كتب

نادين إيهاب: السينما أكثر الوسائل تعبيرا عن آليات عمل الحلم

تقدم الباحثة والمخرجة السينمائية نادين إيهاب في كتابها “أفلام الدراما النفسية والباراسيكولوجي” دراسة نظرية وتحليلية في الظاهرة النفسية في السينما وما لها من أثر كبير على الجمهور لارتباطها بالتغيرات الاجتماعية والثقافية المختلفة بما في ذلك صناع الفيلم، مؤكدة أن مصطلح “التحليل النفسي” يعد أحد أهم المصطلحات المعنية بدراسة التجربة الفيلمية، بل هو الذريعة الأساسية التي شكلت كل الدراسات الحديثة في السينما، فلا توجد وسيلة فنية تستطيع أن تترجم وتجسد التجربة السيكولوجية من ظواهر نفسية، مثلها في ذلك مثل الوسيط الفيلمي، وهو ما أدى إلى انبثاق نظريات نقدية متعددة محاولة تفسير وتحليل الظاهرة السيكولوجية في الأفلام، سواء من خلال المنظرين الأوائل الذين اهتموا بدراسة الفيلم كتجربة واعية، أو الدراسات الحديثة التي اهتمت بالتجربة اللاواعية من قبل المشاهد.

وحللت إيهاب أفلام مثل “سطوع” و”البجعة السوداء” و”عقل جميل” و”نادي القتال” و”الآخرون” و”الحاسة السادسة” وغيرها، وانطلقت في دراستها من أن مصطلح “الباراسيكولوجي” يتداخل في علاقة شرطية مع الظاهرة السيكولوجية، حيث إن إضافة البادئة الإغريقية para – التي تعني: وراء ـ إلى مصطلح “علم النفس” أنتجت مصطلحا محددا مشتقا من علم النفس يشير إلى بحث روحي من المحتمل أن يكون بحثا في العقل، لكن ليس بالمفهوم البسيط لعلم النفس، بل تلك القدرات المنسوبة إلى الإنسان والتي تتجاوز شروط الإدراك الاعتيادي الذي يقع موطنه في اللاوعي، ليس بمعناه الفرويدي الذي لا يمثل سوى جزء واحد أو اتجاه واحد من السلسلة الزمنية، وهذا الاتجاه هو الماضي، سواء القريب أو البعيد، وذلك يختلف عن تفسير اللاوعي في الظاهرة الباراسيكولوجية التي يتعلق بتفسير الإدراك فوق الحسي، الذي يغطي السلسلة الكونية بمراحلها الثلاث: الماضي، والحاضر، والمستقبل، وإن الزمن في تلك النظرية ليس بعدا واحدا ويسير بخط مستقيم يصل بين الماضي والحاضر وإلى المستقبل، وإنما هو متعدد الأبعاد، وأن الواحد في نقطة ما في شبكة الأبعاد الزمنية هذه يستطيع في آن واحد أن يطل على الماضي والحاضر والمستقبل، وهنا مستويان يحددان تلك القدرة الخارقة: الأول هو الذي تمثله الوحدة مع العالم المادي، “الاستشفاف والجلاء البصري”، والثاني هو الذي تمثله الوحدة مع العقول الأخرى، “التخاطر”، وبما أن الباراسيكولوجي يبحث في معطيات عملية تجريبية ورؤية فلسفية تعيد للكون بعده الشاعري والحدسي مع الرؤية العلمية بأحدث صورها، من هنا استدعت السينما ذلك العالم بكل ثقله في الأفلام، فهم يلتقيان في نقطة مشتركة وهي الإبداع العلمي مع مصادر الإبداع الدرامي.

وأوضحت أنه لذلك قيل عن تلاحم كلا المجالين “الخيال الإبداعي” إن العلاقة بين الظاهرة الباراسيكولوجية وفن الفيلم علاقة متداخلة وشرطية، فالطريقة التي يختبر بها الأشخاص المستبصرون تجاربهم مع الظاهرة غالبا ما يصفونها بمصطلحات سينمائية، فعيونهم الخارقة ببطء أو بسرعة كما تتحرك للأمام أو الخلف في الزمن. مثل مخرج الأفلام ورؤيته الذاتية، يتشارك فيها مع المستبصر من خلال تجربته الخاصة مع الظاهرة الباراسيكولوجية، وعليه فإن الإبداع والاستبصار يعملان بنفس التقنية، إلا أن طبيعة الموضوعات الباراسيكولوجية تم تصديها بشكل نمطي في صناعة السينما من خلال نوعيات فيلمية محددة مثل فيلم الخيال العلمي، الرعب والجريمة، والتي ساهمت في تشكيل رد الفعل الجمعي عن القوى الباراسيكولوجية، لقد تم استغلال الجوانب السلبية للظاهرة وتصوير الوسطاء الروحيين وأصحاب القوى الباراسيكولوجية على أنهم وحوش خطرة أو أقلية من الأفراد المنفصمين، وحتى وصل الأمر لتصوير الفضائيين بصفات مقززة لتشويه حقيقة القوى الباراسيكولوجية، هذا من ناحية، بسبب طمع صناع هوليوود وشغفهم باستكشاف الدلالات الأكثر روعة للقوى الباراسيكولوجية والمبالغة فيها لجعلها درامية أكثر ولتوفير مساحة للمؤثرات الخاصة المبهرة، وعلى الناحية الأخرى فهذا أيضا تسبب في عدم ارتياح عام حول طبيعة القوى الباراسيكولوجية، ونفيها نتيجة مجموعة المفاهيم الخاطئة والأساطير الضعيفة عن أصول وآثار الخبرات مع ما وراء الطبيعة والقوى الخارقة، ففكرة هذه القوى تتحدى منطقنا في فهم الحقيقة وتتحدانا على مستوى علم الظواهر وعلم المعرفة أيضا، هذه الحالة العقلية تنعكس بوضوح في مرآة السينما.

ورأت إيهاب أنه إذا كان الفن والحلم وجهان لعملة واحدة، فالسينما هي من أكثر الوسائل تعبيرا عن آليات عمل الحلم سواء كان ذلك من الناحية النفسية، أم من ناحية تصوير موضوعات حلمية داخل الدراما الفيلمية. وقالت “الحلم يشبه صورا متحركة أو عرضا دراميا يكون دور الحالم ليس له وجود مادي إذ هو المشارك والمشاهد معا: ورغم أن الحلم هلوسة، ذلك لأن الحلم ليس له وجود مادي حقيقي ملموس، فإن خبرة الحالم به هي أن يكون في وضع كأنه يرى شيئا حقيقيا، “تبدأ هذه الحالة التي نجد فيها آلية الحلم مع آلية عمل السينما”، عندما يغمر الظلام صالة السينما وينبعث الضوء من سطح الشاشة، هنا تظهر نقطة الانطلاق للفيلم، حيث تصبح السينما هنا ميدان سحر تتحد فيه العوامل السيكولوجية والبيئية لخلق أفق مفتوح أمام الدهشة والإيحاء، لتحرير العقل الباطن، إنها الموضع المقدس حيث الطقوس العصرية المتأصلة داخل ذاكرة تمتد جذورها إلى ماض سحيق ورغبات كامنة تحت نطاق الوعي، تمارس في الظلام وبمعزل عن العالم الخارجي”.

وأكدت أن لغة السينما تتحدى كل لغات الفنون الأخرى في القوى التأثيرية التي تتماثل فيها مع الحلم، فالفيلم يؤثر على الحواس أكثر بكثير من الفنون الأخرى، فالفيلم يخاطب مباشرة اللاوعي، فلغة الأحلام ليست شكلا مجردا من الاتصال مثل السرد، ولكنها لغة الصورة التي تحمل المعاني الخفية على المستوى الكامن والتي تتماثل مع لغة الفيلم التي تتشكل من خلال الصور والأصوات والتي تحتوي على مضامين تخاطبنا على المستوى البدائي أو اللاواعي.

إن الحركة الديمومية للصور التي لا نستطيع أن نوفقها ونحن نشاهد الفيلم والتي تسمح لنا أن نستوعبها على مستوى اللاوعي فقط؛ لأنه من المستحيل التركيز على كل معلومات الصورة التي تظهر على الشاشة في وقت واحد، وسيكون علينا دائما ان نتجاهل جزءا مما نراه مقابل التركيز على جزء آخر، ولكن ما لا نراه بشكل واع ما زلنا نراه بشكل “لاواعي” لأن ما نعتقد أننا لم نره أو لم نركز عليه تتأثر به الـ “هو” أو اللاشعور.

ونبهت إيهاب إلى أن الفرق بين أفكار التحليل النفسي التي ألهمت كثيرا من مبدعي السينما لتقديمها في أفلامهم وبين “علم نفس الأمراض” وذلك نتاج نمو علم النفس في الخمسين سنة الأخيرة نموا كبيرا، ومر في تطوره بمراحل متعددة، مما أدى إلى تعدد موضوعاته وانقسامها إلى فروع يختص كل واحد منها بدراسة مجموعة أو علم “الطب النفسي”، ويبحث هذا العلم في دراسة ظواهر السلوك المنحرف واضطرابات الشخصية والوصول إلى معرفة الأسباب التي أدت إلى نشأتها، وتحديد طرق تفاعلها وما يترتب عليها من آثار في طريقة حياة الشخص وأسلوب تعاونه مع الآخرين، ومن هنا جاءت السينما بإسهامة فعالة في قدرتها على تقديم اضطرابات المرض العقلي والنفسي، وأن يكون لها تأثير فعال في تشكيل وعي المشاهد لإدراك وفهم المرض العقلي؛ خاصة أن كثيرا من الناس على غير علم أو دراية بمشكلات هؤلاء الأشخاص الذي يعانون كل يوم، وهم ليسوا بالقلة.

وأوضحت أن أفكار التحليل النفسي ساعدت كثيرا من السينمائيين في استخدامها لتغيير أشكال السرد التقليدي، وألهمتهم بأفكار وطرق مبتكرة، وأساليب غير تقليدية وحديثة لسرد قصصهم ومكنون شخصيتهم، بالتبعية أدرك نقاد الفيلم أن النجاح الجماهيري لبعض الأنواع الفيلمية له علاقة وطيدة بما تقدمه هذه الأفلام لسيكولوجيا مشاهديها وذلك بأعمال قلق اللاوعي المتأصل في التركيبة السيكولوجية لنا جميعا، ليأتي التصنيف “السيكولوجي أو النفسي” معلنا عن نفسه في نظرية “النوع” مرتبطا بنوعيات أفلام بعينها، معبرا عما تقدمه تلك الأفلام لمشاهديها، من استخدام للظاهرة السيكولوجية في الدراما الفيلمية.

في هوليود استخدم مصطلح “الدراما النفسية” ليجمع بين أكثر من نوع فيلمي متلاعب بالظاهرة النفسية لجذب أكبر عدد من الجماهير لشباك التذاكر، بينما اتخذ صناع الأفلام الأجانب ذلك المصطلح لتصوير العالم الداخلي للشخصيات، تلك الحالة النفسية المعقدة التي تدور حول الشخصية الرئيسية وتضعها على حافة الجنون، إنه نضال غامض ومعقد بين عالم الشخصية الداخلي والواقع، وجاء التصنيف النفسي معلنا عن نفسه على مستوى أفلام “الإثارة” التي تعد واحدة من أوسع التصنيفات للأفلام وأكثرها غموضا وتعتمد أفلام الإثارة على التشابك والتعقد في الحبكة الفنية وأغلبها ذات “الحبكة التشويقية” أفلام التشويق، وذلك لخلق الخوف والرهبة للمشاهد أو عرض المواقف الدرامية بأقوى حدة ممكنة وهو ما أوضحه هتشكوك في حواره مع تروفو: بأنه يجب إشراك المتفرج في الجريمة وكيفية حدوثها؛ لأن هذا الإشراك هو الذي يولد عنصر الإثارة، وهي ليست نوعا مستقلا بذاته، بل تشمل أفلاما تابعة لأنواع واضحة مثل أفلام الرعب، الجاسوسية، العصابات، الخيال العلمي، ويفرض علينا النظر لهذا النوع من ناحية جانبه الإنفعالي، كفيلم الرعب حيث تم تصنيفه على أنه يعتمد على عنصري الفزع والخوف، فأفلام الرعب تدخل ضمن الأفلام الخيالية، وهناك فروع كثيرة لأفلام الرعب.

وأشارت إيهاب إلى أنه قديما كان الفارق الأساسي بين أفلام الرعب والإثارة هو الخصم الأساسي، في أفلام الرعب عادة ما يكون وحشا؛ أي كائن مغاير للإنسان، مما يجعل الخصم في أفلام الرعب بعيدا عن التعاطف والتوحد، بينما في أفلام الإثارة نجد أن الخصم يمكن أن يثير التعاطف بل يصبح جذابا ومثيرا للدهشة والإعجاب، أما اليوم فقد أخذ أبعادا أخرى، لم يعد الخصم في أفلام الرعب ذلك الكائن المغاير بلا التحم بالذات، إن أفلام الرعب قريبة الشبه من أفلام الإثارة ولكنها لا تندرج تحتها، بينما تتوفر الإثارة النفسية في أفلام الرعب، وهذا ما جعل النقاد يخلطون بينهما.

ورأت أن فيلم الرعب هو شكل أقرب إلى كابوس وبينما الظلام الذي يتميز به فيلم الإثارة هو كابوس واقعي نعيشه بالفعل، فالعالم المظلم الذي يصوره “الفيلم الأسود” الذي يندرج تحت أفلام الجريمة أو الإثارة، هو تعبير نقدي فرنسي أطلق على الأفلام المثيرة، والفيلم الأسود يمثل حالة أكثر منه نوعا، بينما البعض يقوم بتصنيفه على أنه أكبر من الفرع وأصغر من النوع فهو مرحلة انتقالية، ويعتبره بعض النقاد فرعا مميزا من فروع أفلام الجريمة / العصابات، وعادة ما يشار به للأفلام التي تحتوي على جريمة غامضة بغض النظر عن حل اللغز.

ذكرت إيهاب أن الظاهرة السيكولوجية تطورت فيما بعد بما سمي علم النفس المرضي، وهو ما حاول فنانو السينما التوغل في موضوعاته لخلق أفكار جديدة وبنيات سردية غير تقليدية، إلا أن الأستوديوهات حاولت فرض نوعية معينة على تلك الموضوعات لتجتذب أكبر قدر من المشاهدين، وهو ما شوه من أبعاد تلك الحالات المرضية والتي كررت صورا نمطية لشكل المريض والطبيب النفسي.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى