مراسم تنصيب حسن روحاني ورسائلها السياسية (مصطفى اللباد)

 

مصطفى اللباد

تعد مراسم التنصيب لرؤساء الجمهورية احتفالاً سياسياً مهماً في إيران، وليست مجرد طقس احتفالي أو بروتوكولي بعد إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية. يملك مرشد الجمهورية أوسع الصلاحيات الدستورية في جمهورية إيران الإسلامية، بحيث تعد موافقته على نتائج الانتخابات التدشين الفعلي لولاية الرئيس الجديد، حسبما يقضي الدستور الإيراني. تعتبر مراسم التنصيب والكلمات التي تلقى خلالها، مؤشراً صادقاً على توازنات السياسة في إيران، ورؤية صناع القرار فيها لموقع بلادهم في المنطقة والعالم. تجري مراسم تنصيب الرئيس وفق ضوابط لها مغزاها، بحيث تعد كلمة مرشد الجمهورية بمثابة رسالة تكليف للرئيس الجديد، تشتمل على رؤية المرجع الأول للنظام حيال القضايا الداخلية والدولية التي تواجهها بلاده. وبدوره يلقي رئيس الجمهورية الجديد كلمة تتضمن الرسائل التي يتوخى إرسالها داخل إيران وخارجها، ما يجعل تحليل الخطاب لهذه المناسبة الهامة فرصة ثمينة لإلقاء الضوء على الأولويات الإيرانية في المرحلة المقبلة.

رمزية الصورة

ترتفع منصة عريضة أمام الحشد الضخم الذي يضم رموز وأركان النظام والسفراء الأجانب المعتمدين في إيران، أما خلفية المنصة فهي ستارة زرقاء في منتصفها صورة مؤسس الجمهورية الإمام الراحل الخميني. يفترش ستة رجال الأرض على الطراز الإيراني التقليدي، فيما يجلس مرشد الجمهورية على كرسي أعلى من الجميع، في منتصف الصورة تماماً وبالتحديد تحت صورة الخميني المثبتة في وسط الخلفية الزرقاء. على يسار المنصة ويمين المرشد يجلس الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد وبجواره آية الله أحمد جنتي رئيس مجلس صيانة الدستور، وصادق لاريجاني رئيس السلطة القضائية. وعلى يمين المنصة ويسار المشهد يتربع الرئيس الجديد حسن روحاني، وإلى جواره هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، وعلي لاريجاني رئيس البرلمان. تقع المنصة في مستوى أعلى من الجالسين في القاعة، بحيث تسمح للجميع برؤية ما يجري عليها، فيما يمتد بساط منقوش بزخارف فارسية من أقصى المنصة إلى أقصاها التي ثبت عندها علم الجمهورية الإسلامية.
تميز العين بين الحضور مرشحي الانتخابات الرئاسية، من أكمل منهم السباق إلى آخره مثل قاليباف وجليلي ورضائي وولايتي وغرضي، ومن خرج من السباق مبكراً مثل حداد عادل وعارف. استهل الكلمات مصطفى نجار وزير الداخلية، الذي أشرف على الانتخابات الرئاسية وقرأ نتيجتها النهائية، وتلاه محمد محمدي كلبايكاني مدير مكتب المرشد، الذي قرأ على الحضور قرار الأخير بتعيين حسن روحاني رئيساً سابعاً لإيران. ثم تسلم المرشد من الرئيس السابق مقاليد السلطة، فأعطاها بدوره إلى الرئيس الجديد الذي قبّل المرشد من كتفيه، وخطب في الحاضرين قبل أن يختتم المرشد بكلمته المراسم.

كلمة روحاني

افتتح الرئيس الجديد روحاني حديثه بتأكيد انتماءاته العقائدية وخضوعه التام للمرشد وللنظام، ولم تغب استعاراته بالعربية من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. واستهل روحاني كلمته بالتشديد على حاكمية الشعب الدينية «ولاية الفقيه»، بحيث أغلق الطريق من البداية على المراهنين برؤية مسافة ما تفصله عن القاعدة النظرية للنظام. أظهر روحاني افتخاره بالمشاركة الواسعة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي «تميزت بالدعم الجماهيري من قبل كل شرائح المجتمع والشعب الإيراني». بمعنى آخر، يريد روحاني القول إن انتصاره الانتخابي هو انتصار للنظام و«لولاية الفقيه»، ما يؤكد الولاء للنظام والمرشد. ويشير التكرار لمصطلحات الاعتدال والوسطية في خطاب روحاني، إلى رغبته في تحديد مكانه على خريطة إيران السياسية والفكرية في المنتصف وليس ضمن الإصلاحيين. ولئن أشاد روحاني قبيل نهاية كلمته، على نحو مقتضب وبلهجة تقريرية باردة، بالرئيس السابق محمود أحمدي نجاد والخدمات التي قدمها أعضاء حكومته، فلم تغب عن الملاحظة أن أحمدي نجاد كان محط توبيخ شديد في كلمة روحاني. انتقد روحاني السياسات التي «أوجدت مشاكل الفقر والفساد وتسببت في تردي الاقتصاد وعزلة إيران، بالرغم من وجود الكفاءات العالية في البلاد». وفي هذا السياق، تجلى بوضوح أن استعارة روحاني للحكمة المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «الصدق صلاح كل شيء والكذب فساد كل شيء»، كانت مصوّبة في هذا الاتجاه. وكان لافتاً بشدة أيضاً أن الرئيس الجديد لم يصافح الرئيس السابق أحمدي نجاد كما هو متبع في هذه المراسم، في إشارة لا تخطئ على الخروج التام للأخير من دوائر السلطة والقرار في إيران.

كلمة خامنئي

جاءت كلمة المرشد السيد علي خامنئي في نهاية المراسم باعتبارها الأهم، حيث شدد المرشد على أن «انتقال السلطة سلميا هي ظاهرة حميدة أرساها الإمام الخميني»، في إشارة إلى أن الاضطرابات التي شهدتها إيران في أعقاب انتخابات الرئاسة العام 2009 هي ظاهرة استثنائية لن تتكرر. وثمّن خامنئي «ولاية الفقيه» أو «حاكمية الشعب الدينية»، والتي اعتبرها الأفضل في تاريخ إيران منذ ثورة المشروطة العام 1905. وانتقل المرشد بسلاسة إلى «يوم القدس»، حيث استذكر مظلومية الفلسطينيين، والتي تعد أحد أركان مشروعية الدور الإقليمي الإيراني. وندد المرشد بسياسات دولة الاحتلال الإسرائيلي، ولكنه أبقى خطابه في حدود المظلومية الإنسانية للفلسطينيين تحت الاحتلال، وهو ما توضحه الفقرة التالية: «النظام الصهيوني يمارس منذ خمسة وستين عاماً الظلم والتعسف ضد أصحاب الأرض الأصليين في فلسطين، ويدمر منازلهم، ويقتل الطفل في حضن أبيه، ويودع الشباب في السجون بلا محاكمة، ويضغط على الفلسطينيين في معيشتهم، أليست هذه جرائم؟ ومن المؤسف أن بعض القوى تدعم هذه الجرائم». ويعود السبب في تلك الصياغة بالتحديد إلى استمرار إيران في التضامن مع الفلسطينيين باعتباره ركناً مهماً في مشروعيتها الإقليمية، ولكن من دون إطلاق كلمات مدوية رغبة في فتح الطريق أمام روحاني لتخفيف الحصار الدولي على إيران. الشيء ذاته ينطبق على سردية السيد خامنئي في رده غير المباشر على حزمة العقوبات الأميركية الجديدة المفروضة على إيران قبل يومين فقط من مراسم التنصيب حيث يقول: «جبهة الأعداء وعلى رأسها أميركا تمارس ضغوطا على إيران، وهذه الضغوط تتسبب في مشكلات للمواطنين، لكنّ لدينا دروساً قيمة من هذه الضغوط، وأهمها أن نبذل قصارى جهودنا لزيادة اقتدارنا الداخلي، ولا نعتمد على الخارج». لم يأت المرشد على ذكر الملف النووي المرتبط بهذه العقوبات، ولم يندد بها كما فعل سابقاً، وإن أظهر ثقته في قدرات بلاده على مواجهتها.
وشدد السيد خامنئي في نهاية خطابه على اتفاقه مع روحاني حول الوسطية وضرورتها باعتبار أن «طريق الوسطية هو طريق الإسلام»، في إشارة واضحة إلى تغليب مصطلح «الوسطية» على الخطاب الرسمي الإيراني في الفترة المقبلة، وما سيرتبط به من سياسات إقليمية ودولية. ويقول السيد خامنئي أيضاً: «أؤيد القضايا التي طرحها الرئيس الجديد، في التعامل بحكمة وعقلانية في السياسة الخارجية، وطبعا نحن لدينا أعداء لا ينفع معهم المنطق العقلاني، لكن نظرا للأهداف السامية للجمهورية الإسلامية، علينا أن نتابع هذه الأهداف بجدية». وفي نهاية كلمته شكر المرشد – عَرَضاً – أحمدي نجاد على «خدماته»، قبل أن يفرد مساحة كبيرة للإشادة بحسن روحاني، الذي وصفه بأنه «من الكوادر المخضرمة، وقد اجتاز اختبارات عديدة، سواء في حقبة الدفاع المقدس (الحرب العراقية – الإيرانية) أو مجلس الشورى الإسلامي، وقدم خدمات جليلة للثورة».

جوهر الخطاب الإيراني

يقود تقليب النظر في مراسم التنصيب وكلمات الرئيس والمرشد إلى وجود خمسة عناصر أساسية توخى الخطاب إرسالها إلى المهتمين داخل إيران وخارجها، عبر الكلمات المنمقة والعبارات الموزونة والمحلاة باقتباسات إسلامية شيعية خالصة. أولاً الجمهورية الإسلامية هي الأفضل في تاريخ إيران مقارنة بغيرها من الأنظمة السابقة، وهي راسخة ولها شرعيتها الجماهيرية التي تدل عليها نتائج الانتخابات الرئاسية النزيهة. ثانياً، تعود المميزات التي تتمتع بها إيران إلى أفكار المؤسس الخميني وقيادة المرشد الخامنئي، أما المشكلات الاقتصادية والعزلة الدولية فسببها سياسات أحمدي نجاد. ثالثاً، تطابق وجهات النظر بين المرشد والرئيس الجديد، وهو ما ظهر من خضوع روحاني يقابله تأييد وعطف من خامنئي، وتغليب لشعارات الاعتدال والوسطية على عناوين المواجهة والاستشهاد. رابعاً، القدرات الإيرانية الذاتية ستتغلب على العقوبات الاقتصادية. خامساً، يؤيد المرشد الانفتاح في السياسة الخارجية حتى مع شكوكه في نيات «الطرف الآخر غير العقلاني»، وذلك ليس استجابة للضغوط التي تتعرض لها بلاده، وإنما «للأهداف السامية التي تنتهجها إيران». في هذا السياق تظل قضية فلسطين ركناً لمشروعية النظام الإقليمية، ولكن مع إبقاء خطاب التعبير عن ذلك التضامن في مستوى لا يتصادم مع الرغبة الإيرانية بالانفتاح على العالم.
أرسلت إيران رسائلها، ويبقى على «الطرف الآخر» أن يحسم أمره في الإجابة عليها.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى