كي لا يختطف اليسار الفلسطيني
كي لا يختطف اليسار الفلسطيني … يؤكد البرنامج السياسي لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، «الإستراتيجية السياسية والتنظيمية» (1969)، على الدور الذي لا غنى عنه للفكر السياسي في نضال التحرّر الوطني الفلسطيني، إذ فُسّر على أنه شرط أساسي لنجاح الثورة الفلسطينية، فيشمل ممارسة بناء منظور واضح لماهيّة القوى الرجعية والقوى الثورية، إذ أثارت الجبهة أسئلة ماو (1926): «من هم أعداؤنا؟ ومن هم أصدقاؤنا؟»، لتؤكّد على أن «التفكير السياسي وراء أي ثورة يبدأ بطرح هذا السؤال ومن ثم الرد عليه».
وعلى هذا المنطلق، لا تشكّل الصهيونية العدو الوحيد للشعب الفلسطيني، وكذلك فإن للفلسطينيين أصدقاء كثراً. ومن هنا، أصرّت الجبهة على أن «تقييد الثورة الفلسطينية في إطار الشعب الفلسطيني سيفضي إلى الفشل إذا ما وعينا على طبيعة تحالفات العدو الذي نواجه». وبناءً على ذلك، وعبر رفض حصر فلسطين في صندوق الوطنية، وإبراز الأبعاد والأطر الإقليمية والعالمية في تحديد من هم أصدقاء الفلسطينيين ومن هم أعداؤهم، طوّر اليسار سياسته الدولية وشكّل تحالفاته من خلال تحليل علمي دقيق للقوى المحلية والإقليمية والعالمية المتنافسة.
استندت هذه الممارسة النظرية لـ«الجبهة الشعبية» إلى تحليل موضوعي ومادي للوضع السياسي الذي يواجه الثورة الفلسطينية. وتصل إلى نتيجة مفادها بأن الانخراط في النضال الثوري بلا فكر سياسي سيقود الثوّار للسير على الطريق الخطأ والتفكّك. مكّنت النظرية التي ظهرت جراء ذلك الجبهة من ممارسة سياسة متماسكة نحو أفق التحرّر الوطني والاشتراكية. ويبقى هذا التحليل الماركسي الرابط بين النظرية والممارسة الثوريين كإحدى أكثر النظريات تطوّراً في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية حتى اليوم.
قد يفترض المرء للوهلة الأولى أن كتاب «فلسطين: مدخل اشتراكي» (2020) سيتبنّى منهجية وممارسة سياسيتين مماثلتين، أو على الأقل سيتطرّق وينتبه لهما جيّداً. يجادل الكتاب، الذي شارك في تحريره كل من سمية عوض وبراين بين، بأن «الطريق الوحيد نحو تحرير فلسطين» هو حركة اشتراكية عالمية تقوم على مبدأي الأممية ومناهضة الإمبريالية. يتألّف الكتاب من مساهمات 12 مؤلفاً، مقسّمة على ثلاثة أقسام تعالج الأبعاد التاريخية والمعاصرة للقضية الفلسطينية. يستعرض القسم الأول تاريخ الاستعمار البريطاني والصهيوني لفلسطين، شارحاً جذور الدعم الأميركي للصهيونية، ويقيّم مسار الحركة الوطنية الفلسطينية. بينما يجادل القسم الثاني بأن الطبقة العاملة الإسرائيلية ليست حليفة، مناقشاً ما يسمّى بعملية السلام وكل من عملية التحرّر الفلسطيني والربيع العربي. أمّا القسم الثالث فيتضمّن مقابلة مع عمر البرغوثي، ومنظوراً جندرياً للنضال الفلسطيني بالإضافة إلى تحليل معاصر لحركة تضامن السود مع الفلسطينيين. وفي الخاتمة، تقدّم عوض وبين رؤيتهما للتحرر الفلسطيني داعييْن القراء للمشاركة والعمل في هذا الاتجاه.
تضع عوض وبين الكتاب ضمن كل من النطاق الثقافي والمناخ السياسي الأوسع في الولايات المتحدة، والذي وفقاً لهما، يشهد صعوداً للاهتمام بالاشتراكية. بعد فترة وجيزة من نشر الكتاب، كان هنالك اهتمام بالتاريخ والسياسة حول القضية الفلسطينية في أميركا من جديد. يؤدي اشتعال الهبات الشعبية (2021) في جميع أنحاء فلسطين والتعبئة الجماهيرية المتضامنة حول العالم هذا الاهتمام من جديد. وعليه، ولهذا السياق، تبرز الحاجة الملحّة للتثقيف السياسي كما رأينا في الكتاب، مقدّماً للاشتراكيين تحديداً، وفي بلد كالولايات المتحدة ملتزم بعنف صنع الأساطير الصهيونية.
لكن، وللأسف، تقوم عوض وبين بخطيئة سياسية وفكرية لقرائهما من الاشتراكيين، حيث إنهما يقوّضان ويصرفان النظر عن الإرث اليساري الفلسطيني، مفرّغانه من محتواه ومن تاريخه. ومردّ ذلك إلى الإطار النظري والتاريخي والسياسي الذي اعتمداه. حيث إن هذا الإطار مستمدّ من استعارات معلّبة منزوعة السياق التاريخي حول تشكيلات ماركسية لينينية تجريبية ومتنوعة ووسمها بـ«الستالينية» و«آلية» و«جامدة»، ومن ثم تصنيف اليسار الفلسطيني تحت هذه الوسوم الخادعة والاختزالية، من خلال تبني تأطير «الستالينية» على أنها توجّه سياسي «خاطئ» يقدّم أولوية التحرّر من الاستعمار على الاشتراكية. ومن هنا، تفترض عوض وبين عدم الحاجة إلى تثقيف قرائهما الاشتراكيين في الولايات المتحدة حول الممارسة والفكر الماركسيين الفلسطينيين. وهو ما يشكّل فرصة ضائعة وعاراً كبيراً على حد سواء، إذ إن اليسار الفلسطيني يرى النضال من أجل الاشتراكية جزءاً لا يتجزأ من النضال ضد الإمبريالية.
لا تشكّل إدانة عوض وبين للفكر والممارسة الثوريين ل اليسار الفلسطيني عائقاً أمام التثقيف السياسي لقرائهما، فحسب، بل أيضاً لهدفهما الخاص تقديم أساس نظري «يشكّل مستقبل الحراك الفلسطيني في كل من الولايات المتحدة وفلسطين والمنطقة». فكيف للمرء الموجود في أميركا المساهمة في تشكيل مستقبل الحراك الفلسطيني من دون الانخراط والتعرّف بشكل هادف إلى الإرث النظري والاستراتيجي الثوري الفلسطيني؟ فإن كانت هبة أيّار قد فتحت الباب لتكوين مساحة لتوعية الاشتراكيين بمسؤوليتهم ودورهم في دعم التحرّر الوطني الفلسطيني من قلب المركز الإمبريالي الأميركي، فمن الضروري إذاً مساءلة عوض وبين على تغييب الفكر الثوري عن قرائهما.
