ليبيا اليوم… إلى أين؟ (مفتاح بوعجاج)

مفتاح بوعجاج

 

التأسيس لدولة ليبيا الجديدة بعد 42 عاما من الدكتاتورية والاستبداد وقرابة العامين من الثورة يتطلب منا أن نلقي نظرة فاحصة على الواقع الليبي اليوم:

-مؤتمر وطني متكون من 200 عضو تم انتخابهم بآلية ديمقراطية حديثة شهد لها المراقبون الأجانب قبل المحليين بالنزاهة. ولكن تلك الانتخابات جرت بقانون انتخابي صادر من جهة غير منتخبة به الكثير من العيوب. كما أنه أول تجربة انتخابية للأجيال الأخيرة أي ما يعادل 70% من المجتمع الليبي ولهذا جاءت الأخطاء كثيرة ومن ضمنها التسلل غير المنضبط دون قواعد وطنية قانونية.

-وجود تيارات سياسة تحت غطاء "الإسلام السياسي" بفروعه المختلفة يطرحون كثيرا من الشعارات الفضفاضة دون برامج واضحة.. قابلة للتأويل قديمها وحديثها. والكثير منهم منظمّون لديهم ميزة التكون والتأسيس والحراك حتى قبل الثورة ولهم امتدادات فكرية وتنظيمية خارج الوطن وداخله.

يتداخلون مع عامة الناس بشكل رأسي وأفقي بأطروحات دينية وعظية. سيطر كثير منهم بفضل تلك الأمور على مفاصل الدولة من أيام المجلس الانتقالي الذي مال كثيرا إلى وجهتهم وتغلغلوا فيه وسيطروا على مركز القرار السياسي والإداري علاوة على منابر المساجد من بداية الثورة وكذلك معظم المجالس المحلية.

يتحدثون كثيرا عن الفقه والدين أكثر من أي شيء آخر مما جعل المفكر الإسلامي محمد عمارة يقول عن تجارب مماثلة "لدينا تضخّم كبير في فقه التدين… يقابله ضعف في فقه العلوم والاقتصاد" مما استحضر كثيرا من المعارك الأيديولوجية الدينية السياسية القديمة لتعمي بذلك أطروحات تتناسب ومرحلة تأسيس الوطن. أي تحريك مصباح علاء الدين ليخرج منه كثير من المردة في وقت نحن أحوج فيه إلى استخراج تجارب الإصلاح الحديثة والتنمية والتأسيس لوطن يسع الجميع. وهنا لا أعيب عليهم تأسيسهم لتلك الأحزاب بقدر ما أعيب تكوّن كل الأحزاب قبل الدستور وخاصة تلك لتي لا تعترف بالتعددية الفكرية والسياسية والثقافية بل تنشط من خلال رؤية وحيدة وكأنها هي التي امتلكت الحقيقة كاملة "رغم اعترافنا بأن كثير منهم كانوا معارضين أشداء ونالهم الكثير من الظلم والتعذيب والسجون والإقصاء".

وهنا أؤكد على أن الثورات لا تقوم بتبني شعائر تقسم الأوطان بل بتبني شعارات تخلق صيغ لحياة مشتركة بين كافة شرائحها ومعتقداتها وثقافتها. ومن هنا يأتي مبدأ رئيسي وهو أن الديمقراطية يجب أن تكون مقدمة على كل شيء لأنها القادرة على احتواء هذه الأشياء وهي الكفيلة بحصحصة الحق من الباطل. وهذا ما أتمنى على إخوتنا في الوطن وفي الدين العمل به وأن تكون ليبيا هي قبلة الإصلاح والتأسيس ولا شيء غيرها.

-وجود الكثير من أعضاء الحكومة والمكتب التنفيذي قبله ممن كانوا معارضين لنظام القذافي إلا أنهم بغيابهم طويلا عن الوطن ووجود بعضهم في الدول الديمقراطية والمؤسسة تأسيسا صحيحا وكان عملهم أكاديميا بحتا في دول مؤسساتية، غيّب عليهم كثير من احتياجات وأوليات التأسيس "وهو علم وطني وليس أكاديميا يتطلب الكثير من الحكمة والخبرة العملية المجتمعية والقليل من البحوث العلمية" وجعل البعض منهم منفصمين عن الواقع في معالجتهم لمشاكل في مجتمع دمره الاستبداد من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية والتشريعية فجعلهم كأنهم يرون الوطن من فوق جبل الثلج لا من قاعه المحطّم بالإضافة إلى كون معظم معاونيهم في الإدارة الوسطى هم من تراث النظام القديم الذين تشبعوا بثقافته وسلوكه وفساده.

-رجوع بعض أفراد منظومة ثقافة المؤتمرات واللجان والقيادات الشعبية تحت غطاء المصالحة الوطنية، وما يسمى بالحكماء. وهم الذين تعودوا على معالجة المشاكل بمواعظ كلامية فوقية وعدم القدرة على الخوض في أعماق المشكلة وتحليلها ومن ثم الوصول إلى الأسباب لا النتائج.

-تعثر وعدم جدية الإجراءات المتخذة بخصوص تأسيس جيش وطني وقوة أمنية بعقيدة وطنية وأساليب عمل حديثة وعصرية تتطلب أحيانا بنية نوعية وليس عددية أو تقليدية.

-عدم وجود إدارة محلية فاعلة الأمر الذي ساهم بشكل مباشر وغير مباشر في ترسيخ المركزية المقيتة. والذي جعل الكثيرين من أصحاب النوايا الحسنة وكذلك أصحاب النوايا السيئة يستغلون هذا الأمر للترويج لمشاريع أخرى قد تلحق ضررا فادحا بفكرة تأسيس الوطن واستقراره وأمنه القومي المستقبلي.

-الضبابية وعدم وضوح أمور الصرف المالي وكذلك المدخلات والمخرجات عموما للدخل القومي.. وعدم تلمّس المواطن الليبي لأية خدمات مميزة وجديدة أضيفت للواقع الليبي وبنيته التحتية. فأصبح المواطن الليبي عموما يتساءل وبقوة عن المصروفات والإيرادات وإلى أين تذهب؟

– مال كثير من الليبيين في انتخابات 7/7 إلى التصويت لصالح التيار الوطني الديمقراطي. إلا أن فكرة زعامة هذا التيار بزعامات شخصية كانت قابلة للطعن لأن كثير من تلك الزعامات عملت مع نظام الطاغية رغم جهودهم إبان الثورة ودعمها سهل على الطرف الآخر محاربتها والطعن فيها.

– صحيح أننا تخلصنا من الطاغية إلا أن ثقافته في الإدارة والمركزية المقيتة والاقتصاد لا تزال تعمل الأمر الذي لم توضع له خطط ورؤية ثقافية حتى الآن من قبل مختصين وطنيين لتحول إلى آليات عمل تنقل ثقافة المجتمع ومؤسساته الجديدة من ثقافة استبدادية إلى ثقافة ديمقراطية مدنية والتأكيد على فكرة وثقافة الوطن والمواطنة. لولا رفع الثوار رموز عهد الاستقلال الأول من راية ونشيد لضاعت فكرة الوطن الليبي تماما في ظل شعارات وأيديولوجيات رفعها كثيرون لا يزالون لا يفهمون مطلب الثورة الأساس فصارت الأمور ضبابا لا تستقيم معه الرؤية والمطالب الوطنية.

-تأسيس دار للفتوى في غير وقتها وعدم وضوح اختصاصاتها مما جعلها تشارك في ضبابية الرؤية وخلطها بين الأمور السياسية والأمور الدينية. فبدل أن تكون موجها ثقافيا ناعما لسلوك أفراد المجتمع وأخلاقياته أصبحت مكانا للاستقطاب السياسي والديني. في وقت كان يجب أن نركز فيه على تأسيس الوطن من خلال بناء مؤسسات ديمقراطية مدنية تجمع الشتات لا تفرقه بأية حجة مذهبية أو فقهية خاصة في مجتمع إسلامي متنور لم يترك دينه لا أيام الاستبداد ولا حتى أيام الاستعمار وسيظل.

هذا التحليل يقودنا إلى الاستنتاج أن الأمور قد مالت كثيرا عن أهداف الثورة مما يجعلنا نحاول طرح الحلول:

-ضرورة الدفع بمنظمات المجتمع المدني المدنية الديمقراطية الوطنية لاستيعاب فكر ومتطلبات الثورة الحقيقية والضغط باتجاه فكرة تأسيس الوطن الديمقراطي المدني والذي يسع التعددية الثقافية والسياسية.

-الإسراع في تكوين العدالة الانتقالية لتكون شريكا فعليا في المحاسبة وفي تحقيق المصالحة الوطنية وفي تكوين آليات نزيهة للمراقبة والمحاسبة حتى إسقاط من حادوا عن أهداف الثورة.

-ابتعاد المؤتمر الوطني عن مناقشة مواضيع ومشروعات قوانين لا تمت لإدارة الأزمة بأية صلة وترك الأمور السيادية لتقرر في مشروع الاستحقاق الدستوري والبرلمان القادم.

-التأكيد على أن متطلبات الليبيين هي ليست شعاراتية أو دينية أو غيرها بل متطلبات العيش الكريم العادل وتأسيس وطن به خدمات حياتية يومية مثل الأمن والعدل والخدمات.

-التركيز على الاستحقاق الدستوري ليكون دستورا مدنيا ديمقراطيا يشتمل على أهداف الثورة وعمل آليات لتطبيقه والمحافظة عليه مع اعتبار دستور 51 وتعديلاته مرجعية تاريخية ووطنية.

-يكون تأسيس وطن ديمقراطي اسمه ليبيا يسع الجميع هو الهدف الأسمي وهو محور سياستنا الداخلية والخارجية. وطن مشارك في السلم وفي الإنسانية والتقدم بعيد عن الاختلافات الأيديولوجية والهرطقة بكل أنواعها… مع ضرورة كتابة وثيقة شرف إعلامي تبين الخطوط الإعلامية الوطنية لنبتعد عن كل ما يشتت هذا الهدف ولتظهر من خلالها رؤية المصالح الوطنية الصحيحة والالتفات إلى وضع علاقات دولية محترمة مع الدول الديمقراطية والمتقدمة خاصة أن تلك الدول قد بنت منظومة إنسانية وتشريعية ومدنية داخلية خلال تاريخها الطويل تمنع الفساد وتقلل منه حتى في علاقاتها الاقتصادية مع الدول الأخرى. عكس تلك التي لا تزال تحبو وفي طور التأسيس.

– وحتى لا أكون متجنيا على الجميع أرى ضرورة إعطاء حكومة علي زيدان الفرصة لأنها أتت في ظروف صعبة وأصبحت وظيفتها مزدوجة بل مثلثة وهي معالجة ما تركه نظام الاستبداد من فساد ودمار ومعالجة ما تركته المرحلة الانتقالية من قنابل دخانية واعتبارها من ضمن الأزمات التي تولدت وكذلك معالجة الأزمة الحالية بشرط الالتفات إلى عمق احتياجات المجتمع الليبي ومعالجة الأمور بشكل أكثر حكمة والابتعاد عن السياسات الاستفزازية. فما مر بنا حتى الآن لا يفرحنا كثيرا.

العرب أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى