لمصر.. لا لحمدين صباحي (مصطفى اللباد)

 

مصطفى اللباد

يتنافس مرشحان في الانتخابات الرئاسية المصرية 2014، هما المشير عبد الفتاح السيسي والأستاذ حمدين صباحي، مقارنة مع اثني عشر مرشحاً العام 2012. للوهلة الأولى تبدو القاعدة الأيديولوجية الناصرية قاسماً مشتركاً بين المرشحين، فالمشير السيسي يستحضر في دعايته الانتخابية، في مواجهة صباحي الناصري قولاً وفعلاً، ذلك الجانب العسكري في تجربة وشخصية الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. كما أن تقارب عمر المرشحين المحترمين – كلاهما يبلغ من العمر 60 سنة – ربما يدفع للاعتقاد بوجود مشترك ثان بينهما، إلا أن النظرة الأعمق تقول بعكس ذلك. يمثل كل منهما تجربة حياتية مختلفة، إذ إن عبد الفتاح السيسي الضابط في الجيش المصري ومدير الاستخبارات الحربية وقت اندلاع ثورة «25 يناير» 2011، وعضو المجلس العسكري الحاكم من بعدها، ووزير الدفاع في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي (2012-2013) يملك تجربة تقوم على الانضباط العسكري في التراتبيات والأوامر، وعلى التواري عن الأضواء بسبب توليه مناصب عسكرية رفيعة وحساسة. بالمقابل، لمع نجم حمدين صباحي منذ كان طالباً في الجامعة وتوليه رئاسة اتحاد طلاب مصر ومواجهته التلفزيونية الشهيرة للرئيس الراحل أنور السادات، مروراً بخوض غمار المعارك البرلمانية وتضامنه مع حركات الفلاحين المصريين والنقابات العمالية ومعارضته لحكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، ما جعله أحد أشهر رموز المقاومة لنهج النظام وسياساته. يستهوي كلا المرشحين قطاعات بعينها من المصريين، ويتحصل بالتالي على دعم فئات وشرائح اجتماعية متصادمة المصالح والأهداف. تأسيساً على ذلك، ربما يسهل وجود مرشحين اثنين فقط، الفرز السياسي والاجتماعي مقارنة بالانتخابات السابقة. لكن إلقاء الضوء على السياق العام للانتخابات الرئاسية والفئات الداعمة لكل مرشح يحدد بوضوح وجلاء الفارق الجدي والحقيقي بينهما.

السياق العام للانتخابات الرئاسية

تعد الانتخابات الرئاسية الحالية تكريساً لموازين قوى متحققة على الأرض فعلياً وليست منشئة لها، بمعنى أن إطاحة جماعة «الإخوان المسلمين» وممثلها في قصر الرئاسة في 3 تموز 2013 في أعقاب الانتفاضة الشعبية المصرية الثانية (30 حزيران 2013) وتدخل القوات المسلحة المصرية بعدها لمنع الحرب الأهلية، أنتجت واقعاً جديداً يعيد المؤسسة العسكرية المصرية إلى واجهة الحدث، فضلاً عن إمساكها خيوط ومقادير السياسة والقرار الفعلي في البلاد منذ تنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك في 11 شباط 2011 وحتى اليوم. لذلك يدخل المشير السيسي الانتخابات الرئاسية 2014 وهو في موقع المرشح الأوفر حظاً، معتمداً على رصيد كبير من الشعبية تحقق لديه بعد إطاحة حكم جماعة «الإخوان المسلمين»، وعلى دعم إعلامي كاسح وعلى تماه تام من مؤسسات الدولة المصرية مع شخصه وطروحاته. وربما ليس من قبيل المبالغة القول إن المشير السيسي هو الفرصة الأخيرة للنظام لتصحيح اختلالاته ومعالجة ترهلاته التي أدت إلى الانتفاضة الشعبية الأولى، فيما يمثل حمدين صباحي توق تلك الملايين الحالمة من المصريين إلى تحقيق أهداف ثورتهم في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

السيسي ومؤيدوه

تهيمن حملة المشير السيسي على وسائل الإعلام المصرية، سواء المملوكة للدولة أو لرجال الأعمال الكبار، بحيث تؤمن له نافذة واسعة التأثير للإطلال منها على عموم المصريين. ويضعف من وهج الحملة وجود تلك الوجوه المتحلقة حوله من نخبة مبارك الطامعة لإعادة مكتسباتها، وبالتالي عجلة التاريخ إلى الوراء. ولا يقتصر الأمر على النخبة القريبة من مؤسسات الدولة ومبارك، وإنما يلاحظ أيضاً أن تركيبة مؤيديه في المدن والريف تكاد تكون متطابقة مع تلك التي سقطت في ثورة «25 يناير» 2011. ولا يقتصر داعموه على هؤلاء فقط، بل أيضاً على وجوه وطنية ناصرية ويسارية مشهود لها بالنزاهة اعتقاداً منه بأنه الأنسب لتلك المرحلة في تاريخ مصر. يعلم السيسي أن مهمته ليست سهلة على الإطلاق، فمشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة والمتفاقمة على مدار عقود لا يمكن حلها بسهولة، مثلما يعي أن براعته في توجيه الكلام القريب من القلوب لها فترة صلاحية ليست ممتدة إلى ما لا نهاية. لذلك حرص المرشح السيسي والمنظرون له على عدم إعلان برنامج انتخابي والاكتفاء بمقولة ان «المرشح الضرورة» لا يحتاج إلى برنامج، وهو أمر مفيد تكتيكياً لأن البرنامج يعني أولويات، وبالتالي تدعيم مصالح وضرب أخرى، وهو ما قد يفقده تعاطف قطاعات بعينها. وبالرغم من عدم الإعلان عن برنامج انتخابي يقيس به المصريون مدى التزام المرشح بالوعود الانتخابية، يبدو أن حملة السيسي الانتخابية تدغدغ مشاعر الحالمين بالاستقرار وبالدولة القوية ومكافحة الإرهاب وتدوير عجلة الإنتاج، وهي عناوين لا يمكن الاختلاف معها بوصفها كذلك؛ بل مع ترجمتها الفعلية على الأرض وما قد تعنيه من تجميل لوجه النظام وإعادة رموزه والإبقاء على آليات السيطرة الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، وإغلاق المجال العام الذي انفتح على مصراعيه في ميادين مصر وشوارعها تحت شعاري الأمن ومكافحة الإرهاب. يشكل «حزب الكنبة» أو تلك الشريحة الواسعة من الطبقة الوسطى المصرية العازفة عن الفعل السياسي المباشر، القاعدة الانتخابية الأساسية للمشير السيسي، فضلاً عن وجهاء الريف الواسعي التأثير هناك، بالإضافة إلى هؤلاء المرتبطين وظيفياً ومصلحياً بمؤسسات الدولة بجانب الدعم الواضح لرجال الأعمال الكبار.

صباحي ومناصروه

تطور حمدين صباحي بمرور الوقت، بحيث صقلته التجربة المريرة للمصريين منذ ثورة «25 يناير» 2011 وحتى الآن، فارتقى من مجرد شخصية النائب البرلماني المعارض لحسني مبارك، إلى أحد أقطاب المشهد السياسي المصري، سواء في الانتخابات الرئاسية العام 2012 بعد حلوله ثالثاً خلف محمد مرسي مرشح «الإخوان المسلمين» وأحمد شفيق آخر رئيس وزراء لحسني مبارك، وبرصيد خمسة ملايين صوت دون مال سياسي داعم أو تنظيم سري كبير أو انحياز من أجهزة الدولة. عقدت الآمال على صباحي لتأسيسي كتلة ديموقراطية جديدة (مقالنا هنا مصر على موعد مع حمدين صباحي في 28/5/2014) تواجه جماعة «الإخوان المسلمين» وفلول النظام السابق، فأطلق بعدها بشهور قليلة «التيار الشعبي». ومع تنامي المعارضة لحكم الدكتور مرسي، ساهم صباحي في تأسيس «جبهة الإنقاذ» ليصبح مع محمد البرادعي أهم أقطابها. رفض صباحي مقاطعة الانتخابات، وأعلن ترشحه في ظروف جعلت وقتها حظوظه متدنية جداً في مواجهة المشير السيسي. ولكن صباحي استطاع من وقتها أن يراكم مؤيدين جدداً، بعدما خاطب الشرائح المدينية المتعلمة ذاتها وملايين الشباب الراغب في التغيير. على الأرجح لن تكفي المدة الباقية حتى موعد الاستحقاق الانتخابي، كي يقلب صباحي طاولة التوازنات المائلة ناحية منافسه، والمثبتة بدعم مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام وبالنخبة الجاهزة للاستعمال وقت الحاجة. وإذ أعلن ما يسمى «تحالف دعم الشرعية» الإخواني أن صباحي أخطر على مصالحه من المنافس الآخر، تتبدى جلية أمام الأنظار طبيعة المرحلة والمواجهة المزدوجة التي يخوضها صباحي راهناً مع الطرفين اللذين وأدا حلم التغيير، سواء بتحالفهما في الفترة 2011-2013 أو تصادمهما من 2013 وحتى الآن: جماعة «الإخوان المسلمين» وقيادة المؤسسة العسكرية.

المقاطعون وموازين القوى

ستقاطع الانتخابات قطاعات من الشباب ومن المؤيدين للتغيير، بدعوى عدم توافر الحيادية وأن ذلك سيشكل غطاء شرعياً للمشير السيسي، أو لنفور البعض من شخص حمدين صباحي. لم تنهض المقاطعة يوماً كفعل ثوري إيجابي، بل إبراءً للذمة وإظهاراً للعجز عن الفعل. ومع كل الانتقادات الموجهة من المقاطعين المحسوبين على التيار الديموقراطي إلى شخص حمدين صباحي – المحق منها والمجحف – تبدو المعاني التي يدور على خلفيتها التنافس الانتخابي الراهن أكبر من المرشحين وذواتهم الشخصية. لا يتقدم حمدين صباحي إلى هذه الانتخابات بوصفه مناضلاً ناصرياً فقط أو حتى نائباً برلمانياً عن دائرة بلطيم والبرلس فحسب، بل ممثلاً لكل الطيف السياسي المدني في مصر، ومنافحاً عن البقية الباقية من عبق «25 يناير» 2011، التي يحاول خصومه المتلطون الآن وراء المشير السيسي انتزاعها من القلوب وشطبها من الذاكرة المصرية. ولأن ذلك يسير على العكس من حركة التاريخ، فإن مهمة هذه القوى تبدو – بالرغم من كل شيء – مستحيلة. بالمقابل يتسق ترشح حمدين صباحي مع آمال وتطلعات ثورة «25 يناير» 2011، حتى ولو بدت حظوظه في هذه الجولة مستحيلة. موازين القوى ليست قدراً سرمدياً لا يمكن الفكاك منه، بل محصلة الوسائل اللازمة لفرض إرادة في مقابل أخرى. قد تكون موازين القوى مفيدة لإدراك الواقع السياسي كما هو؛ ولكن بغرض تغييره لا تأبيده. سيدشن حصول صباحي على نسبة معتبرة من الأصوات كتلة ثالثة تعبر عن أهداف الثورة في مواجهة الكتلتين، وهي ضرورة وطنية مصرية وليست خياراً سياسياً. كتبت هذه السطور لمصر … لا لحمدين صباحي!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى