مارسيلو سڤيرسكي يؤكد أن الصهيونية تتطوّر بهندسة ونشر كل أنواع أجهزة العزْل

يؤكّد مارسيلو سڤيرسكي في كتابه “كتاب ما بعد إسرائيل – نحو تحول ثقافي” الجديد والفريد من نوعه، على أنّه ليس هناك حل سياسي مطروح في الوقت الراهن يمكنه أن يوفّر الماهيّة الثقافية اللازمة لإحداث تحوُّلٍ على أساليب بقاء دولة إسرائيل وسبُل الحياة فيها.

يُناقش سڤيرسكي، المحاضر في الدراسات الدولية في مدرسة الإنسانيات والبحث الاجتماعي في جامعة وُلونغونغ منذ عام 2012، على نحوٍ مثير للجدل، فكرة أن المشروع السياسي الصهيوني غير قابل للإصلاح؛ أي أنّه الوحيد الذي يؤثّر سلباً على حياة المستفيدين منه كما على ضحاياه أيضاً.

بالمقابل يهدف الكتاب إلى إحداث موقف معاكس، يسمح لليهود الإسرائيليين باكتشاف الآلية التي تمكنهم من تجريد أنفسهم من الهويات الصهيونية، وذلك من خلال الانخراط بالأفكار والممارسات والمؤسسات المنشقّة عن تلك الهويات.

أخيراً فإن إنتاج المعدّات والتكنولوجيا العسكرية التي تُساعد إسرائيل على السيطرة على حياة الفلسطينيين، بسياسات الفصل وقوانينه والمساحات المخصصة لليهود وللفلسطينيين، ترتبطُ جميعاً بإنتاج ذوات الصهيونيّة وأنماط وجودها. إن التغلُّب على أنماط الوجود هذه هو “ما بعد إسرائيل”.

ينطلق سفيرسكي من رؤية محددة حيث يقول “نحن نبدأ بحقيقة مزعجة: في أغلب الأحوال، المعرفة الكاشفة عن مظالم ماضية وحالية لا تُطلق استجابات غير مبهمة. في وجه أوصاف، تُفسّر كيف يؤثر الاضطهاد على حياة حقيقية لشعب، قد يتوقّع البعض صدمة وتغييراً في مدارك حالية عن مجتمع.

مع هذا – وعلى نحو عام – يواجه إنسان خيبة أمل – وأكثر من هذا، حين تكون قصصنا الخاصة كجناة في متناول اليد. في حالة القصص الأجنبية، يكون من ضمن إمكانياتنا تطوير بعض التعاطف نحو المتضرّرين، وكضحايا، نكون نافرين من التخلّي عن فكرتنا المستحوذة علينا مع رواية محننا الماضية، التي تصبح – في النهاية – أدوات لجنون الاضطهاد والعظمة والارتياب.

مع أخذ كل الأمور بعين الاعتبار، يفضّل المجتمع أن يمرّر أخطاءه دون أن تُلاحَظ، دون أن يُسمَع عنها. في أفضل الأحوال، هذه الأوصاف تندمج – فقط – لتُرْفَض كمجرد حكايات، حُبكت؛ لتخدم الفكرة/الأيديولوجية الخطأ”.

ويرى في كتابه الصادر عن منشورات المتوسط بترجمة سمير عزت نصار ومراجعته حسام موصللي، “الاضطهاد في إسرائيل، ماضياً وحاضراً، حالة وثيقة الصلة بالموضوع. انظر إلى صناعة المعرفة الأكاديمية الأساسية الحديثة التي تعلّمنا عن الطرق التي يُلَّون بها، ويبقى الامتياز اليهودي في إسرائيل عبر التفكّك الإثني/ العرقي للحياة – الطريقة التي جُرّد بها الشعب الفلسطيني من حقّه في أن يكون له حقوق، خصوصاً بعد عنف سنة 8491 الذي كوَّن، وأدى إلى دستور دولة إسرائيل.

مع هذا، وبالرغم من كل الدلائل الأرشيفية المجرِّمة، الدلائل الإحصائية والفهم الجديد لعلاقات القوة، لا يستطيع الإنسان سوى أن يستغرب كيف تتمكّن عقول مرتكبي الجرم أن تستوعب كل معلومة تُفصِّل اشتراكهم في إنتاج الاضطهاد.

لا يسبّب “أيّ همس في قلوبهم”؛ أي إزعاج. لم تُر أي كارثة على هذا النحو: لا الاستعمار الكولونيالي لفلسطين، نكبة 1948، ولا احتلال الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية منذ 1967، ولا الإقصاء المثابر والبنيوي لمواطني إسرائيل الفلسطينيين. وكما لاحظت أريئيلا أزولاي مؤخراً، تدرّب الإسرائيليون اليهود من قبل النظام على ألا يحددوا هوية الكارثة، ألا “يدركوا هم أنفسهم بأنهم أولئك الذين أوقعوا كارثة كهذه أو أنهم مسؤولون عن نتائجها”، ولا أقلّ من هذا بأن يتعرّفوا على الكارثة بأنها خاصة بهم، مع أنها الكارثة التي تفسّر امتيازهم”.

ويقرر سفيرسكي أن المجتمع الإسرائيلي اليهودي قد لقَّح نفسه بنجاح ضد التفكير الأخلاقي والسياسي؛ وهكذا، ولأن وجود هذا الاضطهاد مدين إلى أفعال إسرائيل من الاضطهاد على الأرض، فإن صناعة المعرفة عن الاضطهاد الإسرائيلي تدور وتدوّم دون أن تثير اهتماماً أخلاقياً.

أصبح هذا النتاج المنطقي جنساً، يُؤخَذ كحقيقة مسلَّم بها، وأن هناك قليلين لا يزالون يقلقون أنفسهم؛ كي يلاحظوه، نجم منهار، ثقب أسود: قدر ما يهمّ هذا المجتمع الإسرائيلي اليهودي، لا تُنزَع هذه الروايات، بل تُدخَل وتُفخّخ في غرف الراديكاليين/ الجذريين العاجّة بالدخان. كان “دولوز وغواتاري” سيعرّفان هذا الخطاب حول تقاليد إسرائيل بالمضطهِدة كخطّ طيران، أخفق – كمقاومة بطموحات راديكالية أُجِهضَتْ ذاتياً.

بكلمات أخرى، مع أن تلك المعرفة مهمّة لفهم علاقات السلطة في المنطقة والتحوّلات المحتملة، أصبحت الرواية حول اضطهاد الإسرائيليين حكاية، لا يَستمع إليها مستمعون إسرائيليون يهود. لذلك، حتى نساعد الناس على الإصغاء، ونلهمهم على التفكير بالتحوّل والشعور به، فإن مجرد كشف أوصاف الاضطهاد الذي أشار إليهم بأنهم هم الأنذال، ليس بكاف قط. ويَنصبُ الناس جدرانَ عقلية وعاطفية ومنطقية لحماية أنفسهم من أن يُحاسَبوا عن أفعالهم. فالإسرائيلي اليهودي، بتحمّله تلك المسؤولية يعني ضغط تقصيراتهم في صورتهم الذاتية، إضافة إلى المخاطرة بخسارة الامتياز، لذلك فبعض الإسرائيليين اليهود يقلّلون – إلى أدنى حد – أهمية العذاب الذي يُتَّهمون بأنهم يسبّبونه، بينما ينشغل آخرون في تبرير أفعالهم.

ويلفت إلى ترك الاستراتيجيين الصهاينة الحبّ؛ ليُوقتوا لا مبالاتهم، مدّعين بأن شريكاً فلسطينياً مناسباً، لم يظهر بعد. وهناك مشكلة ثانية: تقدّم روايات اضطهاد المضطَهَدين مع الأمور المرعبة الواقعة، كأنهم ليسوا مرتكبيها، بل رعايا، سبق، وتجهّزوا، وتلاءموا لإجراء تغيير ما أوقعوه. لكنهم ليسوا كذلك. في تكوينهم الحالي، هم مجهّزون وملائمون لرفض الآمال الإصلاحية لحكاية الاضطهاد. بكلمات أخرى، يبدو لي بأن حكايات الاضطهاد تُفرّق – بالأساس – بين الأمور المرعبة الواقعة عليهم والخواص التاريخية والثقافية لمستمعي هذه الأمور. بكل صدق، إن تحرير رواتهم من الوَهْم هو علامة لعماهم الخاص.

تبدو أن الكتابات التقليدية عن الاضطهاد تفترض وجود ارتباط طفيف بين العمليات التي تصبح بها الممارسات الحقيقية مضطَهِدة والعمليات التي يقوم بها فاعلو هذه الممارسات متكوّنة. نحن في حاجة إلى وسطاء جدد بين مفهومنا للواقع والطرق التي يؤثّر ذلك المفهوم علينا، ونحن في طريقنا إلى الفعل، من البعيد عني أن أدّعي بأنه لم يعد أمراً حاسماً الاستمرار في تسجيل الحاضر، وتكوين مفهوم عن ممارسات الاضطهاد الذي نخلقه، ونتسلّى به. لكنْ؛ إذا هدفنا فعلاً بأن نؤثّر على الإسرائيليين اليهود في تحوّلهم الخاص، فإن هذا العمل العقلي يحتاج إلى حلفاء جدد، وسطاء جدد.

ويضيف سفيرسكي “لكن، مَنْ هو الفاعل، الإسرائيلي اليهودي؟ من الضروري توضيح أن مجموعة واحدة، أو هوية إسرائيلية موحّدة ليس لها وجود. إن الصدع العنصري لمزراحي – أشكنازي، والتقسيم العلماني الديني، وتشكيل التجمّع الجيتوي الذاتي (انغلاقي الذاتية – م) للمهاجرين اليهود وغير اليهود من الاتحاد السوڤييتي السابق، والعنصرية القاسية ضد اليهود الأثيوپيين، والعمليات المتجنّسة التي لا تزال تجمع آلة الصهيونية العسكرية ليست أي شيء سوى شهادة على التجانس اليهودي في إسرائيل.

من المعترف به – على نطاق واسع – بأن الصهاينة البيض أظهروا مواهبهم الاضطهادية، ليس – فقط – ضد غيرهم الخارجيين، بل ضد غيرهم الداخليين أيضاً، وكما صاغتْ هذا إيلا شوحط، لم تخلق الصهيونية ضحايا خارجيين فقط، بل ضحايا يهود أيضاً، اليهود الشرقيين. هكذا، قد لا تتميّز المجتمعات اليهودية في إسرائيل بهويّاتها وتقاليدها المحتفى بها فقط، بل أيضاً، وعلى نحو أكثر أهمية، بوضعهم في المصفوفة التاريخية للثروة والتهميش.

مع هذا، لم تنته هيمنة اليهودية البيضاء قطّ على المستوى المادي. فبدون مزقة من قصدٍ متكاملة، طالبت الصهيونية البيضاء دائماً إذعاناً أيديولوجياً وتنظيمياً كاملَين منذ اللحظة التي أسّست نفسها كمشروع استعماري/كولونيالي في فلسطين. هذه كانت الحالة فيما يتعلّق باليهود السفارديم الذين ظلّوا يعيشون في فلسطين، في الوقت الذي أطلق الصهاينة الأوروبيون مشروعهم الكولونيالي (شطريت- 2102؛ جلعادي – 0991) إضافة إلى ما يتعلق بالمجتمعات اليهودية المهاجرة التي وصلت إلى إسرائيل من البلدان المسلمة، بأعداد كبيرة في أثناء خمسينيات وستينيات القرن العشرين – وشكَّلت – أيضاً – الزيادة العددية للمجتمع اليهودي في إسرائيل بعد 8491.

لذلك، فمثلاً، الرغبة في الحصول على الحصة الأعظم من مجتمع، نتج عن ولاء المزراحيم المتطور للمشروع الصهيوني، بالرغم من نفيهم وتمييزهم الثابت والمتكرّر ضدهم منذ البداية (شطريت 4002؛ حيفر – 2002؛ 6002؛ شوحط 6002)، نسّق ألحانه المذنب الأبيض الذي لفّق محو فلسطينية البلاد خلال 1948. من الصحيح أن نسأل كيف يمكنني الادّعاء بأن أعتبر “الإسرائيلي اليهودي” بطلاً لقصصي”.

ويرى أنه “قد تولَّد مجتمع إسرائيلي يهودي، وتأسّس على أساس عدم توفر تفكير مدني وقيَم مدنية. عدم التوفر هنا لا يعود إلى شيء، يفتقر إليه المجتمع، ويكافح لإنجازه. عدم التوفر هذا هو نتيجة لإنتاج تاريخي وجماعي لمجتمع، نتيجة مواجهات وفرص واختيارات أنتجت أفكاراً مدنية فقط كتفكير مُستَدْرَك. بكلمة مدني، أعني أنا عالم حياة، جُعلت غير متاحة من قِبل العنصرية والعسكرية والعَزْل. يرجع – على نحو حميمي – كونها غير متاحة ثقافياً حتى يُلعَبَ بها، يرجع إلى مدى وجود الذاتيات المهيمنة في المجتمع الإسرائيلي.

ويوضح سفيرسكي “من أيام هجرة الصهاينة الأوروبيين المبكّرة إلى فلسطين عند بداية القرن العشرين حتى الوقت الحالي، تطوّرت الصهيونية باستمرار بهندسة ونشر كل أنواع أجهزة العزْل؛ وعلى نحو أبرز، رسمتْ هذه الأجهزة خطوطَ تقسيم عِرْقي قومي بين اليهود والفلسطينيين وخطوطاً عنصرية طبقية بين الأشكنازيم والمزراحيم. نتيجة لهذا، أُزيل طموح حياة، يشترك فيها اليهود والفلسطينيون، إمكانية مجتمع مجرَّد من العسكرية، رؤية العنصر والجنس (ذكر وأنثى – م) ضمن المجتمع الإسرائيلي اليهودي، سعة التفكير النقدي والفعل المركَّب، العاطفة نحو الديمقراطية، الاستعداد للمشاركة بالتاريخ، الفهم الدولي للمعاناة – كل هذه أُزيلت كفرص واحتمالات، يمكن تحقيقها، تعمل من أجل أساس مجتمع.

لقد أُزيلت حتى إنها لم تعد قادرة على أن تدخل منطقة الاعتياد. إن فعل فرز يجري العمل به هنا، بين هذه الاحتمالات وشكل حياة طبعتها الصهيونية على رعاياها المتنوّعين. إنه فرز تاريخي وضع حياةً مدنية في خانة عدم الإتاحة، ووضع الشروط لإنتاج هويات وشخصيات اجتماعية. بصياغة هذا ببساطة. تركّز الهويات الاجتماعية الصهيونية نفسها على إقصاء هذه الاحتمالات.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى