“قلعة طاهر” .. السلطة بين الإذعان والتمرد

لا يمكن ان تتقيد الكتابة الروائية بشكل أو أسلوب معين، فالكتابة الإبداعية تفرض شروطها دائما عبر كسر القوالب الجامدة والتمرد على السائد، والبحث عما يمنح الكاتب حرية أكبر في التعبير عن رؤاه. في الوقت نفسه فإن العمل الروائي كما يشير سعيد يقطين لا بد أن يتوافر على أربعة عناصر أساسية هي الأفعال، والفواعل، والزمان، والمكان، فلا بد من أن تكون هناك أفعال (أحداث) يقوم بها فواعل (شخصيات) في زمان ومكان (فضاء) معينين.

من هنا أحاول أن أحدد قراءتي لرواية حسن السلمان “قلعة طاهر” الصادرة عن دار نينوى عام 2017، والتي حاول فيها أن يؤطر لفضاء تمتاز به منطقة منعزلة في أطراف أهوار ميسان، كأن لم يتناوله أحد رغم العديد من السرديات (الأدبية والفنية) التي جعلته موضوعا لها، لاسيما وأنه يتفاعل في مجتمعنا حتى اللحظة الراهنة. أي أنه عمليا لم يندثر بل ينهض دوما ملقيا بآثاره على العلاقات الاجتماعية القائمة التي تسترجع أساطيرها بخط زمني دائري.

وما جعل من هذه الرواية تتميز حقا في “حكيها” ذلك الخطاب الذي تتناوب فيه اللغة المكتوبة (الفصحى) بلغة الحوار (العامية) وبلهجة أهل المنطقة ما يجعلنا أمام سيناريوهات لأحداث تتقاطع أمامنا للوصول إلى مشهد بانورامي ينتهي بلحظة لينهض من جديد في المشهد الختامي، وكأنه يعيد القصة مجددا بإجراء التغييرات التي فرضها الزمن والأحداث الخارجية وهذا ما يصبح مهمة المتلقي، أي الاسترجاع والمقارنة، بعدما أرخ الكاتب ما يريد ونفض يديه من العمل ليقدمه كما هو إلى القاريء.

وما يضفي على العمل تلك الأهمية طبيعة الرؤية التي يمتلكها المؤلف للتقاليد والموروث والتفاصيل الدقيقة للحياة الاجتماعية والثقافية حتى أنه يحدثنا عنها وكأنه ولد ونشأ وسطها حتى أصبح ملما بها بشكل مكنه من تقديمها على شكل نص سردي يجعلك وأنت تقرأه كأنك تعيش الحياة هناك، مذكرا إيانا بأسلوب الواقعية السحرية التي امتاز بها أدب أميركا اللاتينية.

وبالعودة على بدء نرى أن الروائي الذي اختار أن يقدم روايته على لسان سارد عليم، عدا الفصل الأخير منها الذي يأتي على لسان زاهر بن الشيخ طوفان، لم يقدم حدثا معينا ليصعد به إلى الذروة في إطار بناء الحبكة الروائية، بل راح، وهذا يحسب له، يسرد أحداثا متفرقة تنبني على أساس الشخصيات المتعددة التي يقدمها لنا، ليجمعها واحدة بعد الأخرى ببؤرة لخصها العنوان تحت عبارة “قلعة طاهر” التي تصبح هي المركز الذي تمتد منه الخيوط المتفرقة لتعود إليه ثانية، وهذا ما تذهب إليه النهاية حيث يعيدنا الكاتب مرة أخرى إلى أطلال القلعة التي تم هدمها على يد الفلاحين الثائرين على الطغيان والإقطاع قبل أعوام عدة.

ويتلاعب الراوي هنا بالخط الزمني بشكل غير محسوس فهو يسرد الحدث المتعلق بشخصية ما بخط زماني متواصل، ثم يعود في حدث لاحق ليبدأ من زمن آخر ويصل إلى نقطة جديدة، فيختلط السرد السابق بالسرد اللاحق، وربما هذا كون السارد يحكي الأحداث بشكل منقطع عن بعضها مركزا على الشخصيات، لكنه بمهارة النساج يعود ليقاطع الأزمان والأحداث مع بعضها البعض، لينتج خطابا متقنا يقدم الحكاية بالشكل الذي يجعل المتلقي متلهفا لمواصلة القراءة لمعرفة ما تؤول إليه الأحداث.

وإذا كانت الأفعال/الحوادث تتقاطع فيما بينها فإن الخيوط التي تجمعها تتمثل بالشخصيات/الفواعل التي تتوزع هي الأخرى ما بين شخصيات مركزية وأخرى فرعية تظهر وتختفي بعد أن تؤدي دورها في المشهد البانورامي المتكامل للآحداث.

ورغم أن عبارة الشخصية المركزية تبدو غير منطبقة على شخصية الشيخ طاهر الذي تحمل القلعة اسمه، كون السرد لا يتصاعد بخط أفقي مرتكزا عليه، إلا أن الشخصيات الأخرى تتخذ أهميتها ودورها بالأحداث عبر الارتباط به، هو وحده القادر على أن يجمع خيوطها ويلمها ككرة بيده، لذلك ما أن ينتهي الأمر بموته حتى ينفرط الحكي، وتصبح القصة مبعثرة، وكأنها علامة يرسمها الكاتب في إشارة إلى انفراط عقد المجتمع بعد يوليو/تموز 1958.

وفي هذا الجانب يمكن أن نقول إن الشخصيات تتوزع على جانبين متناقضين من الشيخ طاهر، الأولى وهو الأقوى ويمثله الشيخ  طوفان، الشخصية القاسية التي لا تتوانى عن الإيذاء والقتل لكل من يقف بوجه، يماثله في ذلك تابعه راهي، والسركال عبدالمجيد، وهؤلاء يمثلون الجانب الشرير من السلطة المتمثلة بالشيخ طاهر، أما الجانب الآخر وهو الضعيف الذي يكاد لا يظهر في أحداث الرواية حتى يختفي ويتمثل بأخ الشيخ الثاني عباس الذي يدرس التاريخ في دار المعلمين العالية (كلية التربية فيما بعد) والذي يتأثر بالأفكار الشيوعية رغم انحداره الطبقي الإقطاعي، يماثله في ذلك المعلم ناظم، ومجموع الفلاحين الفقراء الذين يظهرون في الرواية مثل الكومبارس، سرعان ما يختفون، وحتى عندما يثورون فإن السارد يقدمهم لنا دون أسماء كظلال تتهادى هنا وهناك حيث استوجبت عملية الحكي. حتى أولئك الذين انتفضوا أول مرة بالتزامن مع حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وتعرضوا للإهانة والطرد من القرية بعد الفشل، لا نجد لهم حضورا في الثورة التي تقضي على القلعة وتحطمها عام 1958.

وفي هذا نجد أن السرد يقع في فخ المباشرة وهو ينقل الأحداث الواقعية التي تتعلق بحركة 1941 أو تلك عام 1958، حتى أن الكاتب يغادر لغته المشوقة التي ينبني السرد عليها لتصبح لغة تقريرية إخبارية وكأنها مستمدة من كتب التاريخ.

لقد قدم حسن السلمان لنا عملا روائيا متميزا، مبني على خبرة الكاتب بالمنطقة وعاداتها وتقاليدها وتاريخها، يمازج في ذلك بين السرد التخيلي والواقعي، جاعلا من أحداث واقعية نقطة ارتكاز لبناء روايته التي تحمل دلالاتها ما هو أبعد من الإطار الزمني الذي يحدده الكاتب بالعقدين الأخيرين من العصر الملكي في العراق وصولا إلى انهياره واقتحام قصر الرحاب الذي يتماهى مع اقتحام الفلاحين المنتفضين لقلعة طاهر وتحطيم الطوفة (السور) الذي يفصل القلعة عن محيطها، وتناهب موجوداتها قبل حرقها (قارن ذلك مع الأحداث التي شهدها العراق بعد سقوط النظام التسلطي عام 2003).

إن رواية “قلعة طاهر” تقدم لنا دلالات واضحة عن علاقة السلطة بالشعب، الطغيان والجبروت مقابل الضعف والرضوخ، بالمقابل يظهر عجز الطبقة المثقفة (عباس، المعلم) عن إتيان فعل ما مع إذعان الأغلبية لسطوة الأقلية المتحكمة، التي يساندها أولئك الصغار المنتفعين (الحوشية، السركال) الذين يحاولون تحقيق رغباتهم وملذاتهم بتهيئة مستوجبات الهيمنة للسلطة (الشيخ طاهر وأخوه طوفان)، حيث يجد الجميع أن المركزية تكمن خلف سور القلعة حيث تعيش “الشيخانيات” وخادماتهن حياة تعد مترفة مقارنة بتلك التي تعيشها نساء القرية، وهن رغم ذلك يشعرن بالحاجة إلى ما هو أكثر من ذلك، الرغبة، التي تتآكل أفكارهن ومشاعرهن فيرحن يبحثن عن تحقيقها بعلاقات آثمة، عندما لم يستطعن أن يكتمنها في داخلهن، وهذا ما أجاد الكاتب في تصويره بشكل فني وصور لغوية متقنة، لاسيما حين يتناول الحدث زهرة أخت الشيخ التي تلاقي مصيرها بسبب ذلك بطريقة دراماتيكية.

بالمقابل يتمتع الشيخ طاهر بالقدرة على السفر خارج حدود الهور، لإشباع رغباته في بغداد أو لبنان ومصر حيث يتمتع بما يحصل عليه من كد الفلاحين وعرقهم وفي الوقت نفسه يوفر لرجالات الحكومة الكبار ما يرغبون به مقابل توفير الحماية والغطاء له. وهو الأمر الذي يفعله طوفان أخو الشيخ أيضا الذي لا يتوانى عن إشباع رغبته مع النساء اللاتي يقدمن أنفسهن إليه لتحقيق شهواتهن التي يكتمنها داخلهن بسبب طبيعة المجتمع الذي يحاصرهن.

لقد قدم حسن السلمان رواية جديرة بالقراءة، وتستحق الوقوف عليها ثانية لتقصي دلالاتها العميقة بعيدا عن المستوى السطحي، لاسيما وأنها كما أشرنا تصور الأحداث وكأنها متوالية تتكرر في كلّ زمان بشكل جديد، فالسلطة مستمرة ومتجذرة وتحاول إبراز قدرتها بالحصول على الإذعان والهيمنة، سواء بالإرغام أو الاستمالة

 

ميدل ايست اون لاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى