“بقعة عمياء” تتناول كيفية تآكل الطبقة الوسطي في العالم العربي

 

هل بمقدور القارئ العربي اكتشاف البقعة العمياء التي أصابت حياتنا، وجسدنا، وتسببت لنا بكوارث لا تعد ولا تحصى؟

آخر أعمال الكاتبة سميحة خريس رواية “بقعة عمياء” الصادرة حديثا عن “الآن ناشرون وموزعون” في عمّان، رواية جديدة بامتياز من حيث الموضوع. تتحدث عن تآكل الطبقة الوسطى في العالم العربي، رغم أنها قدمت الأردن أنموذجاً، إذ تعد حالته نموذجية، ويمكن أن تنطبق على البلدان العربية جميعا. تبدو هذه الطبقة التي انبثقت سريعا، ويمكن القول إنها كانت تولد مع المكان وتشيخ سريعا معه مثل ربيع بلادنا قصير العمر.

نوال القادمة إلى منطقة الشميساني، البرجوازية في حينه، في عمّان، من جبل الحسين، الذي كان يوما منطقة برجوازية، لتعمل موظفة بنك، وتتعرف على ربحي القادم من الريف، والذي يعمل في إحدى المكتبات، ويمارس عملية كتابة التقارير الأمنية بزملائه، وعندما يتزوجان يسكنان لدى عائلة تاجر يملك سوبر ماركت إلى جانب البيت، كما نجد في كثير من مناطق عمّان.

تمضي الأيام، ويصبح لدى نوال وربحي عائلة من بنتين وولد، وتحلم ببناء إمبراطورية نون (على غرار فيلم فاتن حمامة – إمبراطورية ميم)، فتسمي أبناءها بأسماء تبدأ بحرف النون: ندى، ونور، ونادر. إحدى البنتين تفقد بصرها مبكرا، لكن نوال لم تنتبه إلى ذلك إلا بعد فوات الأوان، يكبر الأبناء في ظل انشغال نوال في كسب رزقها لإعائلة عائلتها، خاصة بعد فصل زوجها من العمل بسبب قضايا فساد، وتقيم بنتها الكبرى علاقة مع شاب شاعر يسكن فوق بيتهم، وابنها الفاشل في المدرسة، يهوى إحداث المشاكل، حتى يلتقطه بداية خال له، ويشغله على تاكسي، ثم على شاحنة، ولأنه شاب متهور يتسبب في حادث، دعت خاله لفصله من العمل، فيلتف حوله أحد المتطرفين ويجنده للحرب في سوريا دون أن يعي حقيقة الحرب هناك.

لم يتحقق لنوال إقامة إمبراطوريتها، التي ترمز إلى الطبقة الوسطى، إذ تتفكك الأسرة، الأب يصاب بالزهايمر، والأم تدخل في علاقة جسدية مع جارها التاجر، والبنت الكبرى تتزوج رجلا أكبر منها بكثير يعمل في دولة خليجية، الولد يلتحق بداعش في سوريا، ولم يبق إلا البنت الضريرة.

أما عائلة التاجر فهي تتآكل أيضا، فالابن المدلل، يدمن المخدرات في البداية، ثم فجأة يلتحق بالمجاهدين في أفغانستان، ثم يعود ليمارس العمل الدعوي في ظروف غامضة، أما الزوجة، المغيبة عن كل شيء، الفاقدة لأي تواصل مع زوجها، تتفرغ لدروسها الدينية، وتكون سعيدة بتحول ابنها إلى التدين.

الرواية تتحدث بأصوات الشخصيات، ويبرز هناك أصوات عائلة نوال جميعهم، إضافة إلى صوت الجار التاجر. أما بقية شخصيات الرواية فبقيت ثانوية، ولم تتحدث بصوتها الخاص، ويتعرف عليها القارئ من خلال أصوات بقية الشخصيات.

الكاتبة تلتقط اللحظات بعين احترافية، تعرف زوايا اللقطة، ومكونات الصورة، ووظيفتها، وتأويلاتها، وأبعادها، وألوانها، ودرجة الوضوح

عمل طازج، خرج من توه من بين أنامل كاتبة محترفة، ترسم شخوصها كأنها تختارهم من بين عشرات الشخصيات التي خبرتها وحفظت كل تفاصيل حياتها، وعرفت كيف يتصرفون، وكيف يفكرون، تعرف مشاعرهم، كيف تتولد، وكيف تتفاعل، وكيف تخرج، تعرف ثقافتهم، كأنها حاورتهم مرارا، حتى لا يسقط على اللوحة لون من ريشتها يخلق خللا في هارمونيا اللون والحركة على الصفحة البيضاء التي ترسمها.

تنجح الكاتبة في التقاط اللحظة الحياتية غير المستقرة وتثبتها، وتؤطرها، لتكون لوحة إبداعية واقعية جميلة، إنها تلتقط اللحظات بعين احترافية، تعرف زوايا اللقطة، ومكونات الصورة، ووظيفتها، وتأويلاتها، وأبعادها، وألوانها، ودرجة الوضوح (التركيز)، وتعرف كيف تتعامل مع الضوء والظل لتمنح صورتها الدلالات المطلوبة بطريقة غير مباشرة.

يذكر أن الكاتبة سميحة خريس فازت بجائزة كتارا للرواية العربية عام 2018 عن روايتها “فستق عبيد”، وقبل ذلك حصلت على جائزة الدّولة التشجيعيّة في الآداب عن روايتها “شجرة الفهود/ تقاسيم الحياة” عام 1997، وجائزة أبوالقاسم الشابي من تونس عام 2004 عن روايتها “دفاتر الطوفان”، وعلى جائزة الفكر العربي للإبداع العربي عن مجمل تجربتها الأدبية 2007 ، وجائزة الدولة التقديرية في الأردن عام 2014 ، وقُلِّدت وسام الحسين للتميز والعطاء في الأردن عام 2015، وهي عضو في العديد من الروابط والهيئات الثقافية مثل رابطة الكتاب الأردنيين ورابطة كتاب وأدباء الإمارات ونقابة الصحفيين الأردنيين. شاركت في العديد من المؤتمرات والندوات العربية في كل من أبوظبي والمغرب وتونس وبغداد، بالإضافة إلى مشاركاتها على الصعيد المحلي. كتبت سيناريو النص والسيناريو الإذاعي، والقصص، والرواية، وتُرجمت أعمالها إلى الألمانية والإسبانية والإنجليزية، ونشرت أعمالها في الصحف العربية والأردنية، وحوَّلت بعض رواياتها إلى أعمال درامية إذاعية.

ميدل إيست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى