أنسام صيفية

مساء خليل مطران

مع هذا العام يكون قد مرّ سبعون عاما على وفاة شاعر القطرين – كما يلقب-“خليل مطران” و يقصدون لبنان و هو القطر الذي ينتمي إليه هذا الشاعر، ومصر القطر الذي عاش فيه طويلا و مات فيه .أذكرفي هذه المناسبة نقاشا جر بين عدد من المثقفين انتقل إلى الصحف حول هذا الموضوع ” ماذا تبق من خليل مطران” و هو المعروف بديوانه الضخم  ونزعته إلى التجديد فإذا بأحد المشاركين في النقاش يطرح هذا السؤال :

من منكم يتذكر قصيدة له يحفظها و يرويها أو على الأقل بضعة أبيات منها؟…أذكر أن صمتا شاملا حبس ألسنة الجميع و ساد الوجوم بيننا لدقائق سألت نفسي كما أذكر مستغربا أمن المعقول أن أحدا منا لا تحتفظ ذاكرته بشيء ما من شعر ذلك الشاعر المشهور … كنت مترددا حين راودتني ذكرى قصيدة مشهورة جدا لخليل مطران عنوانها ” المساء ” إذ لم  أتذكر فورا أبياتها مع أنني من المعجبين بها جدا و الذين يحفظون غيبا مقطعا كبيرا منها . كنت أتذكر بصعوبة إلى أن استجابت  لي ذاكرتي فرويت بعض الأبيات فإذا بنا جميعا تعود إلينا ذاكرتنا ببعض أدبيات هذه القصيدة التي يعتبرونها كثير من النقاد أنها أجمل  إبداعات خليل مطران التي أبدعها حين كان مريضا في الإسكندرية و عاشقا  مهجورا في الوقت نفسه و نجح مطران بمهارة في تناول موضوعه مازجا بين  منظر الطبيعة في تلك اللحظات و بين ما كان يعتمل في نفسه من مشاعر الإنسان المريض و الوحيد على شاطئ البحر يراقب غروب الشمس فيقول :

وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالنَّهَارُ مُوَدِّعٌ                                          وَالقَلْبُ بَيْنَ مَهَابَةٍ وَرَجَاءِ

وَخَوَاطِرِي تَبْدُو تُجَاهَ نَوَاظِرِي                                      كَلْمَى كَدَامِيَةِ السَّحَابِ إزَائي

وَالدَّمْعُ مِنْ جَفْني يَسِيلُ مُشَعْشَعَاً                           بسَنَى الشُّعَاعِ الغَارِبِ المُتَرَائي

وَالشَّمْسُ في شَفَقٍ يَسِيلُ نُضَارُهُ                            فَوْقَ العَقِيقِ عَلَى ذُرَىً سَوْدَاءِ

مَرَّتْ خِلاَلَ غَمَامَتَيْنِ تَحَدُّرَاً                                       وَتَقَطَّرَتْ كَالدَّمْعَةِ الحَمْرَاءِ

فَكَأَنَّ آخِرُ دَمْعَةٍ لِلْكَوْن ِ قَدْ                                       مُزِجَتْ بآخِرِ أَدْمُعِي لرِثَائي

وَكَأَنَّني آنَسْتُ يَوْمِي زَائِلاً                                      فَرَأَيْتُ في المِرْآةِ كَيْفَ مَسَائي

 الطريف في الأمر أننا لم نتذكر و قتئذ من كل شعر مطران سوى قصيدة واحدة غير أننا نلبث أن تذكرنا قصيدته ” مقتل بزرجمهر” والتي يختمها بهذا البيت الطريف :

ما كانت الحسناء ترفع سترها                           لو ان في هذي الجموع رجالا

وقصائد أخرى هامة و الأطرف في تلك الجلسة أن ذاكرتنا جميعا لم تفتح إلا بعد  مرورها بقصيدة “المساء”حتى  لقد قال أحدنا معلقا:

– الغريب أننا لم نتذكر سوى أبيات قصيدة خليل مطران “المساء” و أن جميعنا لم نتذكر جيدا سوى تلك القصيدة…فلماذا هذه القصيدة بالذات هي وحدها التي بقي منها في ذاكرتنا مقطع طويل كامل في فكرته الأساسية أي المزج بين منظر الغروب و مرض الشاعر وذكرياته المريرة عن عشقه الخائب .

استمر النقاش بيننا طويلا وممتعا كما أذكر حتى لقد عدنا إلى قصائد أخرى مشابهة لشعراء  عرب و أجانب مثل قصيدة ” الحمى” للمتنبي التي كانت فريدة  وحدها في موضوعها الرومانسي تقريبا وقصيدة ” البحيرة ” للشاعر الفرنسي ” لامارتين” و غيرها و لعل خير ما توصلنا إليه في ختام تلك الجلسة أن الأمتياز الأساسي في تلك القصائد أن الشعر الذي يستلهم أوجاع ” الذات” أو ” أفراحها ” ممتزجة في موضوعها بموضوع آخر هام لا علاقة له بذات الشاعر كوصف الطبيعة في إحدى حالاتها المشابهة للموضوع ” الذاتي ” … و كأن سر جمال قصيدة المساء على قصائد خليل مطران  الأخرى أنها نجحت في التوفيق و المزج بين موضوعين يرجعان لمصدرين مستقلين الواحد عن الاخر و أن براعة الشاعر هي التي اكتشفت  نوعا  من التماثل والتشابه بين هذين الموضوعين أحدهما الذات دوما والثاني من خارج الذات … كأن تتحدث عن الموت مقترنا بالحياة و عن الجمال مهانا بالبشاعة و عن غروب الشمس بضعف الشاعر النفسي أو الجسدي وإحساسه بإقتراب وفاته …الخ… هذا هو الشعر الجدير حقا أن يسمى شعرا …

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى