لدي مفتاح وليس لدي باب
لدي مفتاح وليس لدي باب
هذه مقدمة كتابي “بائع النسيان” قيد الطبع .
رسامان يتباريان… مَنْ يستطيع أن يرسم العالم بدقة أكبر؟ أحدهما قال: أنا، ودعا زميله لرؤية ستارة كان قد رسمها. قال الثاني: افتح الستارة، ودعنا نرى اللوحة.
أجاب الأول ضاحكاً: الستارة هي اللوحة.
أنا في مأزق يتجلى بكتابةٍ استعملتْ في كتابتها الممحاة. فما تقرأه، أيها الصديق، هنا، في هذا الكتاب، هو الستارة وليس اللوحة خلفها. فليس لدى العربي، وهو يروي جزءاً من «سفر تكوينه» ماينشره، إلا ما يخفيه. أنا، مثلاً ، لدي مئة صفحة أخفيها عن الأعين النزيهة التي تطلب البوح، وأخفيها عن قانون، ليس مكتوباً إلا بدم الضحايا، يحظر محاولة لوصف حياتنا في بلادٍ تُعلّم الإنسان «الصمت» بدلاً من «الصوت»، وتنكر، طوال رحلة الحياة ، أننا عشنا، في ظلال الأفراح بالدقائق، وما تبقى عشناه في …الخوف.
بعد أن وضعتُ نقطةً على السطر الأخير في هذا الكتاب، بوصفها دمعةَ النهاية، اكتشفتُ ما يعرفه الطالبُ الابتدائي أنني، بهذه النقطةِ الحزينةِ، تَسَتّرتُ على الكهف المليء بعظام، ليست لأسلافنا وقد ناموا واستراحوا إلى الأبد، وإنما بعظام زملائنا في الحياة.
في لحظة تردد خطر لي ان أرسل الى الصديق يعرب العيسى صفحات من الكتاب ، فكتب في الفيس بوك :
“عادل محمود…بدأ بكتابة مذكراته. أرسل لي، بنفسه ودون اكراه، بضع صفحات قبل قليل.
أعلن ذلك، دون موافقته، لأزيد من ورطته وأزيد من عدد من يعرفون بذلك، كي أمنعه من التراجع.
من يعرف عادل يعرف حجم ما يحمل في ذاكرته، وغنى الحياة التي عاشها، وخصوصية ما كان شاهدا عليه.
ولمن لايعرف … عادل من عمر سورية تماما (بدقة هو أكبر منها ببضعة أسابيع) ويعرف الكثير مما جرى فيها وعليها، لاسيما ثقافتها وسياستها منذ الستينات.
وكما هرب شخصيا من سورية ثم عاد اليها لمرات عديدة طيلة خمسة وسبعين عاما، هرب أدبيا الى وصف الجبال والاغاني ومديح القضايا الكبرى وعيون النساء…وآن لنا أن نقبض عليه ونعيده الى الطاولة ليكتب ما عليه ان يكتب…حان وقت الهروب بالاتجاه المعاكس يا رفيق.”
تأبطت دفاتري وأقلامي ومضيت الى قريتي “عين البوم” …هناك بدأت ورطتي. وخلال أربعة اشهر مزقت أوراقا اكثر مما سطرت حروفا، ذلك ان موجات التردد تأتي لتطيح بالصبر على فكرة الجدوى. ففي مكان ما من الكتابة ثمة إحساس بالعجز عن مجاراة ما يحدث ووصفه وتفكيك عقد اللامعقول فيه.
قلت مواسياً حزني وخطايا تردد خطواتي: في كتابٍ آخر، ذات يوم حرٍّ، سأفضح ما تواطأت على نسيانه، اوتجاهله. فأكتب ما ينبغي أن يكون بسالةً للضمير، وفي هذا الذي سأكتبه، ذات يوم، سيتجلى نوعَ الخذلان الذي تعرضنا له، أنا وزملائي في الحياة، وصبرنا على أذاه، وأخفينا في أعماق خوفنا ما كان مصدرا للبشاعة والخزي.
ليس العنوان… «بائع النسيان» ادعاء مهارة في المجازات، وليس إشارة إلى ما وراء عبارة قالها إدوارد سعيد لمحمود درويش «إذا مت أوصيك بالمستحيل». وكأنه يقول له: لا تنسَ… أَعِدْ لي فلسطين، فكرةً وأرضاً ومعنى.
كما انه ليس دعوة الى النسيان ببيع الذاكرة …
أنا لا أكتب سيرة زمني، فهذه تحتاج إلى فصاحة آلامنا جميعاً، أطفالاً ويافعين، أحياء وموتى، ولا أكتب لأدين زمني… إنني أشير، عبر حياةٍ مأهولةٍ بالحروب وبالرزايا، أشير إلى النقصان بوصفه أحد أمراض المسعى الإنساني الى الكمال.
أنا، افتراضاً، بائع نسيان متجول. ليس لي ماضٍ فادح لأندم عليه،
وليس لي حاضرٌ أتنعّم فيه، وليس لدي يقين الباعة المتجولين، بأن بضاعة النسيان تملك جياد مستقبل ترمح في الضوء مخلّفةٌ وراءها غبارَ البطولات.
أنا أفرد بضاعتي على رصيف مرّت وتمر عليه آلاف الأقدام التي، دون أن تدري، تدهسُ ناياتٍ من قصب الظمأ، فيما تذرو الريح بقايا ريش الذكريات.
بضاعتي المزعومةُ… هي: ذاكرةُ ألم، نُدْبتُه تدلّ عليه.
ذاكرة فرح لم يزل أفراده القليلون يرشون عطراً على رقابهم ويذهبون إلى أعراس الآخرين.
ذاكرةُ أشخاص وخذلان ومواقف وقضايا.
ذاكرة أصدقاء عاشوا، حلموا، ارتحلو، انتبهوا ثم… ماتوا.
أنا بائع النسيان الذي يعطيك منديلاً فيه رائحةُ دموع اثنين افترقا، لأنهما لم يعرفا أن الحبَّ شجاعٌ، والجبنَ هو الوصفةُ الطبيةُ لنجاةٍ فقيرة.
أنا… اكتشفت، قبل هذه السطور بدقائق…
أنني بائع النسيان، الذي أكثرُ بضائعهِ رواجاً، وأغلاها سعرا، وأفدحها مرارة، هو التذكّرُ،
وليس…
النسيان!