تاريخسلايد

ما هو اتفاق 17 أيّار؟ حتى لا ننسى

كلُّ ما نسمعه عن اتفاق 17 أيّار هو إمّا غير دقيق أو غير صحيح أو هو من مخيّلة من لم يكن متابعاً للمفاوضات التي أدّت إلى الاتفاق الرسمي (ثاني اتفاقية سلام بين إسرائيل ودولة عربيّة). والذاكرة التاريخيّة يُعاد صوغها في زمن التحالف الخليجي مع إسرائيل (النظام القطري يتعاطف مع أوكرانيا في سنة أكثر مما تعاطف مع شعب فلسطين وليس مستبعداً أن تكون أنظمة الخليج تقدّم مساعدات عسكريّة سراً لأوكرانيا. والعيون الزُّرق والشعر الأشقر يُفتنان حكام الخليج). اتفاق 17 أيّار كان إعادة رسم للميثاق الوطني والدستور اللبناني. كان الاتفاق خروجاً شبه رسمي للبنان من الجامعة العربيّة، وهو ذهبَ أبعد من اتفاق السلام المصري-الإسرائيلي بكثير. من دون مبالغة، لقد اعتنق لبنان الرسمي الصهيونية من خلال الاتفاقيّة وقبول توقيعها. والانخراط اللبناني في الصهيونية كان متعدّدَ الطوائف. صحيح أن الرئيس اللبناني الماروني كان قبل الطائف حاكماً مستبداً لكن كانت هناك مشاركة من زعماء مسلمين متنوّعين: مثل شفيق الوزان وكامل الأسعد ورجال دين من كل الطوائف، وخصوصاً المارونية والشيعيّة. اتفاق 17 أيّار دليل على قدرة أي محتل على تغيير الثقافة السياسية والشعبية لبلد ما بسرعة هائلة إذا كان هناك فريق متعاون مع الاحتلال الأجنبي. هذا جرى في أوروبا خلال الحكم النازي وجرى في لبنان. الإعلام اللبناني شارك في مسرحية التطبيع يومذاك.

لقد أصدرت الحكومة اللبنانيّة في أيّار 1983 «كتاباً أبيض» بعنوان «وثائق اتفاق جلاء القوات الإسرائيليّة». وفي متن الكتاب تقرأ ما يناقضُ كل ما يُقال اليوم عن الاتفاق من قبل 14 آذار (بيمينه ويساره وتغييريّيه—أي فريق السعودية والإمارات بينكم). لم يكن الاتفاق هو «اتفاق جلاء» القوات الإسرائيليّة كما يُشاع. لا، كان ببساطة استسلاماً قانونياً من لبنان لإسرائيل وضمّ لبنان إلى صف حلفاء إسرائيل حول العالم. في اتفاق 17 أيّار جاهرَ الحكم في لبنان بما كان مُضمراً من عام 1948 حتى عام 1983: أن لبنان كان معادياً لشعب فلسطين وقضيّته ومناصراً لإسرائيل ومواطنيها من غير العرب. لا نعلم الكثير عن ملابسات التحضير للاتفاق وعن تشكيل الوفد اللبناني في المفاوضات. يقول شهود عيان من تلك الفترة إن الوفد العسكري الذي كان يذهب إلى فلسطين المحتلّة كان يضمّ خليطاً طائفياً للصور. لكن عندما كانت تبدأ المفاوضات كان يشارك فيها فقط ضباط من طائفة واحدة لأن نظام أمين الجميّل لم يثق بضباط باقي الطوائف مع أن بعضهم كان معتنقاً الانعزالية.

كيف أصبح السفير (المتقاعد) أنطوان فتال رئيساً للوفد اللبناني؟ هل كانت كتاباته بالفرنسيّة في ذم الحضارة الإسلاميّة مرتبطة بتعيينه مثلاً؟ لا نعلم بالتأكيد إذا كان مثل إلياس ربابي يمثّل لبنان في عواصم مختلفة ويتواصل مع الدبلوماسيّين الإسرائيليّين فيها. لكنّ خطابه في افتتاح حفلة 17 أيار كافٍ كي نعلم الكثير عنه. ماذا قال في جلسة الافتتاح يوم 28 كانون الأول 1982؟ قال للإسرائيليّين إن لبنان «محبٌّ للسلام بطبيعته وتقاليده». قال ذلك فيما كانت قوّات الاحتلال الإسرائيلي تطلق الرصاص عشوائياً على أهل الجنوب وكانت تحرق البساتين كي لا يختبئ فيها مقاومون. ويعترف فتّال للمرة الأولى منذ 1948 بأنّ لبنان كان يكذبُ عندما كان يوقّعُ على اتفاقيات الدفاع العربي المشترك، إذ يقول بالحرف: «وقد رفض لبنان باستمرار اتخاذ المواقف التي كان يمكن أن تستدرجه إلى نزاعات مسلّحة أو تهدد سلامة حدوده». هنا اعتراف صريح بعقيدة فؤاد شهاب العسكريّة-السياسيّة: أن لبنان لم يكن يحترم توقيعه منذ 1948 على الاتفاقات العسكريّة العربيّة وأنه كان ينسّق سراً مع إسرائيل لنبذ التزاماته العربيّة كافةً.

ويذكّر فتال بتوقيع لبنان على اتفاق الهدنة ويقول عنه: «وقّعَ لبنان من غير تحفظ اتفاق الهدنة مع إسرائيل». ويجب التنويه بأن المراجع العبريّة أوردت في السنوات الماضية تفاصيلَ عن جلسات اتفاق الهدنة وكيف أن الضابط المسؤول، المقدّم توفيق سالم، فاجأ الضباط الإسرائيليين بالقول: «نحن لسنا عرباً». ويرد في كتاب «المتاهة اللبنانيّة» كيف أن عضوَي الوفد اللبناني (الدبلوماسي المدني، محمد علي حمادة والعسكري سالم) بحثا التطبيع مع إسرائيل لكن من خارج أجندة ومحضر الاجتماع وأصرّ أعضاء الوفد على تقديم واجب الضيافة للوفد الإسرائيلي (حتى الساعة يرد في موقع الجيش اللبناني على الإنترنت دراسة عن اتفاقية الهدنة بقلم العميد الركن المتقاعد، رياض شيا، يرد فيها أن التزام إسرائيل باتفاقية الهدنة بين 1949 و1967 كان «مقبولاً بصورة عامة». كان ذلك يوم كانت قوات الاحتلال تخترق الحدود متى تشاء وتقتل على الحدود من تشاء ويوم أطلقت النار على طائرة مدنية لبنانيّة في 24 تمّوز من عام 1950). يقول فتّال لأعضاء الوفد الإسرائيلي إن لبنان وقّع اتفاقيّة الهدنة «من غير تحفّظ» وإن للاتفاق «طابعاً دائماً ونهائياً». كيف يكون اتفاق هدنة دائماً ونهائياً إلا إذا كان فتال يقصد أن لبنان تحلّل من أي التزام عربي بالقضية الفلسطينية منذ أن وقّع الاتفاق وأن أي عدوان إسرائيلي ضده وضد أي بلد عربي لم يكن سيؤثر على التزام لبنان باحترام احتلال إسرائيل لفلسطين.

ويختلف فتّال مُحقاً مع إسرائيل في أن لبنان لم يخرق اتفاق الهدنة في عام 1967. لبنان لم يناصر الدول العربيّة الثلاث في حرب 1967 لا بل إنه أرسل تطمينات سريّة من شارل حلو في أنه ليس في وارد مساندة العرب، وإنه على الأرجح يتضرّع لنصر إسرائيلي مبين. فتّال يذكر أن لبنان «لم يعلن الحرب على إسرائيل في عام 1967 ولا خاضها ولا قام بأيّ أعمال عسكريّة» (وحدث الشيء نفسه في حرب 1973). ويتنصّل فتّال من الوجود الفلسطيني في لبنان ويقول: «الوجود الفلسطيني على أرضنا الذي كان مصدر اضطرابات خطيرة لم يكن لبنان مسؤولاً عنه». لم يذكر فتّال مَن الذي كان مسؤولاً عن الوجود الفلسطيني على أرضه ولم يذكر أن الاضطرابات الخطيرة التي يتحدث عنها لم تكن إلا مجموعة من أعمال العدوان الإسرائيلي على لبنان، من خارج اتفاق الهدنة.

لكنّ كلام فتّال الترحيبي بالصلح مع إسرائيل لم يعجب المفاوض الإسرائيلي، ديفيد كيمحي، خرّيج «الموساد» (طبعاً، لم تعترض حكومة لبنان المرتهنة لإسرائيل آنذاك على رئاسة موسادي للوفد الإسرائيلي التفاوضي). وهذه عادة المفاوضين الإسرائيليّين مع العرب. عليهم أن يهينوا ويذلّوا المفاوض العربي أمام الإعلام لترسيخ الاستعلاء العرقي والديني والحضاري. أذكر في قمّة الإسماعيليّة بين مناحيم بيغن وأنور السادات كيف ردّ بيغن على السادات عندما قال بتردّد وخنوع (الخنوع المعروف عنه في حضرة الغربيّين والإسرائيليّين وحاملي حقائب المال من الخليج): إن أرض مصر مقدّسة. ما كان من بيغن إلا أن صاح به أمام الإعلام وبلهجة خطابيّة: ونحن أرضنا مقدّسة، وكان يعني بها فلسطين. وفي خرق للبروتوكول الدبلوماسي، استهلّ كيمحي خطابه الافتتاحي بالقول: «أودّ أن أختلف مع سعادة رئيس الوفد اللبناني البروفسور أنطوان فتّال حول قضيّة اتفاق الهدنة الذي أشار إليه في كلمته الافتتاحية». ذكر كيمحي أن «زعماء لبنان في ذلك الحين (أعلنوا) تضامنهم مع الجيوش العربيّة، ورفضوا مقابلة ممثّلين عنا». طبعاً، لا نعلم عن ملابسات طلب الاجتماع بين الإسرائيليّين واللبنانيّين في تلك الفترة لأن لبنان لم يكن يُعلن عن التواصل غير المنقطع بين الرئاسة اللبنانيّة وبين حكومة العدوّ (كان الديبلوماسيّون الأميركيّون يذكرون في مذكراتهم الدبلوماسية الرسمية أن لرئيس الجمهوريّة قنوات تواصل سريّة مع إسرائيل، وكان رجال الدين الموارنة هم القناة في الكثير من الأحيان، من خلال تلك الزيارات «الرعوية» التي بتنا نألفها من خلال زيارات المطران موسى الحاج وحقائب المال التي يجلبها من فلسطين). أي أن كيمحي يعترض على الدعم اللفظي، فقط اللفظي، الذي كان لبنان يعبّر عنه نحو الجيوش العربيّة من دون أن يقدّم أي عون لها. وبالرغم من أن الوفد اللبناني أراد أن يزعم (خلافاً للمنطق) أن اتفاق التطبيع مع إسرائيل يعتمد على اتفاقية الهدنة، فإن كيمحي صحّحَ لفتّال واعتبر أحكام الهدنة «مُلغاة المفعول». وتذكّر كيمحي أن يذمّ باتفاق القاهرة «مع المخرّبين» ولم يعترض واحد من الوفد اللبناني المتعدّد الطوائف على التعبير الذميم عن الفلسطينيّين. كما أن الوفد اللبناني لم يصحّح لكيمحي عندما زعم أن الاجتياح الإسرائيلي (قبل أشهر فقط من الاحتفال التطبيعي) والذي قتل أكثر من 20 ألف لبناني وفلسطيني وسوري، كان موجّهاً فقط ضد «المخرّبين». كرّر كيمحي وصفه للفلسطينيّين بالإرهابيّين والمخرّبين، ولم يعترض أي من العرب المفترضين على ذلك.

ومنذ البداية طمح الوفد الإسرائيلي إلى تحقيق مستوى من التطبيع لم يصل إليه أي نظام عربي من قبل (قبل الإمارات والبحرين أخيراً). لم تمنع اتفاقيات السلام بين إسرائيل ومصر والأردن، مثلاً، الإعلام الأردني والمصري من التعبير عن العداء لإسرائيل. هذا لم يحدث قطّ قبل التطبيع الإماراتي البحريني. لكن أصرّ الوفد الإسرائيلي منذ أول اجتماع وضع بند «إنهاء الحملات الدعائيّة» بين البلديْن كبند في بنود التفاوض للاتفاق عليه. وهذا ما خلصَ إليه الاتفاق بعد توقيعه (الاتفاق وُقِّعَ، بالمناسبة، من قبل الوفد اللبناني في احتفال رسمي تخلّله شرب أنخاب وتقديم حلويات نظراً إلى ما يتمتّع به شعب لبنان من الصفات المضيافيّة الحسنة).

وفي ختام المفاوضات توجّه كيمحي إلى الشعب اللبناني نفسه ونطقَ باسمه. هنا تبرز فداحة التخاطب والمفاوضة مع عدوّ عنصري يعادي وجودك بحد ذاته: إنك تسمح له بإهانتك لأنه يسمح لنفسه ما يحرمه عليكَ. وقف كيمحي أمام الإعلام وقال: «إن شعب لبنان الذي أثبت قوة تصميمه من خلال الشخصيّة المميّزة منذ أيام الفينيقيّين، يدعم هذا الاتفاق تماماً مثلما يدعمه شعبنا». طبعاً، الاستعانة بالفينيقيّين ضروريّة لأنه أراد أن يفصم الهويّة اللبنانيّة عن العربيّة في ظل حاكم كتائبي للبنان. أكثر من ذلك: وقف كيمحي وذمَّ مرة أخرى «المنظمة الإرهابيّة» في حديثه عن الحركة الوطنية الفلسطينيّة، وذمَّ في حديثه أيضاً ياسر عرفات وحافظ الأسد. لم يردّ الوفد اللبناني، بالطبع، على كلامه. إن سيرة الوفود العربيّة المتفاوضة مع إسرائيل ليست سيراً وطنيّة أو مُشرّفة، لكنّ الوفد اللبناني في مفاوضات 17 أيّار من أقلّها حرصاً على الكرامة والسيادة والعزّة والوطنيّة. وقفَ أعضاء الوفد اللبناني أمام الوفد الإسرائيلي مثلما يقف التلاميذ أمام المعلّم، ومن هذا يجب الغوص في تاريخ السيرة الذاتيّة لأنطوان فتال الذي أراده الإسرائيليّون مفاوضاً عن لبنان (مع أن المسألة ليست شخصيّة لأن الوفد اللبناني والحكومة اللبنانيّة ومجلس النواب، باستثناء نجاح واكيم وزاهر الخطيب، متورّطون وضالعون في هذه المسيرة المهينة. ولا يجب أن ننسى أن غسّان تويني كان «المنسِّق العام» لهذه المفاوضات وكان من أشدّ المتحمّسين لإنهائها من أعضاء الوفد اللبناني).

ردّ أنطوان فتّال على كلام كيمحي (الذي توجّه إليه بكلمات إطراء شخصيّة) بالاعتراف أنه تشرَّفَ بتوقيع اتفاق الخيانة الوطنيّة (هي خيانة بأيّ معيار من المعايير. الدولة الواقع بلدها تحت الاحتلال تقرّر أن تعقد اتفاقية استسلام مع دولة جيش الاحتلال). ولم ينسَ فتّال أن يسشتهد، كما كيمحي، بالعهد القديم، لأن دولة لبنان قبل الطائف كانت تعتبر أن سكان لبنان هم حصراً مسيحيون ويهود فقط (مع أن فتّال في خطاب ختام المفاوضات يقول إن ديانات لبنان هي حصراً «المسيحيّة والمحمديّة واليهوديّة»، أي أن العلويّين والدروز والبهائيّين ليسوا معتبرين). وقال فتّال للحضور إن مجموعة مصالح تربط لبنان بـ«جيرانه»، وهنا هو يقصد إسرائيل ويقصد بكلامه الصهيونية كمجموعة المصالح. وقال فتال خانعاً إن لبنان لا يطلب «انتصارات في ساحات المعارك» أي أنه يدعو إسرائيل لارتكاب المزيد من المجازر على أرض لبنان لأن لبنان ليس في وارد الدفاع عن نفسه. وأضاف فتّال أن الالتزام بالسلام والتطبيع مع إسرائيل ليس من أجل أن «نحرّر أرضنا من الاحتلال». لا، إن تحرير الأرض هو آخر هم الفريق اللبناني المفاوض، والذي تقمّصه في ما بعد فريق 14 آذار الذي لا يزال جاثماً في نصرة إسرائيل في لبنان.

وفي مقدّمة «الكتاب الأبيض» (الذي يجب أن يُعاد طبعه كي تطّلع أجيال لبنانيّة جديدة على أثمان عدم مقاومة إسرائيل) تحمِّل حكومة لبنان بصورة رسميّة صفيقة منظمة التحرير الفلسطينيّة المسؤولية كاملة عن مجازر إسرائيل في لبنان، إذ تقول المقدّمة إن وجود الشعب الفلسطيني الثائر «أدّى إلى استدراج إسرائيل لنقل الحرب إلى داخل الأراضي اللبنانيّة». أي إن إسرائيل كانت جارة نائمة مسالمة، مثل الحمل الوديع على حدودنا، فإذ بالضبع الفلسطيني يستفز هذا الحمل ويفقده صوابه. لقد عيلَ صبرُ عدوّنا المسالِم.

واتفاقيّة 17 أيّار تناقض وعود الحريات المنصوص عليها في الدستور اللبناني، إذ تقول في المادة 4، القسم ألف: «يمتنع كل من الفريقيْن عن القيام أو الحثّ أو المساعدة أو الاشتراك في تهديدات أو أعمال حربيّة أو هدّامة، أو تحريضيّة أو عدوانيّة أو الحثّ عليها ضد الفريق الآخر، أو ضد ممتلكاته». أي إن الوفد اللبناني التزم بمنع أي تعبير عن تعاطف مع شعب فلسطين وحظّر أي كلام معادٍ للصهيونيّة ولاحتلال وعدوان إسرائيل. والذي عاش في تلك الحقبة يدرك أن حكومة أمين الجميل غير الشرعيّة بدأت بتنفيذ هذا البند من الاتفاق بمجرّد أن نصَّبَ جيش الاحتلال بشير الجميّل وأخاه من بعده. ويكرّر إيلي سالم هذا البند في خطابه أمام المجلس النيابي إذ يقول، بوقاحة، «يمتنع كل من الفريقيْن حسب البند الخامس عن القيام بحملات إعلاميّة ضد الآخر. إن التزامنا في هذا البند هو التزام حكومي. ولذلك يُنتظر من الإعلام الرسمي ألا يقوم بحملات إعلاميّة ضد إسرائيل أو يحرض الشعب ضدّها». لنتخيّل أن لبنان التزمَ، وهو واقع تحت الاحتلال، بأنه سيلتزم بمنع أي آراء تصدر ضد الاحتلال.

وفي ملحق الترتبيات الأمنيّة (القسم دال) لحظ الاتفاقُ دمجَ ميليشيا إسرائيل في جنوب لبنان من ضمن الجيش اللبناني. وحتى فرق الزعران («كما يدمج الحرس المدني المحلّي القائم حالياً في «الأنصار» ويمنح الصفة المناسبة… لتمكينه» من حراسة أمن احتلال إسرائيل). واتفاق السيادة هذا يفرض (القسم حاء) على الحكومة اللبنانيّة إخطار دولة العدوّ «إشعاراً مسبقاً بجميع الرحلات الجويّة من أي نوع كانت فوق المنطقة الأمنيّة» التي ترتئيها إسرائيل في أرض لبنان (كما يفرض الاتفاق في الفقرة 2، زين، حظراً على الملاحة المدنية في منطقة تحدّدها إسرائيل للبنان). وفي هذه المنطقة يُمنع على الجيش اللبناني نشر قوات أو تجهيزات من دون أن تخضع لموافقة من جيش الاحتلال الإسرائيلي. أمّا البحرية اللبنانيّة فإنها ستتدخّل إذا ما اشتبهت إسرائيل بأي سفينة عابرة.

أمّا الوزان، كما كامل الأسعد، فشكّلَ الغطاء الإسلامي لقرارٍ اتخذه حزب الكتائب منفرداً ومتفرّداً، بالمعنى السياسي والطائفي. لكنّ الوزّان قال إن الاتفاق لا يخلّ «بالدفاع العربي المشترك». يبدو أن الوزان، الذي كان يسير بما يُطلب منه مقابل وسائل غير روحيّة، لم يقرأ الاتفاق الذي يقرّ بأن مضمون الاتفاق يلغي حكماً كل ما يتناقض معه (لكن الوزان عندما سألتُه في منتصف الثمانينيات عن تجربته في الحكم مع أمين الجميّل كان يقول لي بصوت ضعيف: لم يكونوا يُطلعونني على ما يقومون به. طبعاً، لم يستقل احتجاجاً لو أنه اعترض بحقّ).

أمّا إيلي سالم في خطابه أمام المجلس النيابي فينوّه بأن الاتفاق يمنع الاعتداءات من الطرفين، كأن لبنان كان يعتدي على إسرائيل عبر السنوات وكأن جيش لبنان كان يقوم بعمليّات فدائيّة ضد إسرائيل من عام 1948 حتى عام 1983. ويكرّر إيلي سالم كلام المسؤولين الإسرائيليين عن براءة إسرائيل وأن جرائمها في لبنان لم تكن إلا بسبب «العمل الفدائي الذي أدّى إلى هجمات إسرائيليّة عنيفة». كان على سالم أن يضيف أن وجود الشعب الفلسطيني على أرض أجداده في فلسطين هو الذي تسبّب في جرائم القوات الصهيونية في حرب 1948. ويُطمئن سالم إسرائيل بالقول «إن لبنان…حريص على سلامة جيرانه».

ويقول إيلي سالم إن لا ضيرَ من منع إسرائيل لبنان من اقتناء صواريخ متطورة ضد الجويّات أو معدات إلكترونية متطورة لأنه «ليس بنية جيشنا أن يعتمدها». هو يقول إن من حق إسرائيل اشتراط ما نقتنيه من سلاح لأنه ليس في نيتنا الدفاع عن أرضنا بوجه عدوان إسرائيل. ويتناسى الذين يتغنون باتفاقية 17 أيّار أنها سمحت للقوات الإسرائيليّة بالتنزه في لبنان ورصد من يزعجها متى أرادت، لكن إيلي سالم يسوِّغ ذلك بالقول إن ذلك أفضل من وجود إسرائيل بكثافة، ووعد بألا يكون الوجود الإسرائيلي مستفزّاً. والطريف أن لبنان طلب من باب المعاملة بالمثل السماح لقوات لبنانيّة بالوجود في فلسطين فما كان من الوفد الإسرائيلي إلا أن ضحك بوجه الوفد اللبناني. ويطلب سالم من الشعب اللبناني التعبير عن امتنانه للوفد اللبناني لأن الحكومة اللبنانية رفضت آنذاك عقد المفاوضات في القدس المحتلّة، يا للنصر المبين. ووصف سالم الكرامة الوطنية بـ«الفارغة» وطمأننا أن ليس من حتميّة لنيّة إسرائيل في ضم جنوب لبنان.

كان يجب بعد تحرير لبنان جرّ كل أعضاء الوفد اللبناني في المفاوضات، وكلّ من تبوّأ منصباً رسمياً في 17 أيّار، إلى محاكمة لما ألحقوه من ضرر من خلال تفريط فظيع في الحقوق والسيادة والكرامة الوطنيّة. لكن تاريخ تلك المرحلة لم يُكتب بعد لأن 14 آذار نجحت في ضخ سرديّة حزب الكتائب واعتمادها تاريخاً رسميّاً للبنان، وخصوصاً أن قادة الحركة الوطنيّة إمّا ابتيعوا من قبل رفيق الحريري وأنظمة الخليج أو هم نيام يخافون كشف وجوههم أمام الملأ.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى