإمبراطور الحق بمعاشرة 122 امرأة، وتأتي الإمبراطورة على رأس هذه القائمة. وهناك أربع زوجات من الدرجة الثانية، وتسع زوجات من الدرجة الثالثة، و27 من الدرجة الرابعة و81 من الدرجة الخامسة. إن ليلة التمام تقسم الشهر إلى نصفين، وتقل أهمية كل ليلة حسب بعدها عن تلك الليلة البدرية الخاصة بالإمبراطورة. وهناك بطاقات خاصة تحمل أسماء الزوجات، وتقضي التقاليد في وزارة الطقوس بأن تحتفظ المرأة المكلفة بشؤون غرفة النوم بسجل خاص للقاء الإمبراطور بزوجاته، حفاظا على سلامة السلالة.

ومن المؤكد في الأمر أن هذه واقعة تاريخية وليست من أساطير الأولين، وبخاصة أن الوثائق المدونة تذكر أن الإمبراطور(وو)Wu  (265-290م) من سلالة جين كانت قصوره تضم عشرة آلاف امرأة يقمن في أجنحة متعددة، وكان يطوف عليهن ليلا بعربة تجرها الماعز، وعندما تتوقف أمام أحد الأجنحة كان يترجل ليمضي ليلته هناك. أما الإمبراطور مينغ هوانغ من سلالة التانغ فكان يحتفظ بـ 40 ألف محظية في جناح الحريم الإمبراطوري. من بينهن أربع زوجات وإمبراطورة. وتشير بعض الدراسات إلى أن هذا الانغماس العبثي المفرط في الملذات هو الذي جعل متوسط عمر الإمبراطور 41 سنة وحسب، في حين أن متوسط عمر الكاهن البوذي الذي يعيش زاهدا متقشفا في أحضان الطبيعة 77 سنة…”

ولعل هذه العبرة تكفي للانتقال إلى الشعر (وهذا المقتطف من كتابي “في مدار التنين”: إن عددا من الأباطرة كانوا شعراء ورسامين. ويبدو أن “جو يوانجانغ” أول إمبراطور في سلالة (مينغ) لم يكن مصيبا حين خالف روح الشعر في إيثار حفيده على ابنه في أصول وراثة العرش. فقد طرح على كل من حفيده (جو يونوين) وابنه (جو دي) أن يكملا هذا البيت الافتتاحي من الشعر (ونلاحظ أن اسم العائلة يسبق الاسم الشخصي، كما في اليابان):

(تنشر الريح ذيل الحصان في ألف خصلة من الخيوط…) جاء جواب الحفيد في صورة شعرية ضعيفة وكئيبة، إذ قال: (ويرص المطر صوف الغنم في قطع منبسطة من اللباد). لكن جو دي، الأمير الذي سينتزع العرش من ابن أخيه بعد حين، قال: (وتنعكس الشمس على حراشف التنين في عشرة آلاف قطعة من الذهب). ولا يفوتنا أن نرى هنا الفارق الكبير، فكرا وفنا، بين الصورتين. فالحفيد اكتفى بذكر المطر، وهو مقدس لأنه منحة من السماء. أما الابن فقد ذكر الشمس والتنين ورقم الكمال السماوي (عشرة آلاف) في بيت شعري واحد. وإذا كان الشعر قادرا على استجلاء كوامن الوجدان وسبر معارج الروح، فإن روحا متفائلة قوية تألقت من خلال البيت الأخير وتركت تأثيرها على الإمبراطور، وإن كانت محبته لحفيده هي التي أملت عليه قراره الأخير…

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى