أطياف

كتاب الذكريات

كتاب الذكريات…. أطلق الشاعر عبد الوهاب البياتي في ديوانه الأول (أباريق مهشمة) صورة واقعية ساخرة تقول: (هذا العجوز، ألا يكف عن الشخير؟!).. وكنا في أيام الجامعة، نتداول هذه الصورة الكاريكاتيرية ونستغرق في الضحك، لكن أحد النقاد في مجلة “الآداب” اللبنانية أشار إلى أنها لقطة شعرية صادقة تعبر عن التقدم في العمر، حيث يستأثر الماضي بكبار السن ويستهويهم الحديث عن أحبابهم ويسردون لمحات من ذكرياتهم معهم.

وفي خواطري عن القرن العشرين في كتابي: “الحنظل والرحيق.. رؤى وهواجس في الشعر والحياة“، أشرت إلى أن صديقة عزيزة كانت تلومني كثيرا لأني لا أتحدث عن نفسي إلا من خلال أبناء جيلي من الأحبة والأصحاب. وقد أكدت لها، ولكل من يستغرب أن ترقى أهمية الصداقة إلى هذا المستوى، أن من عاش في جامعة دمشق في الخمسينات وأوائل الستينات من القرن الماضي، ولا سيما أيام الوحدة بين سوريا ومصر.. لا يحب أن يرى نفسه وحيدا، ولا يستطيع أن يتحدث عن نفسه في معزل عن ذلك الجيل العروبي المتألق، فكرا وتطلعا ونزوعا إنسانيا فيّاضا. أرجو أن تكفي هذه الإلماحة لنيل كرم القبول، والتغاضي عن كل هفوة أو غفلة ترد في سرد هذه الخواطر والذكريات.

أما سنوات إقامتي في الخليج، وهي تقارب ربع قرن، فقد باشرت بتدوين كتاب الذكريات عنها. ولعل أهم ما اكتسبته في هذه السنين يتجلى أولا: في عطب القلب، لأنه سيجعل الرحلة الأخيرة سهلة ميسورة لا تستغرق أكثر من لحظات: خفقات مضطربة ومتباعدة مصحوبة بوجع محتمل (وهذا ما اختبرته في مطلع هذا القرن، يوم حملني الإسعاف إلى غرفة العناية المركزة. وقد أدركت من تلك التجربة أن رحلة الحياة الجميلة حتى بأوجاعها سوف تنتهي في لحظات، لنبدأ رحلة روحية جديدة عبر الفضاء الكوني. وأنا لآ أميز بين الروح والعقل، منذ أن قرأت يوما عبارة لأحد المتصوفة الكبار يقول فيها: “الروح شعاع من سراج الغيب”؛ ولعله قال (العقل بدلا من الروح).

كتابي الجديد بعنوان “أساطير النخيل والرمال”، وأرجو أن أنشره في الخريف، ولكن: لماذا أساطير؟ وجوابي:

إن كل شيء في واقعنا وتاريخنا وطقوس حياتنا وكثير من حكاياتنا وتخيلاتنا.. توشِّيه مسحة أسطورية، تتكاثف حينا حتى تلتبس بما تلامس من أشياء، وتشف أحيانا لتكشف ما يترامى وراءها من مشاهد وأمزجة وتصرفات. لقد وردت “أساطير الأولين” في القرآن تسع مرات، وذلك أن عتاة الجاهلية كانوا ينظرون إلى ما لا يتسق مع مصالحهم ومعتقداتهم بأنه من أساطير الغابرين. لكن الأسطورة ليست ملك الأولين وحدهم، لأن الواقع المعيش يطرح كل يوم ألوانا من غرائب الأساطير. ولقد تغلبنا على تركة الأقدمين بما اكتسبنا من أساطير في الأقوال والأفعال.. وحتى في أحلام اليقظة ومنابر الحديث والوعظ والجدال. ويكفي أن نستمع إلى خطيب جامع أو زعيم سياسي أو وجيه اجتماعي في قرية أو حارة مدينة.. ونتفكر في ما يطرح من أساطير تصل إلى ضفاف الخرافة. ولعل حدود الأسطورة تمتد حتى تصل إلى قارئات فناجين القهوة وطوالع النجوم وضاربات الودع. إن الهاجس الأسطوري في الفن والأدب جزء من بنية خلايانا وتهويم مخيلاتنا، على اختلاف أنسجتها وميادينها الفردية والاجتماعية، المدنية والرسمية، الشعبية والأكاديمية. وللطبيعة أساطيرها، عقما وخصوبة، تشكيلا وتلوينا، من كثبان الصحراء وتربة الحقول حتى مياه الأفلاج والأنهار والبحار والمستنقعات.

والنخلة رمز الحياة.. في الفضاء الرمزي والتراث الشعبي والمقدس وحتى في واقع الحياة اليومية، ظلا وثمرا وإبداعا فنيا وجماليا. حين نتأمل رحاب الطبيعة من حولنا نرى أن حياة الإنسان مرتبطة بالنبات ارتباطا وجوديا، وخاصة أن علاقة الشجرة بالإنسان تعود إلى بدء الخليقة، منذ أن كان جدنا الأول في رحاب النعيم.

ولا شك أن النخلة شجرة مباركة، كما وردت في سورة مريم في قوله تعالى: [فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة] ونداء السيد المسيح لأمه العذراء: [فهزِّي إليكِ بجذعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَليكِ رُطَباً جَنِيّا]. ومن عجائب أشجار النخيل ومحاسنها الجمالية وقيمتها الغذائية أنها تنمو في الواحات، وتقاوم جفاف الرمال في البوادي والقفار، ولعل جذورها الضاربة عميقا في أديم الأرض تستقي ما تحتاج من ماء الحياة، كما أن النخلة ترتبط بحياة العربي منذ أقدم العصور. فالرطب من ناحية، ولبن النوق والأغنام من جهة ثانية كانا، إلى جانب الخبز، قوت الإنسان العربي عبر الأجيال، وهما العنصران الأساسيان في ما تنتجه تلك الواحات وعلى أطرافها من خيرات. لكن لي حكاية خاصة ذات أطياف متعددة مع هذه الشجرة المباركة، يطيب لي أن أسردها، كما أن للنخلة صورا فنية في الشعر العربي والعالمي، وفي فن التشكيل، مقرونة بالروعة والجمال.

ولتكن البداية من مدينة تدمر في بادية الشام. لقد أطلق الرومان على هذه المدينة اسم Palmyra، أي مدينة النخيل، وكانت حاضرة بلاد الشام في عهد ملكها أذينة وزوجته الملكة زنوبيا من بعده.

وفي أواخر الخمسينات من القرن الماضي، أتيح لي أن أعمل معلما بالوكالة في “مدرسة العشائر” هناك، وهي مدرسة ابتدائية داخلية خاصة بتعليم أبناء البادية، وتقع على مقربة من مطار المدينة في ضاحية تدمر الشرقية. كانت آثار المدينة مذهلة بشارعها الطويل ومسرحها المدرج وسائر معالمها التاريخية. وكانت بساتين النخيل حولها تسر الناظرين، وتملأ النفوس بهجة، وتشرح الصدور بخضرتها الناضرة، وقامات نخيلها الشامخة كعرائس الأساطير، وأقراط الرطب المتدلية من بين تيجانها. وكان بين النخيل والمعالم الأثرية جدول جوفي من المياه الحارة، يهبط إليه مرتادوه على درج حجري ليستمتعوا بالغوص في مياهه الدافئة. فالماء والخضرة هما بهجة الحياة وروعتها.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى