كيف تلتقي الشجاعة والعاطفة بالحب والإدمان
كيف تلتقي الشجاعة والعاطفة بالحب والإدمان… تقدم رواية “شوجي بين” للروائي دوغلاس ستيوارت والتي حققت نجاحًا كبيرًا فور صدورها وتصدرت قوائم الجوائز المختلفة وفازت بأكبر جائزة للرواية المكتوبة بالإنجليزية “بوكر” عام 2020، قصة صبي صغير نشأ مع أم مدمنة على الكحول من الطبقة العاملة في مدينة غلاسكو باسكتلندا ثمانينيات القرن العشرين، حيث ينتشر الإحباط والبطالة ومعهما الجريمة والإدمان، يحاول الطفل “شوجي بين” أن يرعى أمه “أغنيس” التي تركها هجران زوجها في أزمة تقودها إلى نزوات متكررة.
يبدو لافتًا التشابه بين اسم عائلة “بين” البطل وكلمة “ألم” بالإنجليزية، ويعطينا منظورًا لحياة “شوجي” الذي يتركه إخوته الأكبر سنًّا واحدا تلو الآخر ليجد نفسه وحيدًا في مواجهة العالم؛ لكنه لا يفقد رغبته في إنقاذ أمه، وكأنها محاولة منه لإنقاذ عالمه المتداعي.
تتساءل الرواية التي ترجمها الكاتب ميسرة صلاح الدين، وصدرت عن دار صفصافة: كيف يمكن أن يؤثر تعاطي الكحول والمخدرات والوضع الاقتصادي المزري على العلاقات الأسرية؟ وترسم صورة حميمية وعاطفية ومثيرة للإدمان والشجاعة والحب بشكل مذهل. يصور الكاتب لمحات حية عن مجتمع مهمش ومعزول وفقير في حقبة ماضية من التاريخ البريطاني. إنه تغلغل حزين في عمق المهمش، وفي ذات الوقت مفعما بالأمل.
في عام 1981، كان شوجي البالغ من العمر خمس سنوات يعيش في شقة سكنية في سايهيل مع والدته أغنيس، وجديه ويلي وليزي؛ وأخيه غير الشقيق ليك؛ وأخته غير الشقيقة كاترين. والده غائب في الغالب، حيث يعمل سائق سيارة أجرة ويقيم العديد من العلاقات النسائية.
تسلك أغنيس طريقًا ضالًا: إنها ضوء شوجي الإرشادي ولكنها تمثل عبئًا عليه وعلى إخوته. إنها تحلم بمنزل له باب أمامي خاص بها، وتطلب القليل من السعادة عن طريق الائتمان، أي شيء يضيء حياتها الرمادية. تزوجت أغنيس من زوج سائق سيارة أجرة مغرور، متعدد العلاقات، كثير النزوات، وهي تحافظ على فخرها بمظهرها الجميل – فخلية نحلها ومكياجها وأسنانها الزائفة البيضاء اللؤلؤية تقدم صورة ساحرة لإليزابيث تايلور من جلاسكو. ولكن تحت السطح تجد عزاءها في الشراب، وتستنزف نصيب الأسد من مال الإعانة كل أسبوع ـ كل ما على الأسرة أن تعيش عليه – على علب من الجعة فائقة القوة مخبأة في حقائب اليد وتسكب في أكواب الشاي. يجد أطفالها الأكبر سنًا ليك وكاترين طرقهما الخاصة للحصول على مسافة آمنة من والدتها، ليبقى شوجي يعتني بها بينما هي تتأرجح بين الإفراط في تناول الكحوليات والرصانة. في هذه الأثناء يحاول شوجي رعايتها وحمايتها بكل ما يملك من حنان شبه أمومي وإخلاص وحب لها ومن طاقة، خاصة أنها قامت بمحاولات انتحار متعددة خلال سنوات قليلة. وتعده بالتوقف عن الشرب، لكنها لم تكن قادرة على تغيير ظروفهما، تتوتر العلاقة بينهما فهي غالبا ما تعامله بطريقة وحشية، لكن شوجي مع تقدمه في العمر لا يتخلى عنها، حتى جاءت لحظة رحيلها بين يديه:
“رحلت في هدوء متخمة بالشراب، لم يعد في وسع أحد مساعدتها بعد الآن، رغم ذلك هزها بقوة، لكنها لم تستيقظ، هزها مرة أخرى، ثم بكى على أمه لفترة طويلة. بعد أن توقفت عن التنفس، لم تفلح كل محاولاته، فات الوقت لفعل أي شيء. صفف شوجي شعرها بأقصى ما يستطيع، أخفى الجذور البيضاء الوقحة بالطريقة التي تحبها، قام بإخراج طقم الأسنان المطوي ووضعه في مكانه داخل فمها برفق، ثم أمسك المناديل الورقية ومسح شفتيها ووجهها، مع الحرص على أن يدفع الزائد من مستحضرات التجميل في الزوايا، وألا يتلف خطوطه الناعمة، وقف في مكانه وجفف عينيه. تبدو كأنها نائمة، انحنى في اتجاهها ثم قبلها للمرة الأخيرة”.
في العام 1992 حيث يفتتح الروائي أحداث روايته يكون “شوجي” يبلغ من العمر خمسة عشر عامًا يعمل في سوبر ماركت ديلي، ويعيش وحيدا في منزل داخلي في جلاسكو، ويطمح أن يكون مصفف شعر، يقع في غرام إلينا التي تعاني من إدمان إمها على الكحول.
يأخذنا شوجي الذي صار وحيدا بعد فقدانه لأمه وهجر أخيه ليك وزواج أخته وانتقالها للعيش في جنوب أفريقيا، إلى عالم حياة الطبقة العاملة في جلاسكو حيث الأزواج والأبناء عاطلين عن العمل، ووباء المخدرات والإدمان على الكحول يكاد أن يصيب الجميع، ينتقل من عمل لآخر ومن علاقة لأخرى، لا يثق بالآخرين، لنرى الحب المسبب للعمى والحدود اللانهائية لمحاولات البعض السيطرة على الآخرين، وحالات الضياع التي يعيشها الشباب من سنه.
مقتطف من الرواية
جاء شهر مارس، شهر ميلاد أغنيس، سرق شوجي من أجلها باقتين من أزهار النرجس البري المحتضرة من متجر باكي. منذ اليوم الذي قضاه في منزل ليك، اعتاد أن يخفي دفتر الإعانات الاجتماعية عنها، حتى يضمن الحصول على المال الكافي لشراء الطعام قبل أن تشتري مخزون شرابها الأسبوعي، ومنذ احتفالات عيد الميلاد، اعتاد أن يخفي بعض المال الذي يستخرجه من العداد عن نظرها، حتى يستطيع أن يعطيها بعض الجنيهات في ذلك اليوم المميز لتذهب للعب البنغو.
تناولت المظروف المليء بالعملات المعدنية، ورفعته إلى صدرها ثم ضمته كأنها تضم تاجًا مرصعًا بالمجوهرات، كانت سعيدة للغاية.
في الصباح الباكر من اليوم التالي أعادتها الشرطة إلى المنزل، كان هواء المنزل محملًا بالرطوبة ورائحة البنفسج، وحبوب اللقاح البرية المتحللة، وجدتها الشرطة تتجول عند نهر كلايد، بعد أن فقدت حذاءها ومعطفها الأرجواني الثمين لم تستطِع أن تصل حتى إلى حيث يلعبون البنغو.
تجنبت أغنيس النظر إلى عيني شوجي بسبب شعورها بالخزي، ولم ينظر إليها لشعوره العميق بالغباء، كان قضاء ليلة في العراء في برودة شهر مارس أمرًا صعبًا بالنسبة لها، حيث امتلأت رئتاها المعطوبتان بالرطوبة. جهز لها حمامًا دافئًا ووضع في الماء الكثير من ملح الطعام، وجهز لها أيضًا ملابس نظيفة وقام بكيها، ثم أعد لها كوبًا من الشاي بالحليب ووضعه أمام باب الحمام، وغادر المكان دون أن يتبادلا كلمة واحدة.
ارتدى زي المدرسة ثم بدأ في الركض مع الأطفال الآخرين في الطريق الرئيس. شعر بالدهشة عندما سمع صوت عملتين معدنيتين من فئة الخمسين بنسًا تصطدمان بحرية في جيب معطفه ذي القلنسوة، كان قد أخرجهما من عداد الغاز في ما سبق، توقف مكانه، وأخرجهما من جيبه، والتفت إلى أول حافلة متجهة إلى أي مكان وصعد على متنها، وسأل السائق إلى أي مدى يمكنه أن يذهب بهذه النقود.
كان النظر من الطابق السادس عشر في سايهيل يجعله يشعر بضآلته الشديدة، كانت المدينة نابضة بالحياة في الأفق، ولم يكن رأى نصف معالمها من قبل، فرد شوجي ساقيه في غرفة الغسيل التي تطل على فضاء لامتناهٍ، وظل يشاهد لعدة ساعات الحافلات البرتقالية تخترق المباني المصنعة من الحجر الرملي رمادي اللون.
شاهد الأضواء تنحصر عن دار العجزة ذات الطراز المعماري القوطي، بينما تعيد أشعة الشمس القوية وبريقها الحياة إلى زجاج نوافذ الجامعة وقضبانها الحديدية، شعر بثقل في ذراعيه وقدميه وهو يجلس متدليًا ينظر إلى المدينة، مد يده في جيب سترته وأخرج مظروفًا وبدأ ينظر لمحتوياته للمرة المئة، لم يكن مكتوبًا عليه عنوان المرسل، فقط ختم بارو أنفورنيس البريدي. لم يكن يعرف أين تقع بارو أنفورنيس ولكنها لا تبدو كمنطقة في اسكتلندا.
بطاقة تهنئة بعيد الميلاد، وصلت إليه متأخرة بشهرين عن ميعادها. أرسلها ليك الذي رحل إلى مكان جديد ووجد عملًا آخر. حيث يبنون المنازل الجديدة، هم في حاجة لمختلف أنواع الشباب الذين يقومون بكل الأعمال مثل التبليط وأعمال الجبس وتركيب الأسقف.
قال إن الأجر جيد، وإنه لا يعلم متى يستطيع أن يعود مرة أخرى، أخبره أنه لم يلتحق بمدرسة الفنون بعد، ربما يلتحق بها في العام القادم أو العام الذي يليه، وقال إنه التقى بفتاة لطيفة تعمل في صالة لتقديم الشاي، وإنه يحب التنزه بصحبتها وقضاء الوقت معها على حافة المستنقع.
بداخل المظروف ورقة نقدية جديدة، لامعة وحادة لم تستعمل من قبل، تساءل شوجي لفترة طويلة حول هذه الورقة النقدية، وسمح لنفسه أن يحظى بأحلام صباحية يتخيل فيها ليك بانتظاره عند أحد مواقف الحافلات، ويتخيل أنه ينفق النقود في شراء لحوم طازجة، ثم يفاجئ أغنيس بمائدة حافلة للعشاء.
كان بداخل المظروف شيء آخر، ورقة صغيرة انتزعت من كراسة مدرسية تحتوي على رسم لولد صغير بالقلم الرصاص، يجلس القرفصاء فوق سرير غير مرتب، يولي الولد الصغير ظهره للرسام الذي يرسم عموده الفقري العاري من الأسفل إلى الأعلى وسروال بيجامته الذي لا يكاد يغطي جسده.
الصبي الصغير منشغل بالنظر إلى شيء ما في الأسفل والظل يغطي وجهه، ربما كان يلعب بخيول صغيرة مصنوعة من الخشب تخص الجنود، أو تشبه حصان طروادة، لكن شوجي يعرف الحقيقة عن تلك المهور الصغيرة الملونة اللامعة الجميلة، ليك يعرف عنها كل شيء أيضًا، ليك دائمًا ما يعرف كل شيء.
طافت الرياح الشمالية الباردة بزوايا غرفة الغسيل، فاحمر أنف شوجي، وعندما لم يقدر على تحمل درجة حرارة الجو وضع بطاقة عيد الميلاد في جيبه وعاد للمنزل مرة أخرى.
كانت جميع الأنوار مضاءة عندما عاد، ورائحة البنفسج البري الذابلة تفوح من كل مكان، حتى إنه استطاع أن يشم رائحة الخميرة والتعفن في جسدها. سمع شوجي أنين مشغل الهاتف على الطرف الآخر فأعاد السماعة إلى مكانها، وأخذ الهاتف من جوارها وأعاده إلى مكانه الأصلي، وجد علامات جديدة باللون الأحمر بجوار بعض الأسماء القديمة في دفتر الهاتف.
أغنيس نائمة على مقعدها كشمعة ذائبة، تتمدد أقدامها أمامها ورأسها يتدلى على جانب جسدها، اتجه شوجي إلى الجانب الخفي من المقعد وهزه بقدمه ليعرف كم تناولت من الشراب، ثم رفع زجاجة الفودكا في الضوء ليقدر الكمية المتبقية، كانت قد شربت كل شيء.
استمع إليها وهي تخترق الصمت بالسوائل بأصوات القيء، وقطرات من سائل أصفر تسيل فوق شفتيها، مد يده في جيب سترتها وأخرج لفة من المناديل الورقية بهدوء، حتى لا يوقظها، وبأصابع تمرنت على الوصول إلى داخل فمها وتنظيف تجويف الفم والقصبة الهوائية، مسح السائل الأصفر ثم أعاد رأسها مرة أخرى بأمان ليتدلى فوق الكتف اليسرى.
شعر بألم في معدته ولكنه لم يكن جوعان، فجلس تحت قدميها وبدأ في التحدث معها في هدوء:
“أحبك يا مامي، أنا آسف أنني لم أكن هنا لمساعدتك في الليلة الماضية”.
رفع شوجي قدمها برفق، وفك مشبك حذائها ذي الكعب العالي متأنيًا، ثم أخرج الحذاء بهدوء من بين أصابعها وفرك أقدامها الباردة بلطف، ووضعها على الأرض ثم أكمل الحديث معها برفق كما بدأه.
“اتجهت اليوم إلى سايهيل وشاهدت المدينة بالكامل من الأعلى”.
وضع حذاءها ذا الكعب العالي بجانب مقعدها، ووقف مرة أخرى بجوارها ثم مد يده بمهارة باحثًا بين ثديها الناعم المترهل، حتى وصل إلى مشبك على هيئة فراشة تربط حمالة صدرها، حله وشاهد ثدييها الثقيلين يتدليان.
“لا بد من أنك ستحبين العيش هناك، فهناك الكثير من الأشياء لرؤيتها”.
ثم همس:
“أشعر بالدوار للتفكير في كل ذلك”.
ثم استمر في تحريك أصابعه حتى وجد أطر حمالة صدرها وحررها من كتفيها المثقل لحمه من ضغط الحمالات المصنوعة من النايلون، تحركت أغنيس ولكنها لم تستيقظ، سعلت بقوة مرة أخرى، كان سعالًا رطبًا، يحمل رائحة وعفن عمال المناجم ودفء البيرة وذكريات ليلة بارده بالقرب من النهر.
فرك شوجي عظامها وهو يتساءل إن كانت زنازين الشرطة شديدة البرودة، تدحرج رأسها إلى الوراء فارتطم بظهر المقعد اللين، فمد يده بسرعة وبشكل تلقائي إلى مؤخرة عنقها، ومال برأسها للأمام مرة أخرى.