إن لتغييب الكتاب للفكر والممارسة الثورييْن الفلسطينييْن من منظور تاريخي تداعيات عدة: فهي تقدّم تحليلاً سياسياً يحد من إمكانية تشكيل إطار جماهيري معاد للإمبريالية في الولايات المتحدة. وعليه، نجد من الضروري أن ننقد ما يقدّمه الكتاب من تحليل منزوع السياق التاريخي لليسار الفلسطيني بشكلٍ مباشر، إذ إن نمط التحليل الذي يقدّمه الكتاب يعكس الإشكال الأكبر الذي يواجه الحراك الفلسطيني في أميركا، وهو انعدام وجود إطار نظري متماسك لدعم وتوجيه الاستراتيجية السياسية. وهنا يقدّم الإرث اليساري الفلسطيني – الذي حافظ على الأممية ومعاداة الإمبريالية والمسألة الوطنية في قلب سياساته – مصدراً مهمّاً للحركات الاشتراكية في عالم الشمال حتى تتمكّن من بناء برامج سياسية لمواجهة الصهيونية والإمبريالية. وعليه، فإن السؤال الذي يجب طرحه: كيف لكتاب «فلسطين: مدخل اشتراكي» أن يتبنى توجّهاً اشتراكياً، وفي الوقت نفسه يضع مسافة بينه وبين الممارسات والأفكار اليسارية القائمة في فلسطين اليوم؟ وكيف تبدأ عوض وبين كتابهما باقتباس فلسطيني شيوعي كغسان كنفاني، وفي الوقت ذاته يقومان بتشويه سياسات واستراتيجيات منظّمته «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»؟
تتبنّى عوض وبين في مقدّمتهما أن مناهضة الإمبريالية هي «حجر الزاوية الذي يقوم عليه مبدأ الأممية». فهما يعرّفان الإمبريالية بأنها «عملية المنافسة والصراع المريريْن بين الطبقات الرأسمالية في مختلف دول العالم، والتي تتنافس من أجل السيطرة على الشعوب واستغلال ثرواتها ومواردها». وبهذا التعريف فإنهما يشيران إلى أن الإمبريالية سمة تتصف بها جميع الدول ذات الطبقات الحاكمة: «إذا كان لديك طبقة حاكمة مندمجة في الاقتصاد العالمي، فهذا يقتضي على الطبقة الحاكمة المنافسة أن تنساق باتجاه البنية الإمبريالية». ومن هنا، فعلى الرغم من أنهما يذكران مكانة الولايات المتحدة من هذه المصفوفة العالمية وأهمّية معارضة العسكرة الأميركية، فإن معاداتهما للإمبريالية قائمة على أساس «مقاومة الظلم والاستغلال من قبل الطبقات الحاكمة في جميع أنحاء العالم».
يعي المؤلّفان، وعلى وجه واضح، أن معاداة الإمبريالية والأممية لا تنفصل إحداهما عن الأخرى، وهو ما نوافقهما عليه، إلا أننا نرى أن تعريفهما للإمبريالية يخفي العلاقة بين معاداة الإمبريالية والأممية. فهذا التعريف غير كافٍ لفهم آلية عمل الإمبريالية كنظام طبقي على مستوى العالم ككل، وكذلك لفهم كيف أن هذا النظام الطبقي تكوّن تاريخياً بفضل توطيد الدول المهيمنة، كبريطانيا في السابق وأميركا اليوم، لعلاقاتهما السياسية.
وعليه فإن فهم مكانة فلسطين داخل هذا النظام الطبقي العالمي يمكّننا من تحديد استراتيجية مقاومة الاستعمار الصهيوني والإمبريالية، وذلك عبر التأكيد على مركزية المسألة الوطنية، ومن هذا المنطلق التعلّم وأخذ العبر بجدّية من جميع أشكال التجارب التاريخية لنضالات التحرّر الوطني.
وفقاً لمفهوم عوض وبين، فإن العلاقة بين معاداة الإمبريالية والأممية «تعني اكتساب فهم عميق للجذور الحقيقية لروابطنا مع الآخرين، وبأن هذه الروابط ليست قائمة على الحدود والجنسيات بل على المصلحة المشتركة للعمّال والشعوب المضطهدة في مقاومة ظلم واستغلال الطبقات الحاكمة في جميع أنحاء العالم»، ويضيفان: «ففي الأخير، قد علّمتنا حكوماتنا أنها تهتم بجني الأرباح أكثر مما تهتم بالبشر».
أولاً، يغفل هذا المفهوم المسألة الوطنية واستمرارية مفاعيلها في التأثير على الصمود الشعبي في فلسطين وفي مجمل الحركات المعادية للإمبريالية. وما نعنيه بالمسألة الوطنية هو «حزمة المعضلات السياسية المتعلّقة بالقوميات المضطهدة، في إطار الأمم والاستعمار وتقرير المصير والتحرّر الوطني»، وهو ما يشير إليه ماكس أيل تاريخياً بأنها «طريقة فهم الطبوغرافيا السياسية للإمبريالية». وعليه، وعلى الرغم من إقصاء المسألة الوطنية وإدخالها في سبات نيوليبرالي منذ السبعينيات، فإننا لا نزال نفهمها على أنها مسألة مركزية للنضال الوطني الفلسطيني سواء تاريخياً أم بشكل معاصر. فجوهر القضية الفلسطينية هو تحرير الأرض من المشروع الاستعماري الصهيوني وعودة الموارد والشعب. وهذا يعود إلى سبب أن الإمبريالية (بشكليها البريطاني والأميركي) هي من جعلت المشروع الصهيوني قابلاً للحياة، وعليه، تكون معاداة الإمبريالية مسألة محورية في القضية الوطنية الفلسطينية.
إن إعادة مركزة المسألة الوطنية في صلب النضال الفلسطيني تتيح لنا التأكيد على ضرورة أن يقرّر الفلسطينيون مستقبلهم على أرضهم، وهو ما يمتد من صياغتهم لعمليات الإنتاج وصولاً إلى تنظيم مؤسساتهم وهياكلهم السياسية.
وكما يقول المفكر الماركسي المصري أنور عبد الملك: «الفكر الاشتراكي يمكنه فقط أن يتطور على أساس موقف وطني من الإشكالية، وليس على أساس رؤية عالمية مسبقة تحت قناع الأممية». وهذا على المستوى العملي يقتضي أن الأمة هي البوتقة التي من خلالها يكون الفلسطيني المحاصر والمطرود واللاجئ والسجين والعامل قادراً على بناء الاشتراكية. ففي حين تجادل عوض وبين بأننا «لا نستطيع تصوّر فلسطين كقضية وطنية بحتة»، فهما يتغاضيان عن الأهمية المستمرة لهذا التحليل الماركسي والمناهض للاستعمار للمسألة الوطنية.
المسألة الأخرى، هي في مفهوم عوض وبين للإمبريالية، والذي يجعل كل الحكومات كأعداء للعمّال والشعوب المضطهدة. تتجاهل عوض وبين نهب المركز الإمبريالي للثروات من دول الأطراف والدور التاريخي للدول الاشتراكية في تقييد هذا التدفق، بل وخلق تجارب مناقضة تقوم على حق تقرير المصير. بالإضافة إلى ذلك، يطرحان مفهومهما لـ«الاشتراكية من الأسفل» كنقيض للنماذج كالاتحاد السوفياتي، إذ يسمّيان هذه النماذج بـ«الستالينية» وكتجارب فرضت «الاشتراكية من الأعلى». فيقوم مفهومهما على أساس القفز على صيرورة تاريخية للتراكم الرأسمالي من خلال تشكيل دول مهيمنة عالمية كهولندا وبريطانيا والولايات المتحدة.
بناءً على ذلك، علينا أن نكون حذرين من المواقف التي يعبّر عنها الكتاب، والتي تخلق مساواة زائفة بين الدول الإمبريالية في شمال العالم ودول الجنوب التي مالت فيها موازين القوى إلى الطبقات الشعبية. بحيث إن علينا أن ننظر إلى مؤسسات الدولة كمجال للنضال من أجل الاستيلاء عليها من قبل الطبقة العاملة والحركات الشعبية والاستفادة من الأدوات التي توفّرها لاستعادة السيادة على الأرض والموارد.
إنه فقط عبر إعطاء الأولوية للمسألة الوطنية يمكننا صياغة نموذج أممي قائم على استراتيجية وبشكل يُمكّننا من التغلّب على الإمبريالية ومنظومتها المدمّرة للعالم. وبينما يجادل عوض وبين أن تقديم النضال ضد الاستعمار «آلي» وأنه على الاشتراكيين بناء استراتيجياتهم على «الرفض العالمي للرأسمالية»، السؤال الذي يُطرح هنا كيف للاشتراكيين المشاركة في رفض عالمي للرأسمالية إن لم يكن من مناطق جغرافية محددة، كفلسطين مثلاً، التي تُعرف بعلاقة طبقية ونمط إنتاج هو في الأساس استعماري في الشكل؟ لذلك، ولتأسيس القدرة السياسية للتضامن الدولي مع فلسطين من عالم الشمال، يجب على الاشتراكيين أن يطوروا ويأخذوا على محمل الجد الفكر السياسي الذي يدرك خصوصية التكوين الطبقي في فلسطين والصراع الطبقي في المستعمرة الاستيطانية.
إن ادّعاء عوض وبين بأن «معاداة الإمبريالية هي حجر الزاوية الذي يدعم مبدأ الأممية» يظل للأسف شعاراً مثالياً بقدر ما هو بعيد من الفكر والممارسة السياسية الملموسة، إذ تستخدم معاداة الإمبريالية في الكتاب كشعار أو مجرّد عواطف وليس كنمط تحليل سياسي، وهذه الشعاراتية هي مجرد واحد من أعراض المعضلة النظرية في إطارها الأوسع والتي يعاني منها يسار الولايات المتحدة.
يصبح القصور النظري والمفاهيمي لعوض وبين مقلقاً أكثر حين نرى الاستخدام والاقتباس الانتقائي للموروث والفكر اليساري الفلسطيني. ففي حين يفتتحان مقدمة الكتاب باقتباس لغسان كنفاني، الذي لعب دوراً أساسياً في صياغة الاستراتيجية السياسية والتنظيمية لـ«الجبهة الشعبية»، يتغاضى الكتاب عن ذكر الإرث السياسي والنظري لكنفاني، وكذلك حقيقة أنه تم اغتياله من قبل «الموساد» على خلفية تأثير فكره على البنية السياسية الفلسطينية. وتتقاطع عملية إهمال التاريخ الدموي الصهيوني ضد اليسار الفلسطيني من قبل الكتاب مع حقيقة تصويرهم لليسار الفلسطيني كخاطئ وعفا عليه الزمن، وتتحوّل شخصية كغسان كنفاني إلى شخصية فارغة المضمون.
يجادل مصطفى عمر في الكتاب أنه ومن أجل بناء بديل اشتراكي في العالم العربي «فيجب علينا التعلّم من أخطاء راديكاليي الأجيال السابقة والذين كانوا ينظرون إلى روسيا الستالينية وبعض الأنظمة العربية «التقدمية» في سوريا والعراق كأمثلة للتغيير الاجتماعي». ويلحق عمر «الجبهة الشعبية» بهذا الجيل القديم من الراديكاليين، حيث يكمل: «متأثرة بمزيج من الماوية والستالينية فقد عرّفت الجبهة الشعبية عن نفسها كمنظمة ماركسية-لينينية». ومن ثم يتساءل عمر عن سبب عجزهم عن بناء بديل ثوري للجناح المعتدل في «منظمة التحرير الفلسطينية». يقفز جواب عمر على مسألة تحليل ماهية الإمبريالية، مُرجعاً السبب إلى الاستراتيجيات الداخلية والسياسية للجبهة. حيث يفترض هنا أنه لو تبنّت الجبهة استراتيجيات سياسية أخرى لأدّى الأمر إلى نتائج أفضل. فمن وجهة نظره ارتكبت الجبهة خطأين، الأول في تمييزها بين الأنظمة الرجعية والأنظمة القومية التقدّمية، والثاني القيام بعمليات خطف الطائرات.
تتجاهل عملية إحالة «أخطاء» الجبهة إلى «تمييزها الخاطئ» بين مختلف الأنظمة العربية، الإطارَ النظري المتقدّم للجبهة في مقارعة الإمبريالية، وتغيّب في آن مقاربتها للبعد العربي للنضال الفلسطيني.
أولاً، يقفز ادعاء عمر بأن الجبهة ميّزت زوراً بين الأنظمة الرجعية والقوميين التقدّميين على حقيقة وجود اختلافات كبيرة في الطابع السياسي والاجتماعي لهذه الدول، بما في ذلك الاختلافات الرئيسية في الطابع الطبقي لحكوماتهم ونظامهم الاجتماعي والسياسي الداخلي. ثانياً، يرى عمر بأن التحالف بين الجبهة وهذه الأنظمة قد كلّفها استقلالها، وهو ادعاء يبسّط العلاقة المعقدة التي ربطت الجبهة بمختلف هذه الأنظمة. ففي الواقع، اشتبكت الجبهة، وفي مراحل مختلفة من تاريخها، سياسياً وعسكرياً، مع الدول القومية التقدّمية وذلك للتأكيد على مركزية القرار الفلسطيني المستقل في كل ما يتعلق بفلسطين.
على خطى غسان كنفاني، فإن معاداة الإمبريالية ليست مجرّد شعار يمكن فصله من عملية دراسة وتقييم تاريخ حركات التحرّر الوطني. فبدلاً من تقييم استراتيجية اليسار كخاطئة وسيئة، كما يفعل عمر، فإنه يجب تبني نموذج تحليلي معاد للإمبريالية وبشكل يطرح سؤالاً لماذا تبنّى اليسار تلك الاستراتيجيات في ذلك السياق التاريخي تحديداً؟ فحين ينتقد عمر «الجبهة الشعبية» على أن تكتيكاتها أبعدتهم عن «النضال الجماهيري للعمّال والفلاحين العرب» فهو هنا يتغاضى بشكل فاضح وصارخ عن أن الجهود الأميركية لتدمير القوى الثورية هي جهود بحد ذاتها تهدد جميع الفلاحين والعمّال العرب.
وبينما يعيب عمر على الجبهة أيضاً تحالفاتها الإقليمية والإستراتيجية، فإن تغييبه للقوى العالمية الفاعلة حينها ينصب في نفس اتجاه محاولات الكتاب الحطّ من اليسار الفلسطيني، إذ يحيل عمر نقده للجبهة إلى استراتيجيتها الداخلية، وهو أمر سبق أن ذكره عوض وبين في مقدّمتهما، فهما وكما أسلفنا يقدّمان «الاشتراكية من الأعلى» في مقابل «الاشتراكية من الأسفل»، وهو ما يفترض للوهلة الأولى أنها ثنائية صائبة، بيد أن الإطار العملي للكتاب يُثبت أن الغرض من هذه الثنائية الانتهازية هو نزع الشرعية ليس فقط عن «الجبهة الشعبية»، ولكن عن نماذج ماركسية-لينينية واشتراكية أخرى.
فعلى سبيل المثال، يدّعي عمر بأن «العمّال والفلاحين الكوبيين لم يشاركوا في صنع الثورة» مختزلاً الشعب الكوبي كشاهد خامل وسلبي على الثورة. ومن ثم يقوم بربط «الجبهة الشعبية» بالثورة الكوبية بالقول بأن «رؤية الجبهة الشعبية للماركسية-اللينينية هي ذاتها التي تمظهرت في الثورة الكوبية، حيث هزمت مجموعة صغيرة من مقاتلي حرب العصابات ديكتاتوراً تدعمه الولايات المتحدة، وبعد سنوات قليلة أعلنوا عن اشتراكيتهم». ومن هذا المنطلق يسبغ على اليسار الفلسطيني والثورة الكوبية وسم «الاشتراكية من الأعلى» مقوّضاً الدستور الشعبي لكوبا.
ينظر الكتاب إلى أن إعطاء الأولوية للتحرّر من الاستعمار هو نوع من «الستالينية». ينطلق هذا الفصل بين التحرّر الوطني والصراع الطبقي من مغالطتين رئيسيتين: تكمن الأولى في سوء فهم عوض وبين للمكنون الطبقي للنضال المعادي للاستعمار في فلسطين. وأمّا الثانية، فهي قصور في فهم ماهية التشكيل الطبقي. فوفقاً لفرانز فانون، لا يمكن الفصل بين الصراع الطبقي والنضال ضد الاستعمار لأنه تكون هنا «البنية التحتية الاقتصادية هي أيضاً بنية فوقية».
يتجلى سوء فهم المؤلّفَين للصراع الطبقي والتشكيل الطبقي في دفاع عوض وبين عن نظرية فجّة للطبقة تعتقد بأن الطبقة العاملة لديها «مصالح مستقلة عن مشاريعها الوطنية». ومن الصعب تخيّل ماذا يعنيان بذلك؟ إذا كان المشروع الوطني الذي يضمن تحرير وعودة الملايين من اللاجئين الفلسطينيين المطرودين، لا يقع في صلب مصالح الطبقة العاملة، فعن أي مصالح طبقية يتحدّثان؟
يعكس التحليل المربك للكتاب الاقتطاع ونزع السياق التاريخي والثوري المعاصر لليسار الفلسطيني الذي طوّرته شخصيات ككنفاني وحوّلته إلى ممارسة على الأرض. فعلى الرغم من أن الكتاب يقدّم وبشكل مهم بعض الأدوات والمعلومات لفهم القضية الفلسطينية، فإنه ينتقص من اليسار مبعداً إيّاه عن السياسة ذات الطابع الأممي، وهذا ما أدى إلى فشل في تقديم تحليل يقيّم بوضوح الرهانات والتحدّيات السياسية للتحرّر الفلسطيني للاشتراكيين في الولايات المتحدة.
في خاتمة الكتاب، يذكر عوض وبين منظمات غير حكومية (NGOs) كـAdalah Justice» Project» و«US Campaign for Palestinian Rights»، حيث يجادلان أن أعمالاً مثل هذه المنظمات «تعكس النمو المتصاعد لليسار الأميركي الذي يضع مناهضة آلة الحرب الأميركية في صلب مشروعه الواسع للعدالة الاجتماعية». وتجدر الإشارة هنا إلى أن لهذه المنظمات غير الحكومية دوراً محدّداً ومحدوداً في حركة التضامن مع فلسطين، إذ تتبنّى استراتيجيات تقتصر على حملات المناصرة. فحين نقيّم حركات الـNGOs يجب أن نكون واضحين بالنسبة إلى تكوينها الطبقي وتوجهاتها العامة كمنظمة غير حكومية وليس كحركات شعبية، وهو توضيح يغيّبه عوض وبين. فهناك فرق شاسع بين الحركات الشعبية والجذرية والـNGOs ومن أهمّها التمويل، وميكانيكيات سياستها الداخلية بالإضافة إلى قاعدتها الاجتماعية.
تقاطع إدراج عوض وبين للـNGOs تحت مظلة اليسار، مع فشلهما في إبراز المنظمات الشعبية في الولايات المتحدة، وكذلك مع تغطية الآثار المدمّرة للمنظمات غير الحكومية في تصفية القضية الفلسطينية في أعقاب أوسلو. حيث إن الـNGOs كانت من أكبر أدوات تصفية اليسار الفلسطيني، والتي في الواقع موّلتها الولايات المتحدة من خلال اقتصاد المنح الذي قوّض المؤسسات الفلسطينية.
اليوم، يظل الشعب الفلسطيني محاصراً ومحروماً، لا أرض له كما كان عام 1969، وهو العام الذي وضع فيه اليسار الفلسطيني نظريّاته لتحديد من هو الصديق ومن هو العدو، أولئك الذين دعموا أو عارضوا الواقع الذي فرضه الاستعمار الصهيوني والإمبريالية. واليوم، ثمّة أعداء حقيقيون يستثمرون في ديمومة هذا الواقع، طرد الفلسطينيين من أرضهم، والذي لا جدال فيه. وفي المقابل، ثمّة أصدقاء حقيقيون ملتزمون إفشال كل ذلك. ففي الأخير، تكمن الانطلاقة العملية في الالتزام بالمهمة التي أخذها الثوار الفلسطينيون وأصدقاؤهم على عاتقهم منذ أكثر من 100 عام: الاستعداد المستمر لتحديد ومواجهة وهزيمة قوات العدو.