كشف المستور في مذكرات أنيس صائغ

عندما يُذكر اسم أنيس صايغ في أي مجلس من مجالس الفكر والثقافة والسياسة، ينصرف الذهن فورًا إلى ذلك المؤرخ الصارم ورجل العلم المثابر الذي من المحال أن يتهاون في أي معيار من معايير البحث والكتابة، كالموضوعية والحياد المعرفي والنزاهة العلمية. ولم تكن الدقة إحدى الصفات الراقية لأعماله الكتابية ومؤلفاته التاريخية فحسب، بل كانت طريقة في حياته اليومية أيضًا، حتى أن بعض جيرانه في بيروت كانوا يوقّتون ساعاتهم على موعد خروجه من المنزل، أو على موعد عودته إليه. وجميع الذين عملوا معه في مركز الأبحاث أو في الموسوعة الفلسطينية أو في المجلات التي أصدرها، كانوا يعرفون موعد وصوله إلى المكتب بالدقيقة. وفي «اللقاء الثقافي الفلسطيني» الذي أسسه وأداره لسنوات طويلة، كان لا يتأخر دقيقة واحدة عن الخامسة مساءً موعد افتتاح اللقاء. غير أنه خلافًا لسلوكه العملي، امتلك أنيس صايغ روحًا ساخرة وشخصية مرحة ودماثة مشهودة، بل كان سيدًا في فن السخرية، وكثيرًا ما كان يحلو له أن يتهكم على بعض الكُتّاب والسياسيين لكن، بأدب جم، ولا يستثني من مُلَحِه وطرائفه أحدًا حتى زوجة شقيقه يوسف، السيدة روز ماري، التي نالها منه بعض المفاكهات، فيروي أنها اتصلت به في إحدى المرات في القاهرة، ورغبت إليه في تدبير موعد مع أحمد الشقيري لإجراء مقابلة صحافية معه لمصلحة إحدى الصحف الإنكليزية. وفي أثناء المقابلة راحت تسأل الشقيري عن الأدب العربي وعن رواية «الأرض» التي تحولت فيلمًا سينمائيًا… إلخ، فخلطت الأسماء بعضها ببعض وحيّرت الشقيري، فهي في الواقع أرادت أن تقابل عبد الرحمن الشرقاوي، وجراء لسانها الإنكليزي توسلت أنيس صايغ لتأمين موعد مع أحمد الشقيري.

الأسماء المستعارة

يروي أنيس صايغ أن والده القسيس عبدالله كان يفتتح المائدة بالصلاة، وفي أثناء قراءة «أبانا والسلام» كان أنيس يغمض عينيه ويَعُد من الواحد إلى المئة، أو يكرر كلمة «بطاطا» مئة مرة، وبالطبع كان يفضل بيضة مقلية على الذهاب إلى المدرسة. ومع ذلك عاش أنيس صايغ صارمًا في مواقفه السياسية مثل عالم في الرياضيات، وساخرًا في حياته اليومية كفنان مشاكس. ويروي أيضًا أنه حين وُلد في طبرية في 3/11/1931 أرادت المبشِّرة الأميركية مِس فورد، وكانت جارة العائلة، أن تسميه بنيامين لأنه السابع بين أبناء القسيس عبدالله صايغ المهاجر من قرية «خَرَبا» في السويداء إلى فلسطين، تمامًا مثل بنيامين آخر أبناء يعقوب. لكن والدته رفضت بشدة، وأصرت على أن يكون له اسم عربي مثل جميع أسماء إخوته. وهكذا صار اسمه أنيس كي يؤنس شيخوخة والديه. وفي ما بعد راح يوقع بأسماء مختلفة مثل «أحمد صالح» لأن الحرفين الأولين في هذا الاسم المستعار، أي أو ص، هما الحرفان الأولان من اسمه الحقيقي. ووقّع أحيانًا باسم «سمير الجوهري» لأن أنيس يعني «سمير»، وصايغ يعني «الجوهري». ولشدة تهذيبه كان يتجنب إيراد أسماء الأشخاص حين يروي واقعة معينة، وحتى في مقالاته كان يُجَهِّل الفاعل فيكتب: «نشر أحد الباحثين» أو «ذكر أحد رجال السياسة» أو «حدثني أحد الأصدقاء»…إلخ. وكثيرًا ما أخذت عليه هذه الطريقة، وحجتي أن الواقعة لا تكتمل إلا بالأشخاص المشاركين فيها، فكان يصر على موقفه قائلًا إنه يروي ولا يؤرخ.

كشف اللثام

قبل عيد الميلاد في سنة 2009 غادر لبنان إلى دمشق بهويته اللبنانية، ثم سافر إلى الأردن بجواز سفره السوري، ثم عاد إلى لبنان ليحمل الفلسطينيون نعشه إلى مثواه الأخير. ومن بين مؤلفاته الكثيرة تُعد سيرته الذاتية أجمل وأمتع السِيَر التي صدرت في العالم العربي منذ خمسين سنة على الأقل. وكعادته، لم يفصح في هذه المذكرات عن عدد من أسماء الأشخاص في سياق سرده بعض الحوادث المهمة والممتعة. وفي أحد الأيام الرائقة جلست إليه في مكتبه في بيروت وتمكنت من إقناعه بأن يبوح لي بأسماء هؤلاء الأشخاص، وغايتي من ذلك المعرفة أولًا، والمتعة ثانيًا. وعندما اقتنع بعد إلحاح مني وإلحاف، اشترط عدم نشر ذلك ما دام حيًا. وما كنتُ لأنشر ذلك على الإطلاق بالتأكيد. لكن اليوم، بعد رحيل أنيس صايغ، أصبحت في حِلٍّ من هذا الشرط. وها أنا أروي بعض ما باح لي به عن الأسماء والوقائع التي أغفل عامدًا التصريح بأسماء «أبطالها» في مذكراته.

