فن و ثقافة

مسلسل مع وقف التنفيذ : الرواية التلفزيونية الآسرة (نهاية فيلم عربي) !

مسلسل مع وقف التنفيذ : الرواية التلفزيونية الآسرة (نهاية فيلم عربي) !..أنا لا أصدق أبداً أن كاتبين متمكنين من سرد الأحداث الدرامية وبناء الشخصيات وملاحقة تطورها والبحث عن دواخلها وعلاقاتها مع المحيط، وفكفكة جدائل الحكايات، وغير ذلك من أدوات الكتابة الدرامية، لا أصدق أبدا كيف يصلان إلى نهاية على هذا النحو من (الرخاوة) وقلة الحيل..

في رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ كثفت النهاية تفاصيل عمل عظيم لأنها لم تذهب إلى حيث يذهب الكتاب العاديون، وكذلك كل نهايات الروايات العظيمة، ولأنني أعتقد أن (يامن حجلي وعلي وجيه ) ليسا كاتبين عاديين شعرت أن من الضروري أن أعاتب، وإلا ما فائدة النقد عندما لا يعيد قراءة المقدمات والنتائج على النحو الذي يتطلبه .

ومع ذلك ، كسر مسلسل (مع وقف التنفيذ) للمخرج سيف الدين سبيعي النمطية السائدة في الكتابة الدرامية التي كانت تشتغل وفق خيارين، إما أن تفضح الفساد ببناء فضائحي وتترك الواقع الاجتماعي وكأن هذا الواقع معزول عنه، أو تذهب إلى الواقع الاجتماعي ولاتصل إلى ربطه بما حوله من أسباب بنيوية.

وعندما شرعت في مشاهدة المسلسل، عرفت أن يامن وعلي سيقدمان عملاً فذاَ، لأن مجرد الدخول إلى عوالم وخفايا القاع الاجتماعي وفكفكته سيكون بوابة للتميز وسط حشد من الأعمال الدرامية يدفع بعضها إلى الغثيان!

هو عمل درامي فذ بالفعل لأنه بدأ المأساة الكبرى بمحاولة إنسان ( كان يحلم بحياة سعيدة مع زوجة يحبها وأطفال يذهبون إلى المدارس ويكبرون ويحبون كبقية خلق الله ) بدأ بمحاولته النجاة  بأسرته من حريق الحرب في الحي الذي يسكن فيه ، فإذا برصاص قناص حقود يقتل زوجته وابنه ، وعندما يدفنهما يكتشف أنه دفن الطفل الحي، أي أنه فقد جميع أفراد أسرته دفعة واحدة، فإذا هو أمام مواجهة القدر القادم وحيداً. فيقوم بدفن أسرته ويبدأ في رحلة البحث عن القناص، ومن خلال هذا المحور ينسج النص على بقية تفاصيل البنيان الاجتماعي والاقتصادي ويكشفها ويعريها.

رحلة البحث عن القناص تكشف لنا عوالم أخرى وشخصيات جديدة وحكايات ينبض بها المجتمع وأسرار ينبغي أن تسلط الدراما الضوء عليها ، أي أن المفتاح الدرامي الأول نجح بداية في فك مغاليق الباب الكبير للمجتمع الذي تنهشه الحرب ..

ينكشف الواقع أمامنا، بما هو (واقع الحرب السورية)، وفي جوهرها تتسع المأساة الفردية لتصبح مأساة جماعية، ومع الزمن تتحول المأساة الجماعية إلى قضية إنسانية كبرى هي واحدة من أكبر مآسي القرن الجديد.

في تفاصيل المأساة الإنسانية لهذا الشعب ينبغي أن نتعرف عليه (عبر النموذج الذي تعرضه القصة) في زمنين واضحين في حي العطارين (قبل الخروج وبعد الخروج) وهي لعبة درامية متقنة في النص والإحراج، وليس هناك من حاجة للتفصيل بها من حيث المعطيات لأن كثيرين توقفوا عندها في الحوار بين الناس وفي الحوار على وسائل التواصل وفي بعض الكتابات المنشورة. لكن من الضروري التنويه إلى أهمية ربط الأحداث بالشخصيات بالأمكنة، فالشخصيات وهي تنبض بالأحاسيس وتنتمي إلى بيئتها، بغض النظر عن المساحة التي شغلتها، أعطت مساحة للممثلين لكي يبدعوا فيصبحوا أبطالاً في عمل كبير، والاشتغال على كيان كل شخصية وعوالمها منح الفرصة للممثل والمخرج والتصوير والإضاءة والمؤثرات لتقدم ما عندها بتفوق.

يتميز (مع وقف التنفيذ) بشخصيات نموذجية ، قادرة على أن تكشف السر، فإذا نحن أمام سيل منها فأتخم النص بها وصار قوياً، وهي عملية صعبة وتحتاج إلى خبرة وثقافة في عملية الكتابة، فالناس ليسوا سواسية كأسنان المشط في ميزان الدراما، هناك الأصيل وهناك الانتهازي، وهناك القاتل ، وهناك السياسي، وهناك التاجر، وهناك العميل ، ثم هناك الدولة بما لها وبما عليها، أقول هذا لأن أي نص يتبنى فكرة الحديث عن مأساة كبرى ينبغي أن يعرف أن الحياة مرهونة بتداخل مجتمعي معقد يذهب باتجاهات : الديني، والسياسي، والاقتصادي، والفكري، والجنسي، والعاطفي، والعصابي .. وقد قدم الكاتبان كل هذه التفاصيل بعين بحثية ناقدة قادرة على النفاذ إلى التفاصيل بما هي (معنى) لكل جزئية تصب في نهاية الأمر بصيرورة الأحداث ومعطياتها.

قدم المسلسل هذه الصورة من خلال (مكان) كما أشرت، ومن خلال شبكة علاقات وتفاصيل بين هذا المكان وبين (عائلة هاشم) و(عائلة الشيخ) و(عائلة الشيوعي)، ثم بين (الأجهزة) ، و(عوالم الفساد). والأهم هنا أن الشخصيات ليست معلبة، فهي تقدم نفسها ومبرراتها ولا يحجب الكاتبان عنها حقها في التعبير عن مداخلها وظروفها بل يتركها لتحكي ماعندها، لكنه يقهرها بنهاية قسرية لاتؤكد نهاية العوارض التي كانت (قبل) ، وأصبحت (بعد)!

لكن هنا ، علينا أن ننتبه ، أو نعترف بأن العبء كان كبيراَ على المخرج (الماهر) سيف الدين سبيعي وحمله بأمانة، لأنه كان  بحاجة إلى مجموعة كبيرة من النجوم لتحمل مسؤولية تقديم حركة الشخصيات وأدائها في واقع صعب أمام الكاميرا، لذلك لم يكن نجاحه في الصورة فقط، بل في انتقاء الممثلين الذين أدهشونا بكل معنى الكلمة وشكلوا هارموني كامل يقوده المخرج وفق نوتة صاغها كاتبان .

انتقى عباس النوري وغسان مسعود وسلاف فواخرجي وفايز قزق وصفاء سلطان و نادين خوري وصباح الجزائري وشكران مرتجى وفادي صبيح وبشار إسماعيل، فحملوا وقائع المسلسل كجسد رئيسي بمهاراتهم المعهودة التي أضافت لهم نجاحات جديدة في فن التمثيل.

ومع أن هؤلاء معروفون بتمكنهم من لعب الأدوار على النحو الذي تتطلبه الرواية التلفزيونية، فإن الحاجة الأكبر هي إلى ممثلين من نوع آخر عليهم أن ينافسوا النجوم لتكتمل الصورة، فليس هناك (أي في واقع الحرب) شخصيات سهلة ليس لها عوالم داخلية ولا تملك ملامح صعبة، وعلى ذلك لا يمكن لأحد إلا أن يثني على الأداء الساحر لمن لعب تلك الشخصيات ومن بينهم يامن حجلي وحلا رجب وزهير عبد الكريم ويزن خليل وجلال شموط ومحمد قنوع ووائل زيدان، وخلال هذا الحشد من الممثلين نتعرف على أداء يستدعي إعجابنا  ..

ثم استكمل المخرج الصورة بممثلين قدموا أنفسهم بكفاءة عالية تؤهلهم إلى نجومية قادمة كريام كفارنة وسهير صالح ومصطفى المصطفى ومحسن غازي ومريم علي ورولان زكريا وسارة بركة وحسن دوبا .

ما الذي يميز هذا النوع من الروايات التلفزيونية ؟

مايميزه هو أنه يبني على رؤيا كاملة للحرب، تبتعد عن التلفيق والبروباغندة، وتعمل وفق منهج كتابة روائي وتلفزيوني معا، وثمة ملاحظة ينبغي تأكيدها وهي أنه من دون رؤيا لا يستطيع المنجز الروائي والتلفزيوني أن يقدم وجهة نظر.

وهنا لا يذهب المسلسل/ النص إلى  حيث تذهب الدراما الأخرى ، إلى الفساد بمعزل عن (الناس) و (الدولة) ، أو إلى الناس بمعزل عن (الفساد) و(الدولة)، أو إلى الدولة بمعزل عن العنصرين الآخرين . بل قام بعملية تشريح بنيوي بمهارة ، وكشف كل طرف بما له وما عليه ، ثم ترك الحالة السريرية أمامنا من دون علاج فهذه المهمة ليست مهمته ، وهذا ضروري في العمل الفني ، لأن أجمل مايميز الفن هو عملية الانعكاس التي يقدمها للواقع دون أن يقدم وصفات جاهزة .

ما يميزه أنه جعلنا نرى الواقع من خلال الحجم الكبير لمعاناة الشعب والضحايا على قاعدة (قبل) و(بعد)، وهذا الربط يجعلنا نعرف الأسباب والنتائج ، وفي القصة المرضية تقدم هاتان المحطتان الزمنيتان فائدة كبرى ، ويصبح من السهل على الطبيب أن يكتشف العلاج الضروري.

ومسلسل مع وقف التنفيذ لا يغفل الفساد، بل يكشفه ويلاحقه، لكنه لايهمل أبدا مصائر العوالم المطحونة بقعقعة الحرب، يربطها تلقائيا بمكانها وزمانها وشخوصها وعلاقات هذه الشخوص بالحرب، وعندها لابد أن تكتمل الصورة، ونعرف أين يكمن الخطأ وكيف يمكن أن نصل إلى الصواب، وهي هنا من أدوار الفن والأدب في المجتمع.

لكن لايمكن القبول أبدا بنهاية تضرب كل هذا البنيان المدروس، وكأنها، أي النهاية، تقدم مهدئاً اجتماعياً للتفاعل الذي أضرمه المسلسل في نفوس المشاهدين، فإذا بصاحب المأساة يسحب القناص بالحبل فيقوم الناس، حتى الفاسدين منهم، برميه بالأحذية ثم يتزوج (نهاية سعيدة)، وتتوب المغنية (نهاية مفاجئة) ، ويقوم السيد هاشم (بعملية تجحيش) ليعيد زوجته (نهاية سعيدة)، ويلقى القبض على الفاسدين (نهاية سعيدة) .. إلخ .

عندما نرى كل تفاصيل النهايات السعيدة ، نكون تلقائيا أمام نتيجة عرجاء لأن المقدمات لا تؤدي إلى هذه النتائج، فالمسلسل قدّم لنا الواقع أعقد بكثير من أن تحل مشاكله بهذه الطريقة !

 وحي العطارين القريب من المدينة ، كمكان ، يفتح على احتمالية أن يكون  نموذجاً لأحياء أخرى في حلب وحمص وحماه والحسكة ودرعا ، وهو جوهر النموذج الروائي عندما يسعى لأن يكون مميزاَ وباهراً.

يتميز (مع وقف التنفيذ ) بالمكان المفتوح على كل الأماكن ، ويتميز أيضا بالدوامة التي لا تنتهي في كشف المستور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والديني، وهذه الجديلة من العلاقات لم يكن من الصحيح أبدا الوصول إلى نهاية مسكنة تشير أو توحي إلى أن المأساة انتهت!

إذن ، ثمة صناعة متقنة لعمل درامي كبير، يمكن القول ببساطة إنه أفضل العروض قربا من الطموح الذي يريده الفن ويريده النقد، وإذا كانت النهاية هي نوع من الحل لمسألة إمكانية العرض، فإن في هذه النهاية مهارة في (التلفيق)، ليست الجهات الرقابية بحاجة إليها، وكان يمكن أن ترتقي النهاية إلى مستوى النص، فتعلن ببساطة أن الملفات كلها غدت في يد الدولة التي ينبغي أن تقود المسار الصحيح، وتسدل الستارة على وجه محقق أمين يضع الملفات أمامه، ونحن نقرأ تفاصيل الشارة الأخيرة .

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى