كواليس لا تقل درامية عن الدراما المعروضة

 

إذا كان التألق في المسرح يصنعه ممثل موهوب يديره مخرج متمكن من أدواته، وإذا كان سحر أي عمل سينمائي يكرّس اسم المخرج وحده في الأذهان، فإن نجاح الدراما التلفزيونية مدين دائما لبراعة السيناريو المكتوب، ومدى ملامسته لهموم المتلقي وانشغالاته.

يكاد يكون هذا الرأي الانطباعي بمثابة القاعدة التي تتحكم في تقييم الأعمال الدرامية المعروضة على الشاشات الرمضانية، ذلك أن جل المسلسلات التي حظيت بالمتابعة والاهتمام هذا العام، كانت البطولة فيها للنص المكتوب حصرا، وما عدا ذلك، فلا يتجاوز مجرد الاهتمام الخاص والإعجاب الشخصي بممثل وسيم أو مخرج متميز.

الأداء التمثيلي في العمل التلفزيوني هو في مجمله، متشابه، نمطي، ومتكرر بل ومتوقع من مجموعة ما يعرف بممثلي الصف الأول الذين فرضتهم شركات إنتاج، تتنافس ضمن السوق الواحدة، وعلى نفس المواضيع الرائجة والمطروقة.

لا أحد من هذه الشركات يغامر باسم جديد قادم من عالم المسرح الذي يزدريه من أساسه، ولا يهتم لشأنه، وذلك وفق مقولة ” من جهل شيئا عاداه”، هذا بالإضافة إلى الشللية المقيتة في اختيار الممثل، وكذلك المخرج الذي لا يشذ بدوره عما تريده جهة الإنتاج التي تعمل وفق منطق السوق.

من ينتبه إلى هذه المعادلة، سوف يعرف بالتأكيد ” طريق النجاح” في الصناعة الدراما التلفزيونية.. أو فلنسمّها حقيقة ومجازا ب ” دراما التلفزيون” لأن الموضوع يتعلق ـ فعلا ـ بصراع أذواق وخيارات فنية تتنافس تحت سقف الواقع المطلوب.. إنها دراما داخل الدراما.

لا مجال قي المسلسلات التلفزيونية للحديث عن تحديات إبداعية وفتوحات فنية، فالكل يعرف حجمه، ولا داعي لأي مغامرة غير محمودة العواقب، و” من اشتهى شهوة فليضفها إلى عشائه” كما يقول المثل الشعبي لأن التجريب والتطوير لا يكونان إلا في المسرح والسينما، أمّا في سوق الصناعة التلفزيونية، فضرب من اللعب بالنار والأسعار، وتهديد للصناعة الوحيدة الرائجة باسم الفن في العالم العربي.

ومن هنا تأتي أهمية السرد الحكائي أو ” الخرّافة” (بتشديد الراء) أي ما نسميه “السيناريو” كمستند ورقي مكتوب يقبض عليه المخرج والممثلون بين أيديهم كما يقبضون على أجورهم النقدية في العمل. لا عنصر حقيقي وثابت من عناصر ومكونات الصناعة الدرامية التلفزيونية غير المادة المكتوبة التي تربط الجميع ويلتف حولها الجميع دون جدال أو نقاش، ذلك أنها حبل الغرق أو النجاة، ومقياس الفشل أو النجاح في أي مسلسل تلفزيوني.

من يبحث من صناع المسلسل أو مستهلكيه عن لمعة إبداعية خارج متن الحكاية؟ هل لمحنا متفرجا عربيا وهو مستلق على أريكته وقد امتلأت بطنه طعاما وشرابا، يناقش في الأداء التمثيلي، يثني على عفويته وعذوبته أو يستنكر تصنعه وافتعاله؟ هل صادفنا ربة أسرة تنتقد زوايا التصوير والكادرات وتقطيع اللقطات في عمل أي مخرج تلفزيوني، غير الاهتمام بما ستؤول عليه الأحداث في الحلقة القادمة ؟

لنبعد أكثر من ذلك، وننتبه إلى عامة الناس كيف يلتقون نجوم التلفزيون في المناسبات والأماكن العامة، يسمونهم بأسماء الشخصيات التي لعبوها، يمتدحونهم أو يلومونهم على الأدوار التي اشتغلوها، ويسألونهم عن تطورات المسلسل دون الاهتمام للمخرج أو حتى لشخص كاتب السيناريو، لكنهم يحفظون القصة ويتذكرونها عن ظهر قلب، خصوصا ذلك الصنف من الكتابة التي تمس حياتهم وهمومهم بشكل أو بآخر.

أسباب الشغف والاهتمام الزائد بقصة المسلسل دون بقية المكونات الفنية الأخرى، عديدة ومتنوعة، بسيطة ومتشعبة، لكنها تبدو منطقية وبديهية:

ولكي نكون منصفين، فإن الحكاية هي الأصل في الفنون الدرامية منذ أيام الآباء المؤسسين في حضارة الإغريق إلى الآن. لقد هجرت بعض المدارس الفنية التجريبية، الحكاية ثم ها هي اليوم تعود إليها كعنصر لا غنى عنه بعد أن استنفذت كل أشكال الإبهار البصري. وسبق للدراما التلفزيونية العربية أن مرت بهذه المرحلة مما يمكن تسميته ب ” المراهقة البصرية” عن طريق المخرج السوري نجدت أنزور، في أعمال مثل ” الكواسر” و” نهاية رجل شجاع” المأخوذ عن رواية لحنا مينة، لكنها سرعان ما عادت ـ أو كادت تعود ـ  إلى ” سن الرشد” وإن كان بطريقة مشوهة أيضا، ذلك أننا قوم بارعون في حرق المراحل.

الأمر الآخر هو أن الأذن لها مساحات وحظوظ أوسع من العين في الثقافة العربية، حتى أن ريات المنازل قادرات على متابعة المسلسلات من خلال صوت جهاز التلفزيون المنبعث من الصالون وهن في المطبخ.. هل سيغيب عنها شيء من الأحداث؟.. حتما لا، فلا سبيل لتطور أي حدث في الدراما العربية دون حوار.

الكتّاب، بدورهم، في المسلسلات العربية، يشتركون في هذه المؤامرة التعسفية، يمسكون برقاب الممثلين والمخرجين والمتفرجين كلهم على حد سواء، فلا يتركون مساحة للخيال أو الارتجال، ويسطرون كل حركة وسكون تسطيرا في كتاباتهم التي يخالونها شبه مقدسة، وهو ما يضيق المساحة على الجميع، ويجعل النص المكتوب صاحب الأمر والنهي، والحد القاطع الفاصل في الأحداث، مما يعطيهم سلطة مطلقة على رقاب الجميع.

وإذا دققنا في المسلسلات الرمضانية المعروضة هذا العام على الشاشات العربية، نجدها أنها لا تشذ عن شبه القاعدة التي انطلقنا منها بداية هذه السطور، وهي أن البطولة في الدراما التلفزيونية للكتابة دون منازع. أبرز الأمثلة على صحة ما ذهبنا إليه هي مسلسلات برزت فيها حساسية الكتابة كصوت أعلى من باقي أطراف الصناعة الدرامية، وإن كان بعضها على شكل ورشات كتابة جماعية، حفلت بالأخطاء التي لا بد منها في غياب الوحدة الأسلوبية، ضياع مزاج الشخصية، تشتتها الذي بلغ حد التشظي وغياب المنطق العام، لكنها الحاجة إلى سيناريوهات في ظل شح واضح ومكشوف وسط فقدان الكاتب المتخصص . ويبدو ذلك جليا في المسلسلات المصرية التي بلغت ما يقارب ال 25مسلسلا هذا الموسم.

أما المسلسلات السورية فقد استطاعت أن تنقذ نفسها عبر كتاب ومعدين تمرسوا على كتابة السيناريو بحرفية عالية مثل سامر رضوان في ” دقيقة صمت” وريم حنا في “الكاتب”، وحازم سليمان في ” عندما تشيخ الذئاب” عن رواية للكاتب الأردني ابراهيم ناجي، بالإضافة إلى المسلسل الجزائري ” أولاد الحلال”، الذي كتبت له السيناريو التونسية رفيقة بوجدي، وأخرجه مواطنها كذلك نصرالدين السهيلي.

ويبقى مسلسل ” المايسترو” التونسي لكاتبه عماد الدين الحكيم، واحدا من العلامات الفارقة في المسلسلات الرمضانية هذا العام، ربما لأنه حقق معادلة صعبة وأضاف إلى نكهة الكتابة نكهتي التمثيل والإخراج في عمل جمع مزاجي المسرح والسينما في التلفزيون ضمن معادلة موفقة شهد لها جمهور النقاد والمتابعين على حد سواء.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى