كتب

محمد الحجيري على «أطلال رأس بيروت»

ساري موسى

كثيرةٌ هي الروايات التي اتَّخذت من منطقة رأس بيروت فضاءً مكانيَّاً لها، ولم يقتصر كُتَّابها على اللبنانيين فقط.

 

كان بعضهم من العرب، ومنهم من أقام فيها كالسوري ياسين رفاعية (له رواية بعنوان «رأس بيروت»)، ومن كان يزورها باطّراد، حتى في مدة الحرب الأهلية، كالمصري الراحل أخيراً صنع الله إبراهيم (كتب عن المدينة في مدة الحرب في روايته «بيروت بيروت»).

وما أسهم في تشكيل الرمزية العربية والمكانة الحالية لهذه المنطقة، التي تُعدّ الأشهر في العاصمة اللبنانية، هو مجموعةٌ من الأحداث عبر التاريخ، منها رفض السلطات العثمانية منح القس الأميركي دانييل بلس موافقةً على تأسيس جامعةٍ في دمشق منتصف القرن التاسع عشر، ما دفع به للمجيء إلى رأس بيروت وتأسيس «الكُلِّيَّة السورية البروتستانتية»، التي أصبحت تُعرَف اليوم بـ«الجامعة الأميركية»، وكذلك وجود شارع الحمرا ذي الطابع الثقافي، مقصد السياح العرب منذ عقود، بمقاهيه ومكتباته ومقرَّات دور النشر فيه، إضافة إلى تسامح أهلها الذين استقبلوا النازحين والمهجَّرين، من العرب وغير العرب. ومن بين هؤلاء الأخيرين الأرمن، الذي افتتحوا مصالح متعددة وعملوا فيها بإتقانٍ كعادتهم، قبل أن تُهجِّرهم الحرب الأهلية من جديد إلى مناطق أخرى في بيروت.

رواية تؤرّخ اندثار المكان

يمرُّ الكاتب محمد الحجيري على كل ما سبق في روايته «أطلال رأس بيروت» الصادرة أخيراً عن «دار رياض الريس». ما تُعنى به هذه الرواية، وهو ما يُحيلنا إليه العنوان، تأريخ اندثار عدد من المعالم البارزة في هذه المنطقة في السنوات الأخيرة، بسبب تتالي الأزمات الاقتصادية، وتغيُّر نمط الحياة في البلاد، وابتعاد اهتمامات الأجيال الجديدة عن اهتمامات آبائها. فالمكتبة أصبحت متجر ألبسة وأحذية، والمقهى فرعاً لأحد المصارف التي سرقت مال المودعين في وقتٍ لاحق.

ارتباط عضوي بين المكان والبشر الذين يعيشون فيه

 

 

ساكن العاصمة اللبنانية، والمُحبّ المتابع لأخبارها، سيقرأ في الرواية الكثير من الصفحات التي سبق أن قرأها في الصحف. التأريخ همُّ الكاتب كما قلنا، أما التأليف فليس له المكانة الأولى. إلى جانب الأمكنة التي نعرفها، مثل «بار شي أندريه» الذي أقفل أبوابه، و«بار هاروت»، والمقاهي الكثيرة التي لم تعد موجودة بدورها، وأكشاك بيع الصحف التي قلَّت حتى أوشكت على الاندثار، هناك شخصيات نعرفها إذ ترد أسماؤها الصريحة، وهي هنا لا تقتصر على الروائيين والشعراء والصحافيين، بل على شخصيات عاشت وماتت في الهامش، مثل «علي بلس»، المتشرِّد الشهير الذي عرفه طلاب وروَّاد الشارع الذي تقع فيه الجامعة الأميركية، وبقية شوارع رأس بيروت. كما إنَّ هناك شخصيات أخرى حوَّر الكاتب أسماءها تحويراً بسيطاً بقيت معه معروفة.

بين التوثيق والتخييل: رواية أم تأليف؟

نحن إذاً، بدرجة كبيرة، أمام كتابٍ مُوَلَّف، أكثر مما هو روايةٌ مؤلَّفة، وهو ما يعترف به الراوي نفسه في النهاية.

الشخصيتان اللتان يمكن أن نحكي عن تأليفٍ طالهما، أو لا يمكننا الجزم بأنَّهما مُسقطتان من الواقع إسقاطاً تامَّاً كغيرهما نظراً إلى خصوصيَّتَيْهما أو عدم عموميَّتَيهما، هما الشخصيتان الرئيسيتان: سمير عوَّاد، الصحافي الثقافي والمصور الهاوي للبيوت القديمة، وسارة عوَّاد التي درست التصميم الغرافيكي وعملت في الجريدة نفسها التي يعمل فيها سمير، وإن كان قد تعرَّف إليها وأُغرم بها قبل ذلك، خلال فترة دراستها الجامعية. تتنقَّل الرواية بين حياتَيْهما، وترصد مساراتها، والمدة التي التقيا فيها، قبل أن يفترقا ويتباعدا، ثم يعودان ويلتقيان من جديد.

بيروت في مرآة شخصياتها

«هاروت كان وجه المدينة، كان بيروت. علي بلس بيروت، كان يُشبه بيروت. سارة أيضاً تُشبه بيروت، كما المقهى يُشبه بيروت» يقول سمير، الذي يلعب دور الراوي في الرواية التي يكتبها، وقد أراد أن تكون عن بيروت فأصبحت عن ناسها، مشيراً بذلك إلى الارتباط العضوي بين المكان والبشر الذي يعيشون فيه. بشر تحوَّلوا إلى أنقاضٍ وهياكل مُفرَغة وخرائب مهجورة بدورهم.

سمير هجر عشيرته في قريته البعيدة وقرر بدء حياة جديدة في المدينة، لكنَّه لم يستطع ذلك لأنَّه لم يحقق الاندماج اللازم، فبقي ابن القرية التائه في المدينة، ولم يكتشف إلا متأخِّراً أنَّ «الحياة في المدينة تعترف بالجيب لا العقل»، وأنَّ «كتابة المقالات الذهنية لم تكن تختلف عن الجهد العضلي للعامل لناحية المكافأة التي يتقاضاها الكاتب». ورغم أنَّه متزوِّج، لا نلمح أثراً لزوجته في الرواية. وسارة لم تُحسن توجيه حياتها واختيار شريكها فيها. بعدما رفضت سمير وفضَّلت ملحم، اكتشفت أنَّ الأخير يخونها، فانفصلت عنه وأجهضت ابنه، ثم تزوَّجت ثانية من رجل لا تحبه ولا تجمعها به أي قواسم مشتركة، ما عمَّق وحدتها وإن منحها الاستقرار.

يبدو السرد في هذه الرواية أقرب إلى ثرثرةٍ في مقهى، تبلغنا ونحن جالسين فيه متداخلةً مع أصوات أخرى وضجيج. أمَّا في المواضع الدراماتيكيَّة، فيتحوَّل السرد إلى حديثٍ بين شاربَيْن في حانة، بنماذجه الجاهزة وشخصياته التقليدية ومآلاته المعروفة.

«أطلال رأس بيروت» روايةُ هذه المدينة؛ روايةُ بيروت لا روايةً عنها، يغلب فيها التوثيق على أيِّ شيءٍ آخر. أليست بيروت، ولبنان بمجمله، كذلك؟ أليس مدينةً مُشبعةً رصداً وتغطية إعلامية، بحيث قلما يحدث فيها شيءٌ يكون مفاجئاً أو غير مُمهَّدٍ له؟ بيروت مدينةٌ يُفترَض ألَّا تُفاجئنا، لكنَّها تظلُّ تفاجئنا دائماً.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى