لبنان أزمة المخاض الطويل من أجل الخلاص

 

كان متوقعا عودة الاحتجاجات الى الشارع اللبناني بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وقد يبدو محقا رئيس الحكومة حسان دياب باعتقاده أن ثمة قوى سياسية تستهدفه من خلال رفع سعر صرف الدولار والعبث بالسياسة النقدية بهدف إشعال الأوضاع واحراج الحكومة وعرقلة مسارها، لخلق مشاكل لها تؤخر فتح دياب ملفات حساسة وعلى رأسها ملف التحويلات المالية بعد انتفاضة 17 تشرين العام الماضي، حيث كان البنك المركزي اللبناني جمد كافة التحويلات المالية فيما عرف “بالكابتل كنترول”، إلا أن شخصيات نافذه تمكنت من خرق القانون ونقلت أموالها في الوقت الذي احتجزت فيه أموال صغار المودعين.

الإجراءات المصرفية ومراجعة السياسية المالية لحكومة حسان دياب تخلق شعورا بالقلق لدى العديد من القوى السياسية وتحديدا الحزب التقدمي الإشتراكي وتيار المستقبل بمراكز قواه المتعددة، بالإضافة إلى شخصيات سياسية واقتصادية نافذة غير حزبية في طليعتهم رئيسا الحكومات السابقين فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي، وهو ما دفعمها إلى إصدار بيان ضد الحكومة بغطاء غير رسمي اسمه “نادي الرؤساء السابقين”.

ولا يمكن توقع المس بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، رغم ماقيل عن بحث رئيس الحكومة مع رئيس الجمهورية مسألة إيجاد  بديل، وتكرر أوساط سياسية أن حاكم مصرف لبنان سلامة قد يكون كبش محرقة ، إلا أن سلامة حقق مصالح أطراف متداخلة ومتناقضة  وهو يملك فيما يبدو الصندوق الأسود لكل عمليات التحويل والفساد والقروض وعمليات التلاعب في مجال لعبة  القروض وايداعها وثم حصد الفوائد عليها.. ولذلك تغيير رياض سلامة عملية صعبة واذا ما اضطرت الطبقة السياسية للتخلي منه فإنها ستجد له مخرجا لائقا.

ويتجه تيار المستقبل مع جنبلاط  للتحالف مع  حزب القوات اللبنانية لتشكيل جبهة وتوجيه هجومها نحو حزب الله  بالتوازي مع وصم الحكومة بأنها حكومة حزب الله، وهذه القوى تعتقد  أن تبني هذه  السياسية هو ضمان حمايتها ودعمها من قبل قوى إقليمية وغربية على رأسها الولايات المتحدة التي تجد في كل حالة معادية لحزب الله شريكا.

ويبدو حتى الآن زعيم حزب القوات سمير جعجع  وكذلك وزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط أقل حماسة من سعد الحريري لإسقاط الحكومة، ليس حبا فيها بقدر معرفتهم بالاجواء الدولية، بينما تختلف حسابات الحريري المهتم جدا هذه الأيام بارتفاع شعبية رئيس الحكومة حسان دياب في الشارع السني ما يهدد الحريرية السياسية، ولهذا يشير التيار الأزرق بشكل مباشر الى سياسية الحكومة باعتبارها انتقاما من الحريرية.

دياب مدعوم من قوتين أساسيتين في البلاد هما حزب الله والتيار والوطني الحر ممثلا برئيس الجمهورية ميشل عون، وتبدو نوايا القوتين جدية في إنجاح حكومة حسان دياب من بوابة فتح ملفات الفساد ، وإجراء إصلاحات في القطاع المالي ، وقطاعات أساسية في الدولة عبر الخطة الاقتصادية الإنقاذية التي اعتبرها رئيس الجمهورية حدثا تاريخيا في البلاد.

لكن بالمقابل لا يمكن إغفال الحسابات الداخلية الحزبية والطائفية  لكلا القوتين، وهي ما يحد من إطلاق يد الحكومة بعيدا في المحاسبة  أو المساس العميق بمصالح قوى وشخصيات سياسية نافذة، لأن ذلك قد يستنفر أنصار تلك القوى في الشارع، وكذلك قد يستعمل الغطاء الطائفي على أقصى مدى، وهو ما ينذر بحرب أهلية  لا ترغب بها كل الأطراف، ولكن الرغبة وحدها لا تمنع اندلاعها  على نطاق محدود لأن أي حرب أهلية في لبنان شاملة لن تكون إلا بقرار من خارج الحدود.

وصحيح أن بعض هذه الأطراف المشار إليها  لها مصلحة في شل الحكومة بناء على هذه المعطيات، ولكن محركات إشعال الشارع في لبنان لا تعتمد فقط على رغبة هذه الأطراف أو الانقسام السياسي ، واحتجاجات المناطق كانت متوقعه كنتيجة لاثار اجراءات التعبئة وإغلاق كافة مجالات الحياة، وهي نتيجة طبيعية لتوقف أعمال الشركات والمحلات والمطاعم والنوادي  وحتى صغار التجار والعربات وبسطات الرصيف وخسارة قطاع كبير من الناس لوظائفهم. عدا عن ارتفاع سعر الصرف وتأثيره المباشر على القدرة الشرائية للمواطنين حيث انخفض متوسط دخل الفرد  من حوالي 1000 دولار إلى أقل من 300  شهريا، وما يحمله ذلك من مخاطر على الأمن الاجتماعي.

وابعد من هذا  فقد بدأت أنماط حياة اللبنانيين تتغير بشكل كبير لأول مرة منذ انتهاء الحرب الأهلية مطلع تسعينات القرن الماضي، ولا تعتبر المرحلة الحالية أزمة عابرة أنما  بداية تحولات في بنية النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهي بداية مخاض سيمتد  لفترة طويلة ستحمل في طياتها الكثير من المخاطر والاحداث، وهناك احتمالات ومؤشرات قوية على أن القوى السياسية تفقد قدراتها على السيطرة على حركة الشارع بشكل متدرج.

وبالنسبة للقوى الدولية والنظرة إلى لبنان، الواقع يقول إن لبنان لم يعد مركز اهتمام قوى إقليمية إلا من ناحية وجود حزب الله على الحدود مع إسرائيل، هذا هو العامل الوحيد الذي يدفع  قوى خارجية للاهتمام بما يجري في لبنان، لكن بالعموم لم يعد لبنان مركز صراع دولي وإقليمي كما كان خلال عقود ماضية، كما لم يعد مركزا للإعلام العربي مع إغلاق صحف ومحطات تلفزيونية ومعاناة أخرى من أزمات مالية.

وجاء الموقف الفرنسي الداعم لحكومة حسان دياب وبدرجة أقل الموقف الأمريكي كنتيجة طبيعية لادراك  هذه الأطراف الدولية  لحقيقة صعوبة تشكيل حكومة بديلة في الوقت الراهن، وإن حجم المخاطر سيكون كبير جدا في حال سقوط الحكومة دون وجود اتفاق سياسي محلي على تشكيل أخرى.

وترى معظم القوى السياسية والحكومة أن التعامل مع صندوق النقد الدولي وتنفيذ برامجه هو ما يعطي الأمل للاستمرار، وتأمل الحكومة واطراف سياسية أن ضخ أموال جديدة عبر البنك الدولي سوف يمكن الدولة من الاستمرار في القيام بمهامها، لكن ذلك لن يكون سوى حل مؤقت وتأثيراته محدودة ويحتاج إلى شهور لقطف أولى ثماره، ولابد من الإشارة أن انتخابات برلمانية مبكرة ستكون مخاض  صعب  ومختلف واحد أهم المؤشرات على اختبار حجم التغييرات المستقبلية.

وفي نهاية المطاف ولو بعد سنوات من المعاناة سيجد اللبنانيون أنفسهم أمام حقيقة أن اتفاق الطائف الذي يعتمد على حكم خارجي قوي يدير التوازنات السياسية والطائفية ، وهذا الحكم كان سورية وهي الآن لم تعد موجودة ولن تعود مجددا، لذلك الطائف فقد الصلاحية وستكون البلاد بعد مخاض أمام حاجة إلى مؤتمر تأسيسي وهو اقتراح قديم لم يلق تجاوبا سابقا، ولكن سيكون أكثر قبولا مع دخول لبنان في عمق المخاض وقناعة الجميع فيه أن النظام السياسي وتركيبته وصلت إلى طريق مسدود.

صحيفة رأي اليوم الألكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى