محنة الذات في «البرتقالة والعقارب»
ما بين ورم في حجم برتقالة والعقارب تحوم حول الراوي- البطل يتحرك السرد في رواية «البرتقالة والعقارب» (الهيئة المصرية العامة للكتاب) للمصري طلعت شاهين، عبر 21 فصلاً، لكلٍ منها عنوان فرعي، وبعضها يصلح أن يكون قصصاً قصيرة. تنهض الرواية على جدل الحكايات الفرعية والحكاية الأم، فثمة خط رئيس للسرد يبدأ من الراوي- البطل في لحظة فارقة من حياته، تتبدد فيها الأشياء، ويتجادل الموت والحياة، لحظة ما بين الصحو والغفو، إفاقة منقوصة منفتحة على المجهول.
فالراوي مصاب بورم في الدماغ بحجم برتقالة، ما يتطلب خضوعه لجراحة عاجلة، بعد مكابدات، نتيجة تضارب تشخيص الحالة من طبيب إلى آخر. في النص أسماء واقعية مثل أحمد الشهاوي ومحمود الطويل ورفعت السيد وعادل السيوي، ما يسهم في مزيد من الإيهام بواقعية الحدث الروائي، في عمل يجدل بين التخييل والسيرة الذاتية، بحيويةِ كاتبٍ ينظر إلى العالم بتأمل، معتمداً على جماليات الصدق الفني.
تحوي الحكاية الرئيسية، التي تبدأ من الإفاقة، في المقطع الأول، وصولاً إلى الخروج من المستشفى الجامعي في مدريد؛ في المقطع الأخير، مجموعة من الحكايات الفرعية التي تتصل بها وتنفصل عنها في آن. ويتمثل الرابط الرئيس هنا في ذلك السارد الذي يقدم العالم من منظور عين الكاميرا التي تنقل ما يدور من وحهة نظر صاحبها.
ثمة عالم مدهش في تكوينه وتفاصيله، يقدمه الكاتب عن المشفى الجامعي للتأمين الصحي في مدريد، وقد حظيت محنة المرض بكتابات عدة في السردية المصرية والعربية بل والعالمية أيضاً، وربما ما يسم هذه التجربة أنها تتعاطى مع شخوص المشفى بوصفهم جزءاً مركزياً من جدارية المحنة الإنسانية في رواية تغوص في سيكولوجية بطلها الباحث عن عالم أفضل، والمشتبك مع الثورة رغم مرضه، والطامح إلى روح جديدة أكثر نبلاً وجمالاً وإنسانية.
في الرواية دالان مركزيان: البرتقالة- العقارب، ويمارس السارد لعباً تقنياً ودلالياً، فتتعدد الطاقة الإيحائية للدالين، ويسهم حضور الثاني بخاصة في تنمية المتخيّل، إذ يحيل إلى التاريخ السري لعلاقة المريض بالعقارب التي يخشاها منذ رآها في صغره ترتع في الأرض عقب الفيضان، فتظل صورتها تلازم مخيلته، كما يتواتر حضورها معه وهو في الضفة الأخرى للقناة، وهو على رمل سيناء خلال حرب 1973، ويراها على السرير تتقافز أمامه، وتدخل إليه من أي مكان، فيتذكر شقيقته التي لدغها عقرب وأنقذها من الموت تاجر أقمشة قبطي: «المدهش أنني أتذكر أن أبي حافِظُ كتاب الله، لم يعترض على دخول الخواجة بهيج بيتنا لعلاج شقيقتي، ولم يعترض على ذكر اسم مريم العذراء، بل إنه أمَّن على كلامه مؤكداً أن حروف الكتب المقدسة جميعاً فيها شفاء للناس إن وعوا وأدركوا جيداً، وبينما كان يقدم لشقيقتي الأوراق المكتوبة بأحرف قبطية لتبتلعها كان أبي يضع يده على رأسها ويتلو بصوت خفيض وبعينين مغمضتين بعض الآيات القرآنية» (ص47).
ووحدها الأريكة المرهقة في النوم التي كان يأمن فيها الراوي نسبياً، لتحيلك خيالات العقارب وهواجسها التي لا تنقطع إلى جملة نيتشه: «إن من سيحدق في الجحيم، فإن الجحيم سيحدق فيه أيضاً».
ثمة حكايات فرعية تنمو على نحو ضاف، مثل حكاية المريض الذي تغدر به ابنته ماريا خيسلوس، في تماس مع واقعة الغدر الشهيرة لبروتوس بالإمبراطور الروماني يوليوس قيصر، ليستطرد السارد بعدها في الإتيان بحكايات أخرى عن تلك الخسة اللانهائية، مثلما نرى في الحكاية الشعبية لأدهم الشرقاوي مع صديقه الذي وشى به لدى السلطة التي كانت تطلب رأسه: «يا خوفي مِنك يا بدران».
«مونولوغ خاثنتو»، هو عنوان فصل شديد العذوبة والأهمية على المستويين التقني والرؤيوي داخل النص، إذ يوظف شاهين تقنية المونولوغ، ثم الديالوغ بين «خاثنتو» والممرضة الشقراء، وبعدها يلتحم خطاب الأول بخطاب السارد: «بصِدق، عذابُ هذا الرجل يبدو أنه كان كبيراً، كل كلمة تخرج من فمه كانت مغموسة بعذاب حقيقي، ونظراً إلى اقتراب الفجر، وقبل أن تأتي تلك الباحثة عن ماريا؛ قررتُ ألا أنتظر لأستمع إلى المزيد من منولوغات خاثنتو، تحاملتُ على نفسي، وخرجتُ من سريري إلى الممر المؤدي إلى صالة انتظار الزوار، كان المناخ لطيفاً في تلك الساعات الأولى من الفجر، مع لسعة برد خفيفة تصاحب بزوغ الصباح في الأيام الأخيرة من شهر آب (أغسطس)، هناك أرحت جسدي على إحدى الأرائك الجلدية» (ص 109).
ثمة إشارات سياسية متناثرة يسائل فيها الراوي الاستبداد، عبر المواقف السردية وليس عبر الصخب الأيديولوجي، مثل الإشارة إلى شقيق الزوجة «ألفيرا»، وأبيها الذي اعتقله الجنرال فرانكو، أو الإشارات المتناثرة عن الثورة المصرية في كانون الثاني (يناير) 2011، أو انحيازات الراوي ضد حالة التأسلم، التي توظف الموت نفسه لمصلحة مآربها.
تبدو رواية «البرتقالة والعقارب» منفتحة على عالم واسع من الهموم والأحلام والخبرات الذاتية، مشغولة بالتماس مع تجربة إنسانية، ثرية بطبيعتها، لكنها لا تأخذ حيز التسجيل المحض، بل يتجادل فيها الفني مع الوقائعي في بنية متجانسة تقنياً ودلالياً.