ما لا يُقال لـ«حزب الله» (ربيع بركات)

 

ربيع بركات

أخطر ما في الحرب السورية أنها ولاّدة لأنماط من التطرف التي تخلق لنفسها هوامش وديناميات خاصة. لا أحد بمنأىً عن ظواهر ناتئة في الحروب الأهلية، حتى لو فاخر بانضباطيته التنظيمية، و«حزب الله» ليس استثناءً على القاعدة، وإن كان كذلك، فلكل استثناء حدود.
يجهد «حزب الله» لحصر تداعيات انخراطه في معارك بلاد الشام. لا يصرف جهداً كبيراً لصد الحملات الإعلامية عليه، لعلمه بتفوق خصومه في هذا المجال، وقبل هذا وبعده، ليقينه بأن الكلمة العليا للميدان وما يثبت بالسلوك الملموس فيه.
غير أن السلوك المتصل بسوريا بات يخرج عن ضوابطه المرسومة أصلاً، أو تلك التي يُفترض بها أن تكون. والقضية هنا تتصل بتجاوزات بدأت تظهر ويسهل اتساع بقعتها في حال لم تعالج بحزم، وأولاً بأول (للمرء أن يتابع بعضها عبر الفيديوهات المسربة). إذ إن ترك الأمور تستفحل بالتراكم، وإلقاء الحبل على غاربه بحجة ضرورات المعركة وربطاً بمقولة أن لا صوت يعلو فوق قرقعتها، كفيلان بإيذاء «حزب الله»، ليس من الخارج فحسب، بل من داخل بيئته أيضاً.
يحتاج «حزب الله» إلى صياغة خطاب واضح فيما يخص المسألة السورية وارتباطه بها. ثمة خلل في تسويق سرديته للقضية يعود جزء منه إلى ضعف منطقه في مراحل الحراك الأولى. وعلى الرغم من جسر الهوة، أو قدر منها، مع بعض جماعات المعارضة السورية الديموقراطية لاحقاً، إلا أن مقاربته للمسألة ظلت أسيرة بعدٍ يتصل عضوياً بمسألة المقاومة، من دون إظهار حساسية لأبعاد المسألة الأخرى، التي تخص قسماً عريضاً من السوريين تحديداً.
وقد أضيفت إلى مسألة «المقاومة» قضية التطرف والعنف العقائدي اللذين يدمغان كبرى الفصائل المسلحة في سوريا، وهي قضية تكاد تكون وجودية بالنسبة لجماعات أهلية واسعة في المشرق، لا يمكن حصرها بما اصطلح على تسميته بـ«الأقليات»، بل تتجاوز ذلك إلى كل من يعارض العمل تحت سقف القوى الأصولية أو العيش في كنف إماراتها.
وبالرغم من مسؤولية الحل الأمني الكبيرة للنظام عن نمو ظواهر التطرف (إلى جانب عوامل أخرى، خارجية بالدرجة الأساس)، فقد أضحت الظواهر تلك حقيقة لا مجال لإنكارها. بيد أن الركون إلى وجوب دفع المخاطر المتولدة عن التطرف أُسس على مخاوف الأقليات أكثر مما رَكز على ما يتجاوز جماعات أهلية بعينها. وهذا ما أعان، وما زال، على رسم حدود تفيد في تثبيت البيئات الحاضنة لـ«التطرف» بدلاً من تقليصها.
وبغض النظر عن حسابات الحزب وظروفه ومحدودية قدرته على حفظ مسافة عن النظام السوري، فإن التحدي لديه لم يعد يرتبط بعلاقته بمحيطه الأهلي المتأزم فحسب، بل يبشر بخطر تولد إشكالات داخل بيئته ذاتها.
فلنتخيل أن الحرب السورية استطالت لسنوات قادمة، ولنتصور تداعيات ذلك على أجيال المقاتلين داخل «حزب الله» نفسه: ما الذي يعنيه أن يكون جيل من مقاتلي الحزب ممن شارك في الحرب مع إسرائيل العام 2006، فيما جيل آخر قاتل في سوريا؟ المقارنة بحد ذاتها تستدعي التوقف. وإن كان للقضية ضرورات، فهذا يزيد أعباء تبيانها.
وللحديث عن بيئة «حزب الله» نفسها دواع موضوعية /علمية لا علاقة لها بالموقف أو المقاربة أو الرؤية الإستراتيجية برمتها. ويجوز عقــد المقارنــة هــنا مــع الحــراك الســوري، مع أخذ الفارق في التنظيم والانضباط في الاعتبار. فالحراك الذي بدأ متنه مدنياً، تحول مع العسكرة (مدفوعة بعنــف النظام) ودعوات التدخل الخارجي إلى الهامش، فيما احتلت هوامش التطرف متنه وفاضت عليه لتضرب خارج الحدود السورية نفسها.
«حزب الله» يقف اليوم على حافة مشابهة. والانزلاق عن الحافة مسألة وقت إذا ما قدر لبعض المسارات داخل بيئته أن تأخذ مداها.
ولا يتعلق الأمر هنا بما يُقال عن «الحزب» كجزء من أدوات الحرب عليه.
فقد حاول ناشطون في المعارضة السورية على مدى الأشهر الماضية، على سبيل المثال، تسويق مقارنة بين «حزب الله» و«داعش». وعمم بعضهم على وسائط التواصل الاجتماعي تسميات كـ«حالش» (حزب إيران في لبنان والشام)، في محاولة منهم لرسم موازيات تعبيرية تسهّل تنميط الصورة، فيما عمدت بعض وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة إلى نسج تماثلات متخيلة بين الحالتين. غير أن المحاولات تلك بدت هزلية إلى حد بعيد، ففاتتها بديهيات لا تحتاج إلى تمحيص حتى يتبين هزالها. فلم يُعرف عن «حزب الله»، مثلاً، أنه قطع الرؤوس وطبق الحدود وفرض الجزية على غير المسلمين، ولا أنه أعلن حروب الردة على المخالفين في أصقاع البلاد.
وقد تزامن مع هذه المقارنات تعويم لـ«جبهة النصرة»، مصدِّرة الانتحاريين إلى لبنان، كفصيل «معتدل»، فحصل ذلك مباشرة أو مواربة. وأضيف إلى الصنفين الأولين (المسوِّق المباشر والموارب) من صفّق لـ«النصرة» على غفلة منه. وفي الحالات الثلاث كان الدعم يأتي مؤخراً على شاكلة حماسة منقطعة النظير للمقاتلين في يبرود ومحيطها، وهما اللذان يتقاسمهما تنظيما «النصرة» و«الجبهة الإسلامية»، مع وجود ضعيف لجماعات أخرى ينتمي بعضها إلى «الجيش الحر».
لكن الثابت في المحصلة أن التسويق الدعائي الذي وضع «داعش» على قدم مساواة مع «حزب الله» وجمّل «النصرة» في المقابل، كان ذا مستوى رديء، وأن مخيلة قسم من المعارضين، كما ظهر، باتت تعاني من إدقاع وترهل يزدادان وضوحاً مع مرور الوقت، ويشبهان ذاك الذي يعتور أجهزة الإعلام الرسمية السورية التي لطالما هزئ المعارضون منها على مدى الأعوام الثلاثة الماضية.
بيد أن الخلاصة، بناء على ما تقدم، تفيد بأمرين: ثمة ما لا يُقال لـ«حزب الله» بحجة أن الظروف لا تسمح بذلك، وثمة ما يُقال عنه بغرض استيفاء متطلبات المعركة ضده. الفارق بين المسألتين بيّن وكبير. وما لا يُقال لـ«الحزب» لا يرتبط بالضرورة بالحرص على التنظيم نفسه بقدر اتصاله بالحرص على تجربة راكمت ثلاثين عاماً من الخبرات المقابلة لتفوق «إسرائيل».
يبقى القول إن النقد ليس مقتلاً لموضوعه. بيد أن ضموره يمكن أن يكون.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى