تحليلات سياسيةسلايد

لإيلاف دمشق

بشار اللقيس

باختصار غير مخل، يمكن اعتبار كل ما وقع في سوريا منذ أواسط الخمسينيات إلى اليوم، رد فعل على خلل امتد لنحو قرن (منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن العشرين).

 

فمنذ صدور «الطابو»، أو قانون الأراضي العثماني، في نيسان من عام 1858 وإلى اليوم، عانت سوريا من خلل اجتماعي وسياسي كبير. لقد منح الطابو العثماني أعيان المدن سلطة (بعدما سجلوا أراضي الفلاحين بأسمائهم) جعلت المشهد السياسي السوري خاضعاً لاثنتين وخمسين عائلة مدينية حتى عام 1953 (مع بدء ظهور المسألة الزراعية وقوانين الإصلاح الزراعي). قلة هم الدارسون لأثر مدة الإصلاحات العثمانية على واقع المشرق العربي سياسياً واجتماعياً. فالطابو لم يعمق من إشكالية المدينة – الريف في بلاد الشام عامة فحسب، بل أعاد نظم المدينة والريف والخطاب الديني والخيال السياسي لهما وفقاً لتصورات موتورة ومتنافرة بشكل كبير. كراهية المدينة ذات الغالبية السنية، للريف السني وغير السني، ليست مسألة دينية فحسب. في جوهرها، هي مسألة تعبر عن صراع على الملكية بين الطرفين، سرعان ما وجدا ضالة نزاعهما السياسي عام 1925 بانفجار الخطاب الطائفي ضد الدروز (بسبب إغارة الثوار الدروز على بساتين الغوطة لسرقتها بعدما أحرقت فرنسا محاصيلهم)، وفي القسمة بين ضباط دمشق وحلب بين عامي 1961 و1963 (الضباط الحلبيون كانوا أكثر ميلاً للوحدة مع مصر مقابل الضباط الدمشقيين)، وفي موقف دمشق وحلب من «البعث» ابتداءً من عام 1963 – أي من قبل أن يكون «البعث علوياً» – عندما أطلق أهل دمشق على حكم «البعث» مسمى «حكم العدس» في إشارة إلى كونه حزباً ريفياً (مع أن معظم الذين تولوا السلطة بُعيد انقلاب البعث عام 1963 كانوا من الضباط السنة، أمثال زياد الحريري ولؤي الأتاسي وأمين الحافظ ومحمد الصوفي وراشد قطيني).

ولئن شكل خط الطابو الدعامة الأولى لإشكالية المدينة – الريف، مع ما استولده من إشكاليات طائفية وسياسية، فإن ضعف السلطة وعدم قدرتها على استيلاد طبقة وسطى حاضنة لها بالمعنى الاجتماعي، هما عين المشكلة الأخرى التي فاقمت من أزمة سوريا. فمراسيم الشيشكلي التي فجر فيها إصلاحاته القانونية (ما يقارب الـ 257 مرسوماً) بعيد انقلابه الثاني عام 1951، جاءت على حساب الطبقة الوسطى سياسياً بعدما منَع الانتماء السياسي لموظفي الدولة. وهكذا وقعت سوريا منذ عام 1951 في إشكالية تضخم جهاز الدولة البيروقراطي (نتيجة سياسات توسيع القطاع العام)، وانحسار جهاز الدولة الاجتماعي؛ أي الطبقة الوسطى بالمعنى الاجتماعي لا الاقتصادي. دولة بلا طبقة وسطى سياسية تكون رافعة طبيعية لجهاز الحكم، كانت دوماً تحت رحمة التحالفات الهجينة من مثل: نخبة عسكرية مفرطة العلمنة من جهة، متحالفة مع مؤسسة دينية مفرطة المحافظة من جهة أخرى، أو نخبة ريفية من بيئة مدقعة الفقر تأتزر ببرجوازية مدينية مفرطة الثراء. باختصار، كانت الحكومات السورية المتتالية منذ عام 1961 تقود سوريا بذهنية التوازنات منعاً للانفجار أو الانقلاب، إلى درجة يمكننا توصيف النظام السوري بدءاً من عام 1970 بأنه نظام «ضد انقلابي» بطبيعته. ولإن وعى حافظ الأسد توازنات الاجتماع السوري وتناقضاته، فإن فوتاً في الوعي كان بادياً على الأسد الابن. الانفتاح غير المتوازن على تركيا خارجياً، والانفتاح الاقتصادي غير المتوازن داخلياً، وسط شلل تام للطبقة الوسطى بالمعنى الاجتماعي والسياسي، كلها أمور سرّعت بانفجار المجتمع عام 2011.

يمكن اعتبار انتصار الثورة السورية كأول انتصار لثورة «ريفية – سلفية» ضد الاستبداد السياسي في تاريخنا الحديث

تشكل محاضرات تيسير الرداوي مدة رئاسته لهيئة التخطيط بين عامي 2007 و2010، في ندوة الأربعاء في دمشق، مادة مهمة لفهم التحولات الكارثية في سوريا في العشرية الأخيرة ما قبل الحرب. كان الرداوي مستشرفاً الانفجار الاجتماعي الدموي في سوريا قبل سنين من وقوعه. إصلاحات عبد الله الدردري، رئيس هيئة التخطيط بين عامي 2003 و2005، الكارثية، والتي جاءت على حساب الريف وعلى حساب فقراء المدن، كانت سبباً في الكارثة بنظر الرداوي (لن أستفيض في هذه النقطة لكثرة ما صارت ممجوجة ولكثرة ما ألقي اللوم فيها على الدردري بشكل شخصي ومبالغ). المشكلة أن كل هذه النقاط كانت مُدركة ومنظورة ومستقرَأة من قِبل الحركة الجهادية السورية (راجعوا كتاب عمر عبد الحكيم، أبو مصعب السوري: ملاحظات حول التجربة الجهادية في سوريا)، فيما غابت عن بال النظام وأجهزته وحده.

لقد نجحت الثورة السورية بفعل مجموعة عوامل داخلية، على رأسها ميل الريف إلى الثورة والتمرد، وخارجية – كانت هي الحاسمة في نجاحها – بعد التفاهم الروسي التركي. ومع ذلك (وبغض النظر عن موقف القارئ منها سياسياً) يمكن اعتبار انتصار الثورة السورية كأول انتصار لثورة «ريفية – سلفية» ضد الاستبداد السياسي في تاريخنا الحديث. أعرف أن كثيراً سيعترض على وصفها على هذا النحو، وأنا بهذا الوصف لا أقصد مدح الثورة ولا قدحها، ولا اختزال الفواعل الدولية أو الداخلية فيها. لكن انتصار الثورة تحت راية «هيئة التحرير»، سيفتح كتاب السياسة العربية على فصل جديد وخاص بالأدبيات السلفية. ففيما كانت السلفية من قبل منشغلة بمحاربة «شرك القبور» إعلاءً لكلمة التوحيد، جاءت السلفية الجهادية اليوم لتطرح معنى أكثر شمولية للتوحيد بجهادها الطواغيت (هذا تعريف أبو محمد المقدسي لها). أدبيات أنس خطاب، رئيس جهاز المخابرات السورية الجديد، تنذر بما هو أبعد من المسألة السورية نفسها. يركز خطاب في كتيباته على نقاط أربع دوماً: (1) نصرة المستضعفين من المسلمين لمواجهة اضطهاد الطواغيت وظلمهم (في رسالته المعنونة بـ«تحالف عباد الصليب ضد مجاهدي الشام» – 2014، يركز خطاب على دول الكفر العربية الأربع؛ السعودية والأردن والإمارات ومصر، ومشاركتها لدول «عبّاد الصليب» في الحملة ضد المسلمين). (2) العداء للغرب الصليبي (راجعوا كتيّبه: الجهاد السني ومسارات الانحراف). (3) التصدي لمذهب «الوطنية» لما يحدثه من خلل في مسألة الولاء والبراء عند المسلمين. (4) مواجهة النماذج الجهادية المنحرفة من خوارج العصر والمرجئة الجدد (يعتبر خطاب داعش من خوارج العصر وحركة حماس من المرجئة الجدد أو المميِّعة).

سيستفزّ مثل هذا الفهم للسلفية رعاة السلفية التقليدية من ممالك عربية أنزلت كل مثقلات الظلم بمجتمعاتها، وهي العارفة أكثر من غيرها بتأثير إيلاف دمشق الجديد عليها. يعيد المشهد السوري اليوم إلى الوعي الكثير من المخاوف، ويفتح كذلك الكثير من النوافذ على واقع جديد. فالثورة – أياً تكن نتيجتها أو مؤداها – ستعيد تشكيل خارطة الصراع والتنافس في منطقتنا على نحو مختلف عمّا عرفناه لقرون. فإذا كان التاريخ الإسلامي تاريخ صراع بين ثلاثة تمثلات للإسلام ــــ هي الإسلام الرافضي (يندرج فيه الشيعة على اختلاف فرقهم)، والإسلام التوفيقي (إسلام المدينة الإسلامية الحنيفي تاريخياً)، والإسلام السلفي (إسلام البادية الحنبلي) ــــ فإن إسلام دمشق اليوم، بالمعنى السياسي، ينذر بانزياح هذه الخارطة نحو استيلاد نموذج جديد من الإسلام: رافضي الفكرة، سلفي الثقافة، توفيقي المنهج. والجزيرة العربية (موطن الإسلام السلفي التقليدي) لن تكون بمنأى عن آثار هذا الزلزال التاريخي. لا أستبشر خيراً بالضرورة بالأيام القادمة، فالهيمنة الأميركية والغربية على منطقتنا أكبر مما نتخيّل، ربما، لكن الثورات – كما الحروب – فضاء للايقين واللامعقول، وفي الثورات أكثر مما في الحروب فرصٌ جديدة للتدبير والتغيير والتفكير بطرق مختلفة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى