لماذا قمّتيّ القاهرة “الثلاثيّة” وبغداد “الثّمانيّة” تَنعَقِدان في الوقت الضّائع ؟
ما يجري حاليًّا في المنطقة العربيّة من اجتِماعاتِ قمم، سواءً الثلاثيّة التي تَنعَقِد في القاهرة، أو تلك الثمانيّة التي سبقتها في بغداد قبل أيّام، وتذَكِّرنا “بمحور بغداد” السَّيء الذِّكر، يَعكِس الهزيمة الأمريكيّة الفاضحة في أفغانستان وتداعياتها، والنّتائج الإقليميّة والأُمميّة التي تترتّب عليها، وانتِصار المحاور الأُخرى، وخاصَّةً محور المُقاومة بزعامة إيران، أو المحور العالمي الصيني الروسي الكوري الشّمالي.
إدارة الرئيس بايدن الأمريكيّة هي التي تَقِف خلف هذه القمم عندما أوعزت لحُلفائها في المنطقة بعقدها، في مُحاولةٍ لتقليص الخسائر الاستراتيجيّة، التي مُنِيَت بها في المنطقة الشّرق أوسطيّة، وأثَّرت بشَكلٍ سلبيٍّ جدًّا على دولة الاحتِلال الإسرائيلي.
حالة الفوضى استراتيجيّة الطّابع التي تسود دوائر صُنع القرار في الولايات المتحدة هذه الأيّام، وانعكست بكُلّ وضوح في كيفيّة إدارة أزمة الانسِحاب من أفغانستان، يُمكِن اعتِبارها بدء العدّ التّنازليّ لانهِيار هيبة أمريكا المُتسارِع كقُوَّةٍ عُظمى، ونهاية تدخّلاتها العسكريّة خارج حُدودها، وانتهاء العولمة والعصر الأمريكي، الأمر الذي سيَنعكِس سلبًا على حُلفائها، وكُل المُحتَمين بمِظلّتها، والحُكومات العربيّة خُصوصًا.
قمّة بغداد انعقدت من أجل خلق “أرجُل” تَقِف عليها حُكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الحليف الأمريكي الأبرز في العِراق، وقمّة القاهرة الثلاثيّة الأخيرة التي انعقدت اليوم الخميس جاءت لإنقاذ “إسرائيل” من نتائج أخطائها الكارثيّة، ورفع معنويّات جيشها ومُستوطنيها من الهزائم الضّخمة التي حلّت بهم من جرّاء صواريخ المُقاومة، ولكن القمّتين لن تُحَقِّقا أيّ من أغراضهما، ليس لأنّهما جاءا مُتَأخِّرين، وإنّما أيضًا لأنّهما والمُشاركين فيهما، لم يعودوا وحدهم أصحاب القرار المُؤَثِّر والحاسِم في المنطقة مثلما يتَصوَّر الرئيس بايدن وطاقم إدارته.
هُناك عدّة مُؤشّرات رئيسيّة تدعم ما ذكرناه آنِفًا، نُوجِزها في النّقاط الأربع التّالية:
أوّلًا: انهِيار مُفاوضات فيينا النوويّة، ومجَيء رئاسة “ثوريّة” في إيران مُمَثَّلَةً في الرئيس إبراهيم رئيسي تتبنّى سياسات متَشَدِّدة عُنوانها الأبرز عدم العودة إلى الاتّفاق النووي مع الولايات المتحدة مهما قدَّمت الأخيرة من تنازلاتٍ، فالرئيس الإيراني الجديد يُمَثِّل السيّد علي خامنئي المُرشد الأعلى، وجناح الصّقور في إيران، ولعلّ التّصريح الأخير للسيّد حسين أمير عبد اللهيان، وزير الخارجيّة، الذي أكّد فيه أنّه لا عودة إلى مُفاوضات فيينا قبل ثلاثة أشهر على الأقل يُؤكِّد هذه السّياسة الإيرانيّة الجديدة المُتَشَدِّدَة التي ترمي إلى “كسب الوقت” والحِفاظ على الوضع الرّاهن، والعودة إلى مُربَّع ما قبل الاتّفاق.
ثانيًا: حدوث شرخ كبير، يتَوسّع حاليًّا في العلاقات الأوروبيّة الأمريكيّة، ولعلّ بحث وزراء الدّفاع في الاتّحاد الأوروبي في اجتماعهم الذي انعقد في سلوفينيا اليوم الخميس تشكيل قُوّة رَدٍّ سريع بعدما فَشِلَ الرِّهان على القُوّة الأمريكيّة وأدائها المعيب في أفغانستان عُمومًا، ومطار كابول خُصوصًا، يُوحِي، بَل يُؤكِّد، أنّ هذا الاتّحاد لم يَعُد يَثِق بأمريكا كقُوّةٍ عُظمى يُمكِن الرُّكون إليها، ولا يَثِق بقُدراتها ومُؤسَّساتها الأمنيّة والعسكريّة في إدارة الأزَمات.
الثّالث: تَراجُع دور “إسرائيل” الأمني والعسكري كقاعدة، ورأس حربة للغرب في منطقة الشّرق الأوسط بعد الهزائم الكُبرى التي لَحِقَت بها مُؤخَّرًا، وخاصَّةً في قِطاع غزّة وجنوب لبنان، ومن ضِمنها حرب السّفن، ولعلّ فشل اللّقاء بين بايدن وضيفه نفتالي بينيت الأخير في واشنطن يَشِي بالكثير في هذا المَيدان.
الرّابع: صعود قِوى إقليميّة عُظمى، وتَعَزُّز مكانة محوريّ المُقاومة والمُمانعة، وتحالفهما مع القُوّة العالميّة البديلة لأمريكا برئاسة الصين وروسيا، وانضِمام إيران إلى هذا التّحالف، ولعلّ وصول ناقلات النّفط الإيرانيّة إلى الموانئ السوريّة في أيّ لحظة مُحمَّلة بملايين براميل النّفط لحلّ أزمة المحروقات اللبنانيّة، في تَحَدٍّ للتّهديدات الأمريكيّة الإسرائيليّة أحد الأدلّة على هذا الصُّعود المُتسارع، فأمريكا وإسرائيل اللّتان خَسِرَتا حرب السّفن قبل الهزيمة الكُبرى في أفغانستان ليسَتَا موضع خوضها مُجَدَّدًا وفي هذا التّوقيت.
اذا كانت هزيمة النّازيّة في الحرب العالميّة الثّانية أرَّخَت لبداية العصر الأمريكي، والقُوّة الاقتصاديّة والعسكريّة لواشنطن، فإنّ هزيمة أمريكا المُذِلَّة في أفغانستان ستُؤَرِّخ لبداية أفوله، وتَفَكُّك حِلف النّاتو، العمود الفقري لقُوّته العسكريّة.
إسرائيل اليوم ليست إسرائيل التي كُنّا نَعرِفها تَحسِم الحُروب في أيّامٍ أو ساعات، وتحتل ما شاءت من الأراضي العربيّة، وترتكب المجزرة تِلو الأُخرى في بحر البقر وقانا وغزّة، وتتباهى بتَفوّقها العسكريّ الشّاسع، فللمَرّة الأُولى في حرب غزّة الأخيرة، تَنْعَزِل عن العالم، ولا يستطيع إسرائيلي واحِد مُغادَرتها لعدم وجود مطارات مفتوحة ولا طائرات بالتّالي، ويعيش ستّة ملايين من مُستوطنيها في المَلاجِئ لأكثر من 11 يومًا.
قمّة القاهرة الثلاثيّة لن تنقِذ إسرائيل، ولن تُطمئِن مستوطنيها، مثلما جاءت نتائج شقيقتها الكُبرى في بغداد عكسيَّةً تمامًا، وأضعفت السيّد الكاظمي ولم تقَوِّيه، ولن تعيد إحياء حلّ الدّولتين، لأنّ ما يُعاد إحياؤه حاليًّا هو ثقافة وإرادة التّحرير الكامِل للأراضي الفِلسطينيّة المُحتلّة… والأيّام بيننا.