ـــ من هو الباحث الذي كتب رثاء لفايز صايغ خلط فيه يوسف وفايز وتوفيق وأنيس؟ (ص 50). إنه غازي السعدي.
ـــ من هما اللذان أصدرا عددًا خاصًا من إحدى المجلات اللبنانية للهجوم على فايز صايغ؟ (ص 52). إنهما منح الصلح وشفيق الحوت، والمجلة هي «الحوادث».
ـــ من هو طبيب الأسنان الذي أغوى فتاة من فلسطين وحملت منه وولدت ابنة سمتها زكية. لكنه لم يتورع عن طرد الأم والابنة وسافر إلى عاصمة عربية حيث اشتهر فيها، وصار وجيهًا محترمًا وطبيبًا بارعًا؟ (ص 63). هو حبيب كاتبة من سوريا.
ـــ من هو التلميذ الذي كان أنيس ملزمًا التبرع له بالهدايا حتى صار يصلي إلى الله كي يأخذه ويريحه منه، ولاحقًا ذهب هذا التلميذ إلى أميركا وصار أستاذًا معروفًا؟ (ص 88). ميشال سليمان (فلسطيني) وصار اسمه مايكل سولومون.
ـــ من هو المناضل الفلسطيني الذي لمع اسمه في ستينيات القرن العشرين وأسس منظمة فدائية ونشر مذكراته، لكنه لم يشر فيها إلى زوجته ابنة أبو دياب صياد السمك في طبرية؟ إنه صبحي ياسين.
ـــ من هما صديقا أنيس صايغ اللذان طلبا منه أن يكتب لكل منهما رسالة جامعية، الأولى للماجستير في التاريخ، والثانية للدكتوراه في الاقتصاد. وهذان الصديقان صار أحدهما أستاذًا للعربية في إحدى الجامعات الأميركية، والثاني احتل منصبًا كبيرًا في البنك المركزي في لبنان؟ (ص 165). إنهما منح خوري وعبد الأمير بدر الدين.
ـــ من هو أحد أعلام الفلسطينيين، وكان مديرًا لأحد المصارف، الذي سطا على كتابه «الهاشميون والثورة العربية الكبرى» وقدمه في إحدى الإذاعات العربية في خمسين حلقة باعتباره من تأليفه؟ (ص 1802). محمد زهدي النشاشيبي.
ـــ من هو الصحافي اللبناني الذي سطا على مخطوطة كتاب لفايز صايغ عن الديبلوماسية الصهيونية ونشرها باسمه في إحدى الصحف اللبنانية؟ (ص 180). إنه عبد الكريم أبو النصر.
ـــ من هو الباحث العسكري الذي نشر بحثين منفصلين في شهر واحد بتوقيعين مختلفين رأى في أحدهما أن دمشق كانت سقطت في حرب 1973 لولا مساندة الجيش العراقي، ورأى في ثانيهما أن دخول الجيش العراقي إلى سوريا لم تكن له أي فائدة؟ (ص 204). إنه الهيثم الأيوبي.
ـــ من هو الكاتب المصري الذي كان ينشر مقالات في الصحف المصرية يهاجم فيها مجلة «حوار» هجومًا عنيفًا، وينشر في الوقت نفسه مقالات في مجلة «حوار» بتوقيع زوجته ويقبض المكافأة؟ (ص 204). غالي شكري.
ـــ من هو الشاب الذي كان يبيع الاشتراكات في مجلة «شؤون فلسطينية» ويحتفظ بالمبالغ لنفسه، وقُبض عليه في أثناء الحرب الأهلية بتهمة التجسس للقوات اللبنانية؟ (ص 236). صبر ي ضاهر.
ـــ من هو المخبر الذي كانت له علاقات بأكثر من استخبارات عربية وكانت له صلة محاسبية بالموسوعة الفلسطينية؟ (ص 271). صابر حنون.
ـــ من هو الطالب الذي هاجم فايز صايغ مستشهدًا بالفيلسوفين بردياييف وكيركيغارد وهو لم يقرأ أي واحد منهما؟ (ص 341). ميشال معلولي الذي صار نائبًا في مجلس النواب اللبناني.
ـــ من هو «الصقر» الذي أراد أن يعتدي على منح الصلح؟ (ص 356). هو أديب بشور شقيق معن بشور، وكان ينتمي إلى الحزب السوري القومي.
ـــ من هما صديقا أنيس صايغ اللذان حاول مصالحتهما في مقهى الأنكل سام في بيروت فتحولت المصالحة إلى عراك؟ (ص 397). شفيق الحوت وفخري دلول.
ـــ من هو المسؤول اللبناني في مطار بيروت الذي رفض إخراج مجلة «شؤون عربية» في سنة 1981 من المطار إلا بعد تلقيه سبحة ثمينة؟ (ص 460). حارث شهاب.
ـــ ما هي المجلة الفلسطينية التي زعمت أن أنيس صايغ يريد تأليف منظمة جديدة؟ (ص 480). مجلة «إلى الأمام»، وكاتب المقالة هو سمير أيوب.
ـــ من هي الجهة التي زعمت أن أنيس صايغ زار الأردن وتسلم مبلغًا من المال من الملك حسين ثم شوهد يتسوق من محال عمان الكبرى؟ (ص 480). إنها مجلة «فتح» التي كان يصدرها المنشقون عن فتح بقيادة أبو خالد العملة.

هذا غيض قليل من فيض كثير كشفه لي أنيس صايغ بحيث بات في الإمكان إعادة قراءة سيرته التي وَسَمها بعنوان «أنيس صايغ عن أنيس صايغ» (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2006) بعيون جديدة وبذائقة مختلفة وبمتعة متجددة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى