كيف تعمل المرجعية الأخلاقية للدولة المدنية؟ (صلاح سالم)
صلاح سالم
إذا كان واجباً على أي دولة مدنية، تهدف إلى بناء ديموقراطية حقيقية، أن تحترم الدين وتحميه في المجال الخاص، وفي المقابل تعزله عن التحكم بالمجال العام، فهل يعني ذلك أن الدين سيكون في خطر، أم أن القيم الأخلاقية ستتعرض للتلاشي؟ ليس بالضرورة، لأن المرجعية القيمية والأخلاقية لأي مجتمع تبقى مبثوثة في أعضائه الذين يقوم الناس بانتخابهم طواعية، ويقومون هم بالتشريع للناس، فالمرجعية الأخلاقية هنا تفرز نفسها وتؤكد ذاتها عبر دائرة مفتوحة، ومن خلال الفضاء العام الذي يشغله الناس بقيمهم وتقاليدهم، ولن تكون بحاجة إلى سلطة خاصة تحتكرها أو هيئة بذاتها تدعي تمثيلها، أو حتى أحكام فقهية موروثة واجتهادات مذهبية تنطق باسمها، لأن تلك الأشكال للمرجعية تضعنا، في النهاية، أمام ولاية فقيه سنية، يغيب معها أو يتوارى جوهر الدولة المدنية. ولكن هل يعني ذلك أن الدولة المدنية محايدة أخلاقياً، وأن كل دولة مدنية هي بالضرورة صورة طبق الأصل من الأخرى، وبالأحرى: ما الذي يمكن أن يميز دولة مدنية كمصر، غالبية مواطنيها من المسلمين عن دولة مدنية كألمانيا، مثلاً، غالبية مواطنيها من المسيحيين وفيها حزب كبير تحت اسم «الديموقراطي المسيحي» لا يكفّر الاشتراكيين بل يحترم نظام الدولة العلماني؟
يكمن جوهر الدولة المدنية في كون الشعب مصدر السلطة الأعلى، ومنبع السيادة الحقيقي، فإرادة الناس هي معيار تشكيل السلطة وممارستها، وانعقاد الشرعية واستمراها، فلا يوجد من هو أعلى من الإرادة العامة للشعب في كل ما يخص مصيره ويتعلق بمستقبله. غير أن كل شعب، وهو بصدد تصور مستقبله وصوغ مصائره، إنما يقوم بذلك على قاعدة قوامها عناصر هويته وفي قلبها الدين، الذي تتخلل قيمه الأساسية دساتير هذا الشعب أو قوانينه التي يصدرها أي برلمان منتخب ديموقراطياً سواء في مصر حيث تكون هذه القيم إسلامية بالأساس، أم في ألمانيا حيث تكون هذه القيم مسيحية بالأساس؛ ليس لأن الدستور ينشئ هيئة عليا لهذا الغرض تراقب القوانين وتحاكمها بنصوص الشريعة، ولكن لأن الضمير العام لجماعة التشريع، والممثلة للضمير العام للجماعة الوطنية التي انتخبتها، هو ضمير مسلم هنا ومسيحي هناك، ومن ثم فما يفرزه من تشريعات لابد من أن تستلهم القيم المستقرة في هذا الضمير والمجمع عليها لدى الشعب.
وربما كان هناك قدر من الاختلاف بين درجة الالتزام بالقيم السماوية في القوانين بين بلدين كمصر وألمانيا وفق درجة التدين المختلفة بين الشعبين، ولكن المهم أن هذه القوانين ستظل تعبيراً عن إرادة الجماهير المنضوية في دولة مدنية، وليس تعبيراً عن إرادة قلة من رجال الدين يطرحون أنفسهم متحدثين باسم الشريعة أو وكلاء عن الله، يتحكمون بمصائر الناس وفق تصوراتهم أو مصالحهم الملتبسة بالشريعة، كما هو الأمر عادة في الدولة الدينية، حيث يكون مصدر الشرعية هو الشريعة وليس الأمة، والنيابة فيها عن الله لا عن الشعب، والحق في الحكم مقدساً لا سبيل إلى مراجعته، ما يفتح أبواب التاريخ على جهنم أرضية قوامها الاستبداد والقهر باسم جنة سماوية يدعي هؤلاء امتلاك مفاتيحها، استغفالاً للناس طالما أن أحداً لن يكون قادراً على مراجعتهم، وأن فرصه لن تكون مواتية لحسابهم أو مواجهتهم بكذبهم، عندما تنتهي حياتنا هنا على الأرض، وتبدأ حياتنا في العالم الآخر، الملكوت السماوي.
قد يوجد في الدولة المدنية انقسام بين المواطنين، ولكن ليس ذلك الانقسام العميق بين مدنيين ودينيين، بين علمانيين وإسلاميين، ملحدين ومؤمنين، بل ذلك الانقسام البسيط بين (ليبراليين ومحافظين)، حيث ينتقل خط التناقض من منطقة الإيمان والكفر بدين معين، إلى منطقة الالتزام وعدم الالتزام بأخلاق معينة، فيكون لدينا أناس ملتزمون بهذه الأخلاق يصيرون محافظين، وآخرون غير ملتزمين بها حرفياً، بل يقومون بتأويلها عقلياً، يسمون ليبراليين. الأولون قد يمتنعون عن الخمر، مثلاً، لأسباب دينية والآخرون قد يمتنعون عنها لأسباب صحية أو مادية، وربما تعاطاها بعضهم طالما أنها غير محرمة قانوناً، وقد يكون بعض من هؤلاء الأخيرين مؤمناً يؤدي عباداته الدينية الأساسية ولكنه يبدو عاجزاً في مواجهة هذا الداء بالذات، أعني شرب الخمر، وهكذا يصير مؤمناً ليبرالياً، ولكنه لا يستحيل كافراً أو ملحداً.
والسؤال الذي يمكن طرحه من قبل شخص إسلامي مثلاً: ولماذا لا تسعى الدولة إلى فرض الأخلاق المحافظة بقوة القانون، أي تجريم الخمر، بمنع تصنيعها أو تداولها؟. والإجابة ببساطة لأن هذا المسعى يبقى صعباً فضلاً عن كونه خاطئاً. يبقى صعباً لأن سلعة ما تم اختراعها وعرفها الناس لا يمكن أن تختفي بقانون، حتى المخدرات التي يعلم الجميع مدى ضررها، لا تختفي سوى ظاهرياً، بينما تظهر في سوق سوداء ترتفع فيه الأسعار ويتاجر فيه الأشقياء. كما يبقى خاطئاً لأنه لن يصنع أناساً أخلاقيين حقاً، أو مؤمنين فعلاً بل منافقين حتماً، يشتاقون باطناً للخطأ الذي تحرمهم منه قوة السلطة وليس يقظة الضمير. والفارق الأساسي هنا أن علاقة المؤمن بربه لا يمكن إخضاعها لقانون يمكن أن يحكم علاقات الناس ببعضهم بعضاً، ولكنه يعجز تماماً عن التحكم في ضمير إنسان يجب أن يعرف ربه بحرية تامة، يطيعه أو يعصاه، يتوب إليه أو يستمرئ العصيان، فلابد من أن يكون الإنسان حراً كي يكون مؤمناً حقاً، لأن الإيمان اختيار ضمير لا دخل فيه للغير، وهذا سر حلاوته ومصدر روعته، أما الخروج على قاعدة الضمير مرجعاً للإيمان، باتجاه الخضوع لأي سلطة من أي نوع فلا يعني سوى استعادة تاريخية لمحاكم التفتيش التي أهدرت مئات آلاف الأرواح، في أتعس تجربة عرفها التاريخ المـــسيحي خصوصاً، والإنساني عموماً.
غير أن دوراً نهائياً تفرضه المرجعية الإلهية على أي دولة مدنية، يتمثل في رعاية «الرؤية الإيمانية للوجود»، مجسدة في المثل العليا المشتركة بين الأديان كلها، والتي تنبع غالباً من الفطرة الإنسانية، وتمثل شروطاً لنمائها، وذلك عن طريق مواجهة الأخلاق الوضعية المتطرفة التي تضاد الطبيعة، وتكسر حاجز الفطرة الإنسانية على منوال «الشذوذ الجنسي» أو «زواج مثليي الجنس» وهو أمر يمثل تحدياً لمركزية الله في الوجود الإنساني يستلزم تضامن جميع المؤمنين بالأخلاق السماوية لمواجهة ذلك التحدي البالغ الخطورة على المصير البشري من زاويتين: أولاهما كونها ضد حال العمران الذي تنميه العلاقة الجنسية الطبيعية أو العابرة للنوع، وما يترتب عليها من تناسل ونماء للنوع البشري ذاته. وثانيتهما كونها تهديم للأسرة التقليدية كنواة أثبت التاريخ أنها الأفضل لبناء المجتمعات الإيجابية، وذلك لأنها الأكثر قدرة على رعاية الروح الفردية وتنميتها بشكل متوازن، وعلى بناء الأخلاقية الحسنة التي تصون قواعد الاجتماع البشري وقيمه الأساسية ضد سطوة المنفعة وغرائزها، وأيضاً على زرع جذور الانتماء للجماعات الأكبر بدءاً من القبيلة وحتى الإمبراطورية، وذلك لما تحوزه من ملكات التعاطف والحميمية ومن ثم التوازن النفسي والترابط الاجتماعي.