شرفات

لاتزعل مني يا نزيه أبو عفش (41760 دقيقة ) !

عماد نداف

زعل مني الشاعر الكبير نزيه أبو عفش عام 2016 عندما كان يلقي محاضرة في جمعية (عين الفنون) في مكتب الفنان العالمي طلال معلا. كانت الحرب طاحنة والبلاد تسقط تحت وحشية الدم المسفوح من شرايين الشعب السوري بكل تكويناته، ويومها تداعت مجموعة من المثقفين والفنانين والكتاب من بينهم : أيمن زيدان، حسام بريمو، ديانا جبور، سامر اسماعيل، سامر عمران، طاهر ماملي، طلال معلا، علي تركماني، فادي عطية، فاضل كواكبي، ومصطفى الخاني، وشكلت تلك الجمعية، ودعيتُ أنا مشاركا في حواراتها .

كان نزيه يائساَ، مستاءً من الثورات، وهي تفتح على السواد ، وقد اعتذر في البداية عن إلقاء المحاضرة واقفا بسبب تعبه ، وكتب الصديق خليل صويلح عن تلك المحاضرة في صحيفة الأخبار أن نزيهاً  قال: «عندما كتبت «ليتها لا تحدث»، نلتُ نصيبي من الشتائم والتخوين، وعندما كتبت «البيت سوف يُهدم»، ردّوا علي بأن هذا ليس بيتاً. قلت ليكن جحراً ولكن لندافع عنه، وعن الأمهات اللاتي ما زلن يبكين على موتاهن”  وقد فهمت منه في تلك اللحظة أنه يستنكر الثورة ولم يعد يريدها.

وعندما بدأ الحوار أبديت رأيي محتجاً على نزيه، كيف يانزيه تخاطب جيلاً من أشعارك يقدسون الثورة والحرية، ثم تتنصل اليوم ؟ هل تعرف ماذا فعلت بأشعارك ؟ ببساطة دخل المئات إلى السجون لسنوات طويلة ، وأنا منهم لأنني حفظت قصيدة كم من البلاد أيتها الحرية؟..

لماذا تفعل ذلك اليوم؟

نهض نزيه أبو عفش متجاوزاً اعتذاره وتعبه ، ورد عليّ، طبعا باحترام شديد يليق باسمه، وأخبرني بحادثة جرت معه في مشروع دمر وهي أن السكان الذين يعيشون معه في بناء واحد، كانوا يحبونه ويحترمونه وينادونه بأبي عمر(وبس)، وعندما وقعت (الثورة) عام (2011) وعرفوا أنه مسيحي لم يعد أحد منهم يرمي التحية عليه (!!) ..

لاتزعل مني يانزيه ..

أنا عماد نداف ، كاتب سوري، كاتب عادي، لم يعرفني الناس والقراء كما عرفوك وعرفوا حنا مينة ومحمد الماغوط وممدوح عدوان وزكريا تامر، أنا أعرف أن الثورات لاتحدد هويتها إلا عندما تنجح، لذلك فنحن الذين حفظنا أشعارك مظلومون بموقفك هذا، ونحن الذين بكينا عندما سمعنا غناء الصديق سميح شقير (ياحيف) مظلومون ، نحن السوريون الذين ننتمي إلى أرض وكرامة وتاريخ وحضارة ، ينبغي أن نتحصن اليوم ، لتكون بلادنا أجمل وتكسر عصا الطائفية والتزمت وفتن الطغم بين أفراد شعبها، وننتمي إلى المستقبل، وبناء المستقبل أصعب .. أصعب بكثير .. بكتْ كلُّ الأمهات على ماحصل لأبنائها ، بكى الرجال في لحظة (الدهشة) التي لم يصدقها أحد.

وإذا كنتَ قد عوقبت لأن أبا عمر كان مسيحيا ، فأمسِ كنتُ أستمع إلى قصة ضابط اسمه عمر كان مسلما ومواليا وحكى عما جرى معه ومع أمه وأخته وصهره والشهداء الذين سقطوا إلى جانبه، وكان يقول : أنا فداء الحرية.

أستذكر اليوم الشاعر اللبناني الراحل خليل حاوي، وأنا أزور زنزانتي التي عشت فيها (41760  دقيقة )، وسجني الذي عشت فيه قرابة عشرة أعوام، أستعيد أشعارك، وأستغرب كيف عشت كل تلك الدقائق في حيز لايتسع لجسدي ، وعندما وصلت بعد سنوات طويلة  إلى زنزانة الشيوعي رياض الترك والشيخ خالد الشامي والمعارض ميشيل كيلو، وأردت حساب الدقائق التي عاش فيها كل واحد منهم وجدت أن الرقم تجاوز المليار دقيقة ..

عندها عرفت معنى أن يكتب نزيه أبو عفش : كم من البلاد أيتها الحرية ، وأن يكتب خليل حاوي في زنزانته : أعد الثواني ، فتمط أرجلها الدقائق ، تستحيل إلى دهور..

لاتزعل مني يانزيه ، كان الزمن صعباً علينا جميعاً، وربما يأتي زمن أجمل !

